تتلاعب بعض الحركات الصوفية علي حبائل السياسة, تحاول الاستفادة منها ولو لبعض الوقت, في حين تستخدم السياسة هذه الحركات لخدمة مصالحها طوال الوقت. تلك خلاصة غير وافية للدراسة الموسوعية التي قدمها الدكتور عمار علي حسن بعنوان التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر وعنها نال جائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع التنمية وبناء الدولة. هشم الكتاب كل الصور المختزنة برأسي عن الصوفية وشيوخها وأتباعها, بملابسهم الغريبة أو حركاتهم الأغرب, وطقوسهم الخاصة ولغتهم المبهمة إلي حد الغموض ومواكبهم التي ارتبطت في الذهنية الشعبية بالمواسم والموالد. التصوف الذي عنه تحدث عمار لم يعد حالة من الزهد والتعبد الفردي, بل صار مؤسسات ضخمة لها امتدادها عابر القارات, ولها دورها السياسي والتنموي والاجتماعي مع استثناءات لحالات بعض الطرق التي عاشت عالة علي المجتمع تماهت في الفلكور وتم اختزالها إلي ظاهرة احتفالية تجر وراءها المريدين واللصوص والدراويش المتسولين. ولأن الصوفية ليست حركة دينية بحتة بل ولدت من رحم السياسة, ولأنها لم تعد مسألة فردية أو غارقة في الذاتية في مصر, حيث لها كيانها المؤسسي ممثلا في الطرق الصوفية, فهناك علاقة وطيدة بين التصوف الحالي والسياسة. أشكال التدين الأخري لم تؤد إلي تراجع نفوذ المتصوفة, بل حدث العكس, فالنظام الحاكم كان في مصلحته دائما ان تكون الصوفية قوية ظاهرة في مواجهة القوي الإسلامية المناوئة ولذا عمل علي إلهاب وقودها ليستمر مشتعلا ثم دخل الأمريكيون علي الخط, فزادوا هذا التوجه عمقا, واعطوه بعدا دوليا واستراتيجيا كبيرا. ناقش الكتاب بتوسع التنشئة السياسية للمتصوفين شارحا كونها عملية تلقين المريدين القيم والمفاهيم العامة للتصوف عبر الاقتداء بالشيخ أو الوقوع تحت هيمنته أو محاكاته والتعلم من الاخوان داخل الطريقة وقراءة الأوراد والأذكار والكتب المتعلقة بالتصوف والتي تبلور قيما ومفاهيم سياسية تختلف درجة ايجابيتها أو سلبيتها من مريد إلي آخر ومن طريقة صوفية إلي أخري وهي التي تحدد في النهاية اتجاه المتصوف نحو النظام السياسي. مكونات التنشئة السياسية للمتصوفين المصريين تتنوع مابين مكون فكري يفرز العلاقة بين الديني والسياسي عبر تحليل الأفكار الرئيسية للمعرفة الصوفية كالزهد والمحبة والولاية التي تنتج قيما واتجاهات سياسية بعينها. ويحكم منطق المنفعة المتبادلة بين المؤسسة الصوفية والنظم الحاكمة في مصر شكل المكون التاريخي للتنشئة, أما بنية الجماعة الصوفية وهيكلها الذي يبدأ بالمريد وينتهي بشيخ مشايخ الطرق الصوفية فهو المكون التنظيمي في عملية التنشئة. لكن ماذا يفعل الدين بنا؟ هل يخدرنا؟ هل هو أفيون الشعوب كما ردد البعض؟! الذي لا شك فيه أن تأثيرات الدين علينا كبيرة جدا, خاصة اذا تحول إلي ايديولوجيا وفلكلور وأسطورة وخطاب ثقافي يطل علينا بالحاح عبر كل وسائل الاعلام, وقد تحول لتجارة يطوع فيها النص لخدمة المسار الرأسمالي, فيبارك أصحابه الملكية الخاصة مقابل التقليل من شأن توافر حد الكفاف لكل المسلمين وياله من تأثير!. يكشف المؤلف عن انه علي الرغم من تراجع دور الدين في الحياة العامة للعرب المحدثين, إلا ان الأمر في مصر كان علي النقيض تماما, فعلاقة المصريين بالدين قوية بدرجة تسمح له في كل وقت ومكان بأن يترك بصمته علي الحياة الخاصة والعامة. أما تاريخية العلاقة بين الحاكم والمحكوم في مصر فتأرجحت بحسب الدراسة مابين تأليه الحكام وتبجيلهم وصولا إلي تكفيرهم تماما. عايش الباحث عبر سنوات الطرق الصوفية واقترب من الحامدية الشاذلية والخليلية يرصد ملامحهما ويطبق عليهما مفردات الفكر الصوفي القائمة علي( الزهد) والذي قد يجسد حالة من الانسحاب في مقابل الانخراط السياسي, و(المعرفة) التي قد تربي وتكرس قيم الخضوع والتسلط لدي المتصوفين والمحبة والولاية, وكلتاهما تنبتان قيما ايجابية تعلي من منزلة الطاعة والتسامح والاستقرار. الأولياء وأصحاب المقامات والكرامات والبركات, صورتهم الدراما باقتدار في ثلاثية نجيب محفوظ, وفي قنديل ام هاشم ليحيي حقي, أما كاميرا عمار علي حسن وعدسته المكبرة فوضعت الشيخ الصوفي قيد الرصد والملاحظة لتحليل دوره المحوري داخل طريقته خاصة إذا كان شيخ الطريقة هو مؤسسها, فالشيخ يحمل كل سمات القائد الكاريزمي بالنسبة لمريديه, ومشايخ الطرق الصوفية يمتلكون في نظر أتباعهم كل صفات العلم والحلم والقدرة علي تذليل كل صعب وتيسير كل عسير والتحلي بكل ما يقترب بصاحبه من الكمال والمثال. الكتاب صادر عن دار العين للنشر.