منذ عامين عندما اعلن الزميل جلال عارف نقيب الصحفيين أمام الجماعة الصحفية وبحضور رجل النظام القوي صفوت الشريف ، أن الرئيس مبارك اتصل به صباح يوم انعقاد المؤتمر العام للصحفيين ، وبشره بموافقته على الغاء عقوبة الحبس في قضايا النشر ... كانت المفاجأة مدوية ،ولم يملك الصحفيون حتى هؤلاء الذين يختلفون مع الرئيس ويعارضونه إلا الوقوف والتصفيق ل"البشارة" مدة لاتقل عن خمس دقائق .. الصالة كلها وكنت حاضرا بنفسي ضجت بالتصفيق تحية للوعد الرئاسي! . لم يعترض على هذا "الوعد" إلا الزميل والصديق العزيز صلاح بديوي ، إذ وقف وسط جمهور الصحفيين الذين أخذهم الوعد كل مأخذ .. ليهتف ضد الرئيس مبارك .. ويدعو زملائه أن لا يثقوا في استعداد النظام للوفاء به . هاجت القاعة على بديوي ... وأمروا بطرده خارجها .. حتى لايفسد عليهم هذه اللحظات السعيدة التي يقضونها في رحاب البشارة الرئاسية .. وكادت تحدث مشكلة كبيرة بين قلة تعاطفوا مع بديوي واكثرية طالبوا باخراجه ولو بالقوة خارج الصالة المخملية التي شهدت بركة ميلاد اول تعاطف رئاسي مع الصحفيين ! وتدخل الزميل مجدي حسين ، رفيق بديوي في زنازين النظام ، ليأخذ بديوي من يده إلى خارج القاعة ، هامسا في أذنه أن الوقت في غير صالحه وعليه الانصراف في هدوء . وأضطر مجدي حسين أن يقاطع كلمة صفوت الشريف ، ليقدم اعتذاره عما حدث نيابة عن "صاحب السجن " ! صلاح بديوي له تجربته المريرة والقاسية مع النظام الحالي .. إذ حبس لمدة عامين في عهد الرئيس مبارك وليس في عهد تحتمس الخامس .. في قضية رأي .. وفي قضية فساد كشفها بديوي ومجدي حسين ، دفع الاثنان ثمنها عامين من حريتهما داخل سجون النظام ، فيما كشفت الايام بعد ذلك صحة كل كلمة كتبت في صحيفة الشعب .. في ذات القضية .. واحيل بعض ابطالها "الصغار" إلى القضاء وحبسوا فيما يرتع كبار المتورطين فيها في نعيم النظام وجناته التي يجري من تحتها نيل مصر المحروسة !. الغريب أن الصحفيين تلقوا "وعد" الرئيس وكأنه تشريع سن واجيز من مجلس الشعب ، وأنه لن يحبس صحفي أو صاحب رأي في قضية نشر بمجرد هذا الاتصال التليفوني من الرئاسة بالزميل جلال عارف ! فاجأهم النظام بعد ذلك باحالة صحفيين إلى المحاكم ومنها إلى السجون مباشرة ، ليقضوا عقوبة السجن في قضايا رأي !. والكل يسأل أين وعد الرئيس ؟! .. ومع كل سؤال كنت اتذكر صلاح بديوي .. وأقول هل كان صلاح أكثر وعيا واستشرافا للمستقبل من كل زملائه ؟! المشكلة الحقيقية أن الزملاء وهم النخبة التي يعقد الرأي العام عليهم الأمال في قيادة قاطرة الاصلاخ ، لايزالون غير مدركين أن "الوعد" كان من قبيل "المنحة" .. وليست "مكسبا" ... والمنحة تؤحذ وترد في أي وقت .. وهذه واحدة من أكبر مشاكل مصر السياسية . فالاحزاب السياسية مثلا كانت من قبيل "المنحة" ولذا فإنها تمنح وتغلق بالضبة والمفتاح على مزاج "المانح" .... بدون أية اعتبارات للقانون . وفي هذا السياق إذا كانت الجماعة الصحفية المصرية تريد قانونا حقيقيا يحميهم من بطش السلطة أثناء تأدية عملهم وواجبهم المهني .. فلا ينتظروا منحا من الرئيس ولا يقبلوها .. لأنها والحال كذلك ممكن أن تسحب في أي وقت وتلغى بجرة قلم من صاحب المنحة ... ثم ستُظل رقابهم تحت سيف من النظام عليهم ، فهو الذي كسر عيونهم ب"منحة" عدم الحبس في قضايا نشر ، وهذا وحده قد يتحول مع الوقت إلى عرف يجعل النظام معصوما وفي حصانة من الصحفيين ولايجوز مسه بأي نقد ، ردا للجميل وإسداءا لتعطفه على الجماعة الصحفية ب"منحة" الغاء الحبس . في تقديري أن على الزملاء أن يبحثوا عن آليات أخرى ... تجعل من القانون الجديد "مكسبا" لنضال الجماعة الصحفية على أن ينتزع انتزاعا من نظام يكره حرية الصحافة والثقافة والمثقفين . [email protected]