"إن الإنسان يظل مستور الحال طالما تحدث في فنه لكن إذا تحدث في غير فنه أتي بالعجائب".. هذه مقولة سمعتها كثيرا من الشيخ الحويني وأكدها لي عمليا الباحث المصري الدكتور عمار علي حسن. فقبل عام ونصف تقريبا شاركت في ندوة بموقع إسلام أون لاين كان ضيفها د. عمار وكانت حول كتابه " التنشئة السياسية للطرق الصوفية فى مصر" وتحدث الرجل خلال المحاضرة عن الجهد الكبير الذي بذله في تقصي الحقائق عن هذه الطرق حتى صدر هذا الكتاب الضخم في شكله الحالي. وحسبما أتذكر كان حديث الرجل مقنعا لي ربما فعلا لانه كان يتحدث في تخصص أو في فن يحسنه أو ربما لضعف اطلاعي على هذه القضية. لكن قبل أيام شارك الدكتور عمار في برنامج على قناة الجزيرة مباشر حول التيار السلفي بصفته خبير في الحركات الإسلامية بشكل عام وانتظرت حتى تحدث الرجل، وبالفعل أتى الرجل بعجائب اعتقد أنها من وحي خياله ربما لعدم اطلاعه الكاف على هذا التيار من حيث حجمه وأدبياته وفصائله أو ربما لقوة اطلاعي على هذا التيار مقارنة بالدكتور عمار . وأدلل على ضعف اطلاع دكتور عمار الذي كان يتحدث بلغة خطابية خالية من الأدلة والمنطق على التيار السلفي بالاستعانة بكلامه هو كي نقذف بالحق على الباطل فيدمغه. أولا: تحدث الدكتور عمار عن التيار السلفي على أنه الجمعية الشرعية و"جماعة أنصار السنة " و"جماعة التبليغ والدعوة". وهذا لا شك يوضح أن علاقة الرجل بالتيار السلفي علاقة تاريخية قديمة تحتاج ل "أب ديت" وتدقيق، فخريطة هذا التيار التي أضاف لها جماعة التبليغ والدعوة !!، انتابها تطور بالغ بعد ظهور فصائل سلفية أخرى في السبعينات من القرن الماضي ربما تكون هي الأكثر قوة وبروزا على الساحة الآن مثل الدعوة السلفية في الإسكندرية والتيار السلفي بالقاهرة الذي يتزعمها الدكتور محمد عبد المقصود، فضلا عن دعاة العمل الفردي الموزعين في عموم محافظات مصر ولهم طلبة بالآلاف مثل الشيخ الحويني والشيخ مصطفى العدوي. ثانيا : قال الدكتور عمار إن التيار السلفي كان يحمل مشروعا دعويا ثم في "لحظة عجيبة تم الضغط على زر لينتقل المشروع من الدعوي إلى السياسي .. وهذه الانتقالة ليست عندي مبرأة " على حد تعبيره، واعتبر أن إعلان هذا التيار مشاركته في العملية السياسية يعني أنه يستخدم لإعادة "فزاعة الإسلاميين" لإبقاء العسكر في الحكم. وربما المشكلة في هذا الاتهام - الذي ينم عن عدم احترام لعقليات وإرادة أبناء هذا التيار وهو ما جعلني أبادله نفس الشعور- يؤكد أن الرجل لم يقرأ أدبيات التيار الذي يمثله شريكه في الحلقة وهو الشيخ عبد المنعم الشحات وموقفه من قضية المشاركة السياسية والتي نشرت لحسن الحظ على صفحات موقع إسلام أون لاين في نفس الفترة تقريبا التي نظمت فيها الندوة المشار إليها ويمكنه الرجوع إليها أو يسأل زميله حسام تمام عنها. وبشكل مجمل ألخص له موقف الدعوة السلفية من هذه القضية وهو أن الدعوة تؤمن إيمانا جازما بأن الإسلام منهج حياة دين ودولة، لكنها لم تشارك في العقود الماضية لأسباب شرعية ومنطقية أذكر منها أن الدستور لم يكن ينص قبل عام 1980 على أن الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع. وبعد تعديل المادة الثانية لتصبح بهذا الشكل ظل الجدل القانوني قائما حولها لمدة 16 عاما من حيث إمكانية سن قوانين مخالفة للشريعة حتى حسمته المحكمة الدستورية بالتأكيد على عدم جواز سن أي قانون يخالف الشريعة. ورغم ذلك لم تشارك الدعوة لسبب منطقي وهو أنها ترى أن منافسة الحزب لا تعنى إلا أن تكون ديكورا لتجميل النظام السابق، ولكن بعد انتفاء هذا المانع بسقوط نظام مبارك وغلبة الظن أن العملية الانتخابية ستكون نزيهة قررت الدعوة المشاركة الساسية. ثالثا : اتهم الدكتور السلفيين بأنهم يلوون رأس أية " ياأيها الذين آمنو أطيعوا الله وأطعيوا الرسول وأولى الأمر منكم ..." ليسقطوا حكم طاعة "ولي الأمر" على النظام السابق. وردا على هذه التهمة الباطلة أنصحه بالرجوع لكتب العقيدة -التي صنفها مشايخ الدعوة بالإسكندرية – منذ أكثر من عقدين ككتاب "فضل الغني الحميد" وكتاب منة الرحمن للدكتور ياسر برهامي سيجد في كل منها بابا كاملا عن قضية الحاكمية تحت عنوان "الحكم بغير ما أنزل الله". وفي هذه الأبواب التي أثق أنه لم يقرأها كما زعم تم شرحها بالتفصيل في عز قوة النظام السابق أعلنت الدعوة السلفية فيها عن رأيها بجرأة - أجزم بأنه لا يمتلكها - أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر مخرج من الملة، وأن الأمة مطالبة بإسقاط من يحكم بغير ما أنزل الله إذا أقيمت عليه الحجة وتوافرت القوة ولم يترتب على الخروج مفسدة أكبر، كما أن تفسير مشايخ الدعوة للآية المذكورة يكون على الحاكم بما أنزل الله ويمكنه الرجوع لهذه الشروح الموجودة منذ أكثر من عقد كمادة صوتية على موقع طريق الإسلام. ونتيجة لهذا الموقف من قضية الحاكمية التي اختلف فيها المشايخ مع فصيل التيار المدخلي ظل قادة الدعوة رهن الإقامة الجبرية بمدينة الإسكندرية على مدار عقدين تقريبا وحتى عندما خيروا من قبل الأمن بين حرية الظهور الإعلامي مقابل السكوت عن الحديث في هذه القضية رفضوا هذه الصفقة تماما مؤكدين عدم التنازل عن البيان لأي قضية شرعية. بل إن بعض مشايخ الدعوة السلفية بالقاهرة كالشيخ فوزي السعيد الذي أتمنى أن يكون الدكتور المتخصص في الحركات الإسلامية يعرفه أصلا وهو إمام مسجد التوحيد بغمرة الذي كان يرتاده عشرات الآلاف، اعتقل وحرم من مسجده قبل حوالي عشرة أعوام ولفقت له قضية تنظيم "الوعد الحق" والتي مكث على إثرها في السجن حتى كاد أن يموت فيه مرضا بسبب تناوله التفصيلي لقضية الحكم بغير ما أنزل الله في خطب الجمعة فضلا عن الدروس. رابعا : اتهم السلفيين بأنهم يريدون أن يفرضوا رؤيتهم على المجتمع "عنوة". وهذا اتهام لا يحتاج لرد لأنه موجه لتيار يعلن ويمارس دعوته منذ نشأته بشكل سلمي ويوقن بانه لا إكراه في الدين مع غير المسلم فما بالك بمن هم معك في دائرة الإسلام ، كما أن دعوت هذا التيار الذي لا يؤمن بالتقية انتشرت في ظل نظام لم يسمح ببقاء أي تيار استخدم العنف أو حتى الشدة على سطح الأرض. خامسا: اتهم قيادات الدعوة السلفية بان لهم ارتباطات وعلاقات معروفة ( هي معروفة لكنه لم يوضحها) لكن سياق كلامه يوضح أنها علاقات أقل ما توصف بأنها مشبوهة، وأنا سأرد عليه باتهام مماثل وهو أنه مدفوع من جهات معروفة لتشويه صورة الدعوة السلفية وعندما يأتيني بدليل على اتهامه سأتيه بالدليل. سادسا : نصب الدكتور عمار نفسه وصيا على عقول الشعب المصري وقال إن هذه الدعوة "وهابية ولا توافق المزاج المصري"، وأنا أقول له إن كنت تتوقع أن الشعب المصري يحمل نفس مزاج حضرتك فأنت مخطئ، والدليل على ذلك هو أن التيار السلفي المنتشر في كافة شرائح المجتمع يعد أوسع التيارات الدينية والسياسية انتشار على أرض مصر لكن المشكلة تكمن في عقول تريد أن ترى الواقع كما يدور في خيالها. سابعا : اتهم الدعوة السلفية بعدم احترام آراء التيارات الأخرى، وأنا أنصحه بأن يراجع كتب وتسجيلات المشايخ التي يزعم انه اطلع عليها ليرى كيف أنهم يستشهدون بأراء من يختلفون معهم في المنهج سواء كانوا إسلاميين أو غير إسلاميين بل لو حتى كانو غير مسلمين ما دامت تدلل على الفكرة و لا تخالف السنة. وفي هذا الموطن أستشهد بقولة يرددها مشايخنا دوما في المخالفين لهم في اجتهاداتهم الشرعية "قولنا صواب يحتمل الخطأ وقول غير خطأ يحتمل الصواب". ثامنا : اتهم السلفيون بأنهم تسلقوا على أعناق الشعب ليقطفوا ثمار الثورة التي لم يشاركوا فيها ... وأنا أرد عليه يكفي أن تعلم أن الدكتور محمد عبد المقصود وهو رأس السلفيين في القاهرة -والذي استفتاه دكتور صفوت حجازي في المشاركة بالثورة - بالإضافة للشيخ فوزي والشيخ نشأت والدكتور مازن السرساوي شاركوا بأنفسهم وبتلاميذهم في ميدان التحرير، وإن كنا لا ننكر أن كثير من مشايخ الدعوة رأوا عدم المشاركة لمسألة تتعلق بتقدير المصالح والمفاسد ولكن ليس لأن مبارك ولي الأمر كما زعم. تاسعا : وعن نصيحته للتيار السلفي بألا يتملكه الغرور، فنحن نقبلها ما دامت أمر بالمعروف، ولكن ننصحه بمثلها ولا يتخيل أن الدعوة السلفية تنتظر دفاعه عن "حقها في الوجود أو الخروج من القمقم" على حد تعبيره، فالدعوة السلفية انتشرت وذاع صيتها بفضل الله أولا ثم لقيامها على أكتاف رجال احتسبوا أعمارهم لله وحبسوا أنفسهم على طلب العلم والدعوة في ظل تضييق أمني واعتقالات لا تكاد تكون أخطأت أحدهم.