أفنى الإعلامي الليبي المعروف محمد شمام، أربعة وثلاثين عاما في معارضة العقيد معمر القذافي، متنقِّلا من بلد إلى آخر، تفاديا لرصاص القناصة الذين كان يُرسِلهم الحاكم الليبي وراء "الكلاب الضالّة"، مثلما كان يُسمّي معارضيه. وما أن اندلعت الثورة في ليبيا، حتى كان شمام في مقدِّمة الوجوه التي أطلَّت بها على العالم، إلى أن تشكَّل "المجلس الوطني الانتقالي"، فأصبح عضوا فيه مكلَّفا بملف الإعلام. في هذا الحوار الخاص مع swissinfo.ch من الدوحة، حيث يقيم حاليا، يضع شمام معالِم المرحلة الانتقالية التي يعتزِم "المجلس الوطني"، دفع ليبيا نحوها بعد استكمال استعادة المناطق التي تُسيطر عليها كتائب القذافي. swissinfo.ch: لماذا عارضت القذافي منذ 34 سنة. ألَم يكن هناك مجال للعمل من أجْل الإصلاح من داخل المنظومة، مثلما فعل آخرون؟ محمد شمام: لست المعارض الوحيد. فهناك عشرات من الذين استمرّوا طيلة عقود في مقارعته من البداية إلى النهاية. اقتنعوا بأنه ليس لَديه أية أجندا إصلاحية. وهناك أطراف أخرى، كانت تعتقد أن الانخراط في العمل، لا أقول السياسي لأنه كان مُحظورا، وإنما في إطار منظمات المجتمع المدني، ربما يُفيد قليلا. بعضهم تمادى في هذه التجربة والبعضُ الآخر أدْرك محدودية التغيير الممكن. ومعظم هؤلاء، لم يتورّطوا مع النظام في أية جرائم أو أمور من هذا القبيل. فكان من السهل أن يعودوا ويتولّوا مهام في مختلف أوجُه العمل الوطني منذ اندلاع التظاهرات في 17 فبراير الماضي. يُعتبَر نظام القذافي من أطول الأنظمة العربية عُمرا. ما هي الوسائل التي اعتمدها كي يبقى في الحكم طوال هذه المدة؟ محمد شمام: استعمل آليات مُختلفة، قاسم مُشترك بينها يتمثل في إلغاء أية أطُر سياسية أو قانونية أو مكوِّنات للمجتمع المدني، لِخلق حالة فراغ سياسي وشعبي ومؤسساتي، لا تملأه إلا أجهزته الخاصة، سواء السياسية، أي اللجان الثورية أو الشعبية أو الأمنية. كما اختلط الأمني بالسياسي بالشعبي، فبات من الصعب أن تُبرّأ أية مجموعة من القتل والنَّهب والسرقة والفساد. لكن عادة ما ينسى الناس، في ظل حالة الاستغراب من طول عُمر هذا الحكم، العديد من الانتفاضات والاحتجاجات والمحاولات الانقلابية، التي جرت خلال ثلاثة وأربعين عاما، وآخرها الانتفاضة التي اندلعت في 17 فبراير 2006. لقد حدثت أربع أو خمس انتفاضات شعبية على الأقل، سيْطر خلالها المتظاهرون على الشارع، وكان ذلك عام 1973 و1975 و1976. كما لم تتوقّف السُّجون عن استقبال المناضلين من مختلف ألوان الطَّيف السياسي. وخاضت الجماعة الإسلامية المقاتلة التي قادت أيضا حربا حقيقية ضد القذافي وزمرته في أواسط التسعينات، وبالتالي، ليس بدقيق القول أن النظام استمر 42 سنة من دون مقاومة من الشعب الليبي. فلولا هذه التَّراكمات ولَولا صمود المئات من المناضلين خارج ليبيا وإصرارهم على رفع صوت المعارضة ضد النظام، لَما كان هناك 17 فبراير 2011. كيف تفسِّر تحوُّل الغرب من محاصرة القذافي بين 1992 و1999 إلى اعتباره بعد ذلك شريكا، بل وحليفا في الحرب الدولية على الإرهاب؟ محمد شمام: أولا، لم يكن هناك حصار على القذافي بالمعنى الصحيح للحصار، خاصة مقارنة بالحصار الذي فُرض على الشعب العراقي. كان هناك تحديدا حظْر جوي على السفر من ليبيا وإليها، لكن إنتاج النفط وبيعه لم يتوقّفا دقيقة واحدة، وبالتالي، كانت لدى النظام إمكانات مالية غيْر محدودة استثمرها لاحقا، أي بعد الحصار، عبْر توظيف شركات علاقات عامة وخلْق شبكة من العلاقات المالية مع شخصيات نافذة في الغرب، فتحوّل القذافي في سنوات قليلة من مجرم إلى شريك في نظر الغربيين. هذا الذي حصل، لا يُعد في تقديري نجاحا للقذافي بقدْر ما كان فاضحا لنفاق الغرب وتغليب مصالحه الاقتصادية على ما يدّعيه من دعْم للحريات وحقوق الإنسان. كيف أمكن للتيارات والأطراف المناهضة للقذافي أن تأتلف حول "المجلس الوطني الانتقالي"، رغم خلافاتها؟ محمد شمام: هناك خاصية مشتركة للثورات المندلعة في العالم العربي. فهي ثوراتُ حرية وكرامة، وليست ثورات خُبز. والخاصية الثانية، هي أن مطالبها مطالب داخلية بالتّحديد، وتتعلق بالتغيير السياسي. والثالثة، أنها ثورات غيْر "شعاراتية"، كما جرت العادة. أما الخاصية الرابعة، فهي أنها ثورات سِلمية. والخاصية الخامسة، هي أن محرِّكها، الطبقة الوسطى التي ملكت ناصية التكنولوجيا الحديثة واستوعبت ثورة الاتصالات ووظفت طاقاتها من أجل الحشْد لهذه الثورة وإدارتها. في هذا السياق، جاء تفرّد الحالة الليبية أو اختلافها عن التجارب الأخرى، من كونها لم تستند إلى شيء من قبيل الجماعات السياسية الأهلية، إذ افتقدت تماما إلى مثل تلك الأدوات، وربما هذا ما جعلها تلتَف على الفور حول نقابة المحامين في بنغازي، وهو الإطار الوحيد الذي كان بمقدوره أن يعمل. وقد كانت النقابة تكافح من أجل شرعيتها، التي لم تحصل عليها سوى قُبيل اندلاع الثورة بأيام قليلة. كما ينفرد المثال الليبي أيضا، بوجود سلطة قمعية متعَجْرفة، تنظر إلى الشعب باحتقار وتُعامِله بقسوة مُفرطة، مما فرض على الثورة منذ الأيام الأولى أن تغيّر مسارها السِّلمي وتضطر للدفاع عن نفسها بالعمل المسلّح، ولم يكن هذا السلاح إلا ما تغنمه من القوات المعتدِية عليها. فعلا، غيّرت الثورة الليبية مسارها الأول من التظاهرات السلمية إلى مسار مسلح. ألم يقطعها ذلك عن القواعد الجماهيرية التي كانت وقود الثورات في تونس ومصر واليمن؟ محمد شمام: هذا التغيير فرض على الثورة الليبية أن تتحوّل إلى شكل الحرب الشعبية، أكثر من شكل التظاهرات السِّلمية، لكن رغم قسوة المعركة، لم نُلاحظ على الثورة الليبية ما لُوحظ في ثورات معاصرة أخرى، من انقسامات حزبية أو طائفية أو قبلية، بل ما زالت بعد أكثر من شهريْن من المعاناة الشديدة تحتفِظ بقدر هائل من الوحدة، لم تتمتع به ثورات أخرى. والمُهم، أن أداء قيادات الثورة لم يُؤدِّ إلى انقسامات أو انفصامات أو صراعات، بل القاعدة في عمل المجلس، هي المحافظة على وحدة الشعب الليبي في نضاله من أجل التحرّر. وبينما شكلت المظلة التحالفية بين القوى والشخصيات، المعلم البارز للتجارب المجاورة، فإن خاصية التجربة الليبية، هي أن القيادة موحدة بشكل تلقائي وجامعة لكل الألوان من اليمين واليسار وكافة أطياف المشهد السياسي والاجتماعي الليبي. لماذا لجأتم إلى دعْم الحلف الأطلسي مع ما أثارته وتُثيره تدّخلاته في أفغانستان والبلقان وغيرهما من انتقادات؟ محمد شمام: هناك تجربة تاريخية في المنطقة العربية أدّت إلى وجود تحفّظات دائمة على الاستعانة بالأمم المتحدة أو غيرها تحت أي ظرف من الظروف. فالحالة العراقية، التي وإن كانت حالة خاصة، فإنها أصبحت في ذِهن المُتلقي العربي حالة عامة. ورغم أن وجود قَدر من التدخّل الخارجي في أوقات الصِّراع في المنطقة العربية، بشكل أو بآخر، أمر ثابت، فنحن نعرف مَثلا أن حرب السويس سنة 1956 لم يكُن لها أن تُحسَم لصالح الشعب المصري لولا التوافُق الأمريكي الروسي آنذاك. ونعرف أيضا ما لقيته جبهة التحرير الوطني الجزائرية في صراعها مع فرنسا من دعم دولي كبير جدا، كان لا يمكن تأمينه لثورة وليدة، وبالتالي، فتعميم الحالة العراقية التي هي حالة احتلال أجنبي لسحبها على ليبيا، لا يمكن أن يصح، لأن ليبيا تتعرّض إلى حرب إبادة من طرف ليبي عسكري مدجّج بالسلاح ومن نظام نُزعت عنه الشرعية المحلية والعربية والدولية. وحتى هذه اللحظة، لم يطلب الليبيون قوات أرضية لحماية المدنيين في بلدهم، وإنما جاء طلبهم لحماية المدنيين وتوفير منطقة حظْر جوي عن طريق الجامعة العربية وبموافقتها، وبالتالي، فليس هناك تدخّل أجنبي في ليبيا، وإنما هناك تدخّل دولي بطلب من الهيئة الرسمية الوحيدة، وهي الجامعة العربية. أي موقِع سيكون للمجلس الانتقالي بعد نجاح الثورة، وما هي آليات الانتقال الديمقراطي في ليبيا؟ محمد شمام: هو مجلس انتقالي وضَع برنامجا يُحدِّد رؤيته في كيفية تشكيل دولة ديمقراطية، تقوم على الفصل بين السلطات وعلى الانتخابات وتداول السلطة، وهو في تقديري، سيقوم بخلق آلية خلال الفترة الانتقالية، يتم بمُوجبها تشكيل مجلس وطني يمثِّل كافة أطياف اللَّون السياسي والاجتماعي في ليبيا، يؤدِّي إلى إقرار دستور يتِم الاستفتاء عليه وتجري بموجبه انتخابات ذات شفافية محلية وعربية ودولية، يتم بعدها تشكيل حكومة مُنبثقة من الانتخابات الحرة. بتعبير آخر، هل سيُسلّم المجلس الانتقالي الحُكم إلى سلطة بديلة؟ محمد شمام: نعم لمجلس وطني ممثَّل لليبيا كلها، وهذه تجربة مررْنا بها في أواخر الأربعينات خلال النِّضال من أجل الاستقلال، إذ كانت هناك آلية دولية أدّت إلى تشكيل جمعية تأسيسية ودستور وانتخابات عامة. ما هي الضمانات بأن تتِم العملية بهذا الشكل؟ محمد شمام: الوعْي الذي حصل خلال السنوات الاثنتين والأربعين الماضية، جعل الشعب الليبي يُدرك أن الدكتاتورية شَرّ مُطلَق وأن لا بديل عنها سوى الانتخابات الحرة والنزيهة، والتحديد الدستوري للولايات التشريعية والتنفيذية في علاقتها، بالتداول السِّلمي للسلطة والفصل بين السلطات ومنح السلطة القضائية حرية تامة في إصدار قراراتها، لاسيما الدستورية منها، من دون تدخّل أية جهة أخرى. هل تُشاطر المخاوف المتداولة من أن تلك العملية الانتقالية قد تؤدّي إلى هيمنة الإسلاميين على الدولة والمجتمع؟ محمد شمام: هذا الاحتمال وارد. فالتيارات الإسلامية موجودة في الشارع في ليبيا وكانت جزءً من الثورة وستكون جزءً من العملية السياسية بلا شك. وإذا ما ارتأى الشعب الليبي أن يمنح ثقته لهذه التيارات، أو مَن يمثلها من أحزاب، فهذا يعني أن قرار الشعب ينبغي احترامه. وما نطالب به، هو أن نعطي للعبة الديمقراطية كل زخمها، بحيث يكون هناك اتفاق مُسبق على عدم احتكار السلطة والإقرار المسبق بتداولها، وأن تستمِر الآلية الانتخابية لفترة معيَّنة تحت ضمانة الشفافية الثلاثية التي أشرْت إليها، المحلية والعربية والدولية، وأن لا يُمارَس أي ضغط أو إكراه بأية طريقة من الطُّرق على المقترعين. وإذا اختار الشعب الليبي بعد ذلك أي تيار إسلامي أو "عروبي" أو يساري، فينبغي أن يحترم الجميع إرادته. كيف تنظر إلى الموقف التونسي مما يجري في ليبيا؟ محمد شمام: أولا، تونس أصبحت موئل الثوار ورائدة الثورة، إذ ألهمت المنطقة كلها وكانت الشرارة التي أوقدت مسار الثورات، وقد أثبتت مدى فعالية الطبقة الوسطى، وحجْم وعيِها وإدراكها، وهي أيضا أولى الثورات التي واجهت فوْر نجاحها، قوى الثورة المضادة على اختلاف تكتيكاتها، وهي ما زالت إلى هذه اللحظة تُسقط بنجاح الثورة المضادّة، رغم كل تكتيكاتها. لا أقول إنها أصبحت مضمونة بالكامل، بل أقول إنها أكثر قُدرة على التعاطي بذكاء مع الخداع، وألاعيب الثورة المضادة، وهي تستنِد إلى تاريخ طويل من العمل السياسي والمؤسسي، الذي كان أبرز الأدوات التي مكَّنت التونسيين من تحقيق الإنجازات التي وصلوا إليها. المصدر: سويس انفو