ربما كان السؤال الأكثر إلحاحًا بعد ثورة 25 يناير في مصر ما هو النموذج الذي ستختاره مصر للجمهوريَّة الجديدة؟ إذ إن العقود الستة الماضية لم تكن إلا انعكاسًا لحكم الفرد ورغبته في غياب تام للمؤسسات الدستوريَّة الحاكمة التي لم تكن إلا ظلًّا باهتًا للحاكم "الإله" الذي لا يُرد له رأي ولا يناقَش له قرار. وربما كان النموذج التركي هو الأكثر بروزًا في الواجهة، والذي يرشحه كثيرون للاستعارة والتطبيق على الحالة المصريَّة لأسباب سنوضحها لاحقًا، ولكن قبل ذلك لا بدَّ من إطلالة على الخريطة السياسيَّة في مصر حاليًا. * خريطة مصر السياسية والاجتماعيَّة استطاعت ثورة 25 يناير أن تعيد تشكيل الحياة السياسيَّة المصريَّة من جديد بما أخرجها من حالة التماهي المطلق في شخص الحاكم "الإله" إلى النزوع لتأسيس مؤسَّسات حاكمة وإيجاد قوى سياسيَّة واجتماعيَّة ضاغطة، ورغم أن الجمهوريَّة الجديدة لم تؤسس فعليًّا حتى الآن انتظارًا للانتخابات القادمة ووضع دستور جديد للبلاد، إلا أن الملامح يمكننا تبينها في المؤسَّسات والجماعات التالية: أولا: المؤسَّسة العسكريَّة فالمؤسسة العسكريَّة اكتسبت احترام وتقدير الشعب المصري بما سجَّلَته من موقف رائع من ثورة الشعب المصري في 25 يناير؛ إذ حسمت المؤسَّسة العسكرية أمرها منذ اللحظات الأولى للثورة واختارت الانحياز للشعب المصري على حساب قائدها الأعلى وأحد أبرز رموزها في حرب أكتوبر 73، ورغم الضغوط التي تتعرَّض لها المؤسَّسة العسكريَّة لإجهاض الحلم الديمقراطي بواسطة الحلف العلماني – القبطي خوفًا من لحظة المكاشفة الحقيقيَّة عبر المطالبة بتشكيل مجلس رئاسي مدني وتأجيل الانتخابات أو انتقال الحكم بطريقة رسميَّة للمؤسَّسة العسكريَّة بما يمثل في مجمله التفافًا على نتائج الاستفتاء الأخيرة والتي سجلت تفوقًا ملحوظًا بنسبة 77% لصالح حزمة من القرارات والإجراءات، إلا أن المجلس العسكري ما زال مصرًّا على إجراء الانتخابات البرلمانيَّة والرئاسيَّة في موعدها المحدد، والذي تَمَّ الاستفتاء عليه ويرفض وبشدة أي التفاف على إرادة الشعب المصري وسارع إلى إصدار قانون مباشرة الحياة السياسيَّة والذي ألغى إشراف وزارة الداخليَّة على العملية الانتخابيَّة ووضعها برمتها في يدِ القضاء المصري، هذه الإجراءات جعلت المؤسسة العسكريَّة تتبوَّأ مكانتها لدى الشعب المصري كحارسة أمينة على ثورته ومكتسباتها، مما أعطى انطباعًا لدى الشعب المصري بأهمية استمرار هذا الدور الحارس حتى بعد الانتخابات البرلمانيَّة والرئاسيَّة وتسليم البلاد لسلطة مدنيَّة منتخبة. ثانيًا : الحركة الإسلاميَّة وهى الحركة الأضخم في مصر والتي تمتلك حضورًا قويًّا وفعالًا في الشارع المصري جعلها مرشحة وبشدة لحصد العدد الأكبر من كراسي البرلمان القادم، ورغم إعلانها عدم تقديم أي مرشح لكرسي الرئاسة إلا أن جميع المرشحين للرئاسة يعلمون أن الحركة الإسلاميَّة رقم مهم في الانتخابات الرئاسيَّة، ولا يمكن تجاهلها، ومن هنا فإن دورها سيكون مؤثرًا في الانتخابات الرئاسيَّة القادمة، ولكن وبالرغم من كل هذا فإن الحركة الإسلاميَّة المصريَّة ما زالت تعاني من إشكاليات كبرى على مستوى العمل المشترك والتحرك نحو إيجاد مؤسسات إعلامية ضخمة تستطيع مجابهة الحملة الإعلاميَّة الشرسة التي تستهدف الحركة والتي يشترك فيها الإعلام الخاص والحكومي على حد سواء، والذي اتّخذ من السلفيين فزاعةً جديدة بديلًا عن الإخوان المسلمين، كما أن غياب التفكير الاستراتيجي أدى ببعض المجموعات المنتمية للفكر السلفي إلى التورُّط في بعض المشاكسات ذات الطابع الطائفي على خلفيَّة المحتجزات في الأديرة والكنائس نتيجة إسلامهن. ثالثًا : النخَب العلمانيَّة والتي تكاد تتفرَّد في أطروحاتها بين نظيرتها في دول العالم، ففي الوقت الذي تملأ فيه الدنيا صراخًا عن الحريات والديمقراطيَّة المعرَّضة للاغتيال حال وصول الإسلاميين للسلطة فإنها لا تتورَّع عن الدعوة صراحةً إلى هدم العرس الديمقراطي وإجهاض الحلم الذي يداعب المصريين في صحوهم ونومهم، فالنخب العلمانيَّة باتت تدعو صراحةً إلى تأجيل الانتخابات القادمة لسنة أو سنتين بحجة عدم جهوزيَّة القوى السياسيَّة الناشئة وأن القوى المستعدة للانتخابات اليوم هي القوى الإسلاميَّة فقط؛ ففي حواره مع جريدة الأهرام 15/5/2011 يقول هيكل: "وأنا شخصيًّا لا أجد حرَجًا -وبحكم منطق الأشياء وحقائقها وتقديرًا لما قام به المشير طنطاوي مباشرةً في أزمة الانتقال- في تسميته رئيسًا للدولة في هذه المرحلة الانتقاليَّة, إذا رأى أن تكون رئاسة الدولة لمجلس رئاسي فليس من الصعب العثور على عضوين فيه إلى جانب المشير طنطاوي مع استمرار مسئوليته عن وزارة الدفاع وعن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والذي يمكن أن يتحوَّل إلى مجلس أعلى للأمن الوطني, وإذا كان بجوار رئاسة الدولة نوع من مجلس أمناء الدولة والدستور على نحو ما أشرت إليه, يشارك في التحضير لانتخابات جمعية تأسيسيَّة, تطرح دستورًا جديدًا, فهذه ضمانة كبري لسلامة وشرعيَّة فترة الانتقال ذاتها" وخطورة ما يقوله هيكل هنا أنه افتئات على حق الشعب الذي خرج وصوَّت لصالح حزمة من الإجراءات، ولكن هيكل (وحديثه هنا معبِّر عن النخب العلمانيَّة) يهدر الإرادة الشعبيَّة ولا يقيم لها وزنًا في تعالٍ غريب وعجيب على إرادة الأغلبيَّة، وهذا يعطي إشارات سيئة على التعامل المستقبلي من جانب النخب العلمانيَّة مع صناديق الاقتراع إذا خالفت نتائجها أفكارها، فالنخب العلمانيَّة تعيش مأزقًا حقيقيًّا قبل الاستحقاق الانتخابي نتيجة ضعف الرصيد الشعبي والذي تحاول تعويضه الآن بالتحريض على إجهاض الحلم الديمقراطي. رابعًا : المؤسَّسة الدينيَّة الرسميَّة فالأزهر الشريف استطاع أن يستردَّ بعض مكانته بعد الثورة وتابع الجميع تقاطر القوى الإسلاميَّة والثقافيَّة والقبطيَّة للقاء شيخ الأزهر د. أحمد الطيب والذي بدا للجميع أنه مصمم على استعادة الدور الريادي للأزهر بعد الانتكاسات التي تعرَّض لها، خاصة في عهد سلفه الراحل د. محمد سيد طنطاوي .. لذا فإن الاشتباك الحالي بين مؤسَّسة الأزهر وبين التحديات التي تواجه مصر سواء على صعيد الملف الطائفي أو الملف السياسي ستنعكس إيجابيًّا على مكانة الأزهر في المجتمع وتأثيره على مجريات الأحداث، كما أنه سيكون ظهيرًا قويًّا للإسلام وقضاياه في مواجهة الحملة التغريبيَّة الشرسة التي تريد تحجيم الإسلام ومحاصرته. هذه الخريطة السياسيَّة والاجتماعيَّة هل تسمح باستلهام النموذج التركي الحالي واستنساخه للتطبيق في البيئة المصريَّة؟ لعلَّ الإجابة على هذا التساؤل تدفعنا للبحث عن الأسباب التي أدت لترشيح النموذج التركي للتكرار في الجمهورية المصريَّة القادمة والتي يمكن حصرها في الآتي: 1. الإبهار الذي حقَّقه حزب العدالة والتنمية في مدة سنوات حكمه في المجال الاقتصادي، والذي تمكَّن خلالها من تحقيق معدلات نمو غير مسبوقة وضعت تركيا في مصافِ الدول الأكثر نموًّا في العالم، كما أن الحزب استطاع تحقيق أداء سياسي متميز في بيئة سياسيَّة شديدة العداء للمشروع الإسلامي، هذا الإبهار جذب الحركة الإسلاميَّة في مصر وخاصة حركة الإخوان المسلمين إلى محاولة تكراره. 2. تطلع النخب العلمانيَّة إلى محاولة احتواء الخطاب السياسي في إطار علماني على النسق الذي يتحرَّك من خلاله حزب العدالة والتنمية التركي الذي قدَّم صورة متصالحة مع الواقع العلماني تراها النخب العلمانيَّة في مصر صورة مقبولة في ظل تخوفها مما تطلق عليه "الأصوليَّة الإسلاميَّة". 3. تطلع العديد من النخب العلمانيَّة إلى إيجاد صورة المؤسَّسة الحارسة للقيم العلمانية على نسق المؤسَّسة العسكريَّة التركيَّة، لذا فالبعض يطالب صراحةً إلى تضمين الدستور الجديد نصوصًا تسمح للمؤسَّسة العسكريَّة المصريَّة بالتدخل للحفاظ على الدولة المدنيَّة "العلمانيَّة". 4. الثقل السياسي والحضاري الذي تمثله الدولتان، والذي يمكِّنهما من لعب أدوار محورية وهامة على صعيد منطقة الشرق الأوسط أو على صعيد العالم الإسلامي. ومن هنا فإن الأخذ بالنموذج التركي دون رد عليه العديد من المآخذ، كما أن رفض النموذج التركي بالكلية يحرم الحياة السياسيَّة المصريَّة من نموذج خصب ومفعم بالدروس الجيدة. فالتجربة الأصولية العلمانيَّة التركيَّة غير موجودة في البيئة المصريَّة رغم الجهود الحثيثة التي بُذلت على مدار أكثر من قرن لعلمنة الحياة الاجتماعيَّة المصريَّة، ولكنها فشلت على حساب نجاح العلمنة السياسيَّة والاقتصاديَّة، لذا فبينما يلهث حزب العدالة في تركيا من أجل إقرار الحجاب في مؤسسات التعليم والدولة المصريَّة نجد أن هذه القضايا تجاوزتها التجربة المصريَّة بمراحل، كما أن البيئة الاجتماعيَّة المصريَّة لم تتقبل فكرة العلمانيَّة وقاومتها بشراسة لحساب منظومة القيم والأخلاق الإسلاميَّة التي قد تشهد ضعفًا في فترات، ولكنها لا تنسحب من الحياة بما يسمح لظهور قضايا أخلاقيَّة بعيدة كل البعد عن القيم والأخلاق الإسلاميَّة كقضايا "المثليَّة" و"العلاقات الجنسيَّة خارج إطار الزواج" .. إلخ. ومن ناحية أخرى فإن الحركة الإسلاميَّة المصريَّة تحتاج إلى الخبرة السياسيَّة لمثيلتها التركيَّة خاصَّة وأن الحركة في مصر ما زالت تخطو خطواتها الأولى في الممارسة السياسيَّة بعيدًا عن ضغوط الدولة البوليسيَّة، فالممارسة السياسيَّة لحزب العدالة تعتبر نموذجًا يُحتذى خاصة في ظل الأرضية المشتركة مع الحركة في مصر، كما أن النموذج التركي استطاع أن يفصل بين الكيانات الدعويَّة التربوية وبين الحزب السياسي الإسلامي، وهو الأمر الذي تحتاجه التجربة المصرية حتى تتحرر الأحزاب السياسيَّة ذات المرجعيَّة الإسلاميَّة من ضغوط "الجماعة" و"التنظيم" والتي ستعوق –حال حدوثها– الأداء السياسي وتحجزه عن مناطق الإبداع والابتكار. أيضًا يجب علينا أن نتذكر أن المؤسَّسة العسكريَّة المصريَّة تختلف وبشدة في عقيدتها العسكريَّة عن نظيرتها التركيَّة، فإذا كانت الأخيرة قد أسَّست عقيدتها على حماية "العلمانية الأصوليَّة" التي خطَّها مصطفى كمال أتاتورك، فإن المؤسَّسة العسكريَّة المصريَّة قد أسست عقيدتها العسكريَّة على حماية الشعب المصري والانحياز لهويته الحضاريَّة، وقد ظهر ذلك جليًّا في الإعلان الدستوري الذي أعلنه المجلس العسكري عقب الاستفتاء الأخير، والذي حافظ فيه على المادة الثانية من الدستور والتي تنصُّ على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربيَّة لغتها الرسمية ومبادئ التشريع الإسلامي المصدر الرئيسي للتشريع، بل واعتبرها المجلس العسكري في إعلانه من المبادئ فوق الدستوريَّة التي تحدِّد هويَّة البلاد ومن ثم لا يجوز العَبَث بها. ومن هنا فإن الحركة الإسلاميَّة المصريَّة وإن كانت تتحرك في بيئة غير ضاغطة كالبيئة التركيَّة، فإن عليها أن تدرك أنه ما زال أمامها الكثير كي تدرك الأداء السياسي الرشيق لحزب العدالة والتنمية، بل والإسهامات الفكريَّة والتربويَّة المتميزة للحركة الإسلاميَّة التركيَّة. المصدر: الاسلام اليوم