بعض التحفظات التي تطرح على التعديلات الدستورية تتحدث عن أن هذه التعديلات سيعقبها انتخابات برلمانية في مساحة زمنية قصيرة شهرين أو ثلاثة دون أن يكون هناك أحزاب معبرة عن القوى الحقيقية المشاركة في ثورة 25 يناير ، وهذا تحفظ وجيه ومنطلقاته تملك مبررات أخلاقية ، لأن القوى المشاركة في الثورة ينبغي أن تكون في صدارة المشهد الانتخابي ، لكنه للأمانة ليس جوهريا في المسألة ، أو بمعنى آخر ليس في صلب قضية التعديلات ، وإنما في ما يعقبها من إجراءات ، ويمكن أن نطلب إجراء الانتخابات البرلمانية بعد أربعة أشهر مثلا وليس شهرين مع إطلاق حرية تكوين الأحزاب ، أي أن الخلاف هنا في تفصيل صغير وليس متعلقا بالاستفتاء أو التعديلات المطروحة على الدستور . وقد أكد المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن قانونا جديدا للأحزاب أصبح جاهزا وسيتم إعلانه فور انتهاء الاستفتاء يكون فيه تشكيل الأحزاب بمجرد الإخطار ، وهذه خطوة ممتازة وستساعد على تحريك المياه الراكدة في الحياة السياسية المصرية وتدفع بقوى جديدة إلى المعترك الحزبي ، تكون معبرة بشكل أدق عن الخريطة السياسية ورموزها وقواعدها بدلا من الأحزاب الديكورية التي صنعها النظام السابق ، والقيادات التي فرضت فرضا على الرأي العام في اليسار واليمين على حد سواء ، عندما كان أمين عام الحزب الحاكم هو المتحكم قانونا في اختيار أو اعتماد رؤساء الأحزاب المعارضة . ولكن قناعتي أن تأخر تشكيل الأحزاب أو حتى عدم وجودها لا يعطل قدرات أي تيار سياسي حقيقي وجاد وله تواصل مع المجتمع من أن يخوض المعترك البرلماني ويحقق تواجدا فعالا ، وأظن أن تجربة الإخوان المسلمين واضحة كل الوضوح ، لأنهم منعوا من تشكيل الأحزاب ، كما أن تنظيمهم ظل مجرما قانونا ومطاردا بالمحاكمات العسكرية وغيرها ، ومع ذلك نجحوا في تحقيق اختراقات مهمة في أكثر من برلمان ، وفرضوا وجودهم على الخريطة السياسية بكل جسارة واقتدار ، وإذا كانوا هم فعلوا ذلك في أجواء معاندة ومخاصمة للحريات العامة ، فما هو العذر الذي سنقبله من تيارات أخرى في أجواء حرة وانفتاحية إذا عجزوا عن التواصل الشعبي وفشلوا في تحقيق نجاحات برلمانية ذات بال . وبمناسبة الإخوان ، ومحاولة البعض اتخاذهم فزاعة بأنهم سيسيطرون على البرلمان أو يملكون مفاتيحه ، فهو كلام غير صحيح بالمرة ، وفي أي انتخابات تجرى غدا ، لن يتجاوز الإخوان سقف النسبة المئوية التي أعلنوا أنهم يطمعون فيها وهي 35% في أحسن الأحوال ، صحيح أنهم طرحوها بصورة توحي بالتنازل عن طلب المزيد وإفساح المجال أمام الآخرين ، لكن الحقيقة أن هذا هو السقف التقريبي لوجود الإخوان البرلماني ، وقد يكون أقل من ذلك ، لأن مساحة أوسع من الخريطة البرلمانية في مصر تتصل بالنفوذ الشخصي والعائلي للمرشح والتاريخ السياسي أيضا ، بغض النظر عن انتمائه أو الحزب الذي يحمله ، كما أن التيارات السياسية المختلفة تملك شخصيات سياسية رفيعة ذات حضور شعبي كبير ومصداقية نضالية وتاريخ سياسي أو نقابي محترم ، تستطيع أن تنجح في أي نزال برلماني نزيه ، أضف إلى ذلك أن التيار الإسلامي نفسه سيكون متعددا ، فهناك عدة أحزاب جديدة ذات مرجعية سياسية إسلامية ستشارك بقوة في الانتخابات المقبلة وستكون بالتأكيد خصما من الأرضية التي يلعب فيها الإخوان تقليديا ، وبعض هذه الأحزاب سيكون أقرب إلى التحالف مع قوى وطنية أخرى منه إلى الإخوان . أيضا حكاية بعبع الحزب الوطني وأنه يمكن أن يكون المستفيد الأول من أي انتخابات تجرى الآن ، فهو هوس أو وسوسة سياسية لا صلة لها بالحقيقة والواقع ، فلا يوجد الآن شيء اسمه الحزب الوطني ، الحزب الذي أطيح برأسه وبقياداته وأقطابه جميعا ، وتم اعتقال أو التحفظ على مفاتيحه بالكامل ، حزب بدون مبارك وجمال وعز والشريف وعزمي وإبراهيم كامل وبقية القائمة ، إضافة إلى أن عدة مستويات منه مطاردون الآن قضائيا ورقابيا والبقية تبحث عن طائرة تهرب بها ، سيكون أقرب شبها بحزب الحاج أحمد الصباحي ، والحزب الحاكم سابقا بدون لقب "الحاكم" وبدون مبارك لا يمثل شيئا فضلا عن أن يكون بعبعا للحياة السياسية ، بل إن الحزب الوطني عندما كان قائما بكل عنفوانه ومصالحه وأمواله ومغرياته وكونه حزب مبارك والمؤسسة الأمنية والحكومة والمحليات والتزوير وكل شيء ، مع كل ذلك عجز في انتخابات 2005عن تحقيق أكثر من 37% من مقاعد البرلمان، قبل أن يغري المستقلين بالانضمام إليه بعد فوزهم بعيدا عنه لتعود له أغلبيته البرلمانية ، فكيف وقد نزعت عنه السلطة ونزع عنه الحكم ونزع عنه مبارك ورفع عنه غطاء المؤسسة الأمنية وذراعها الخطير "أمن الدولة" . هؤلاء الذين لا يجدون شيئا يبررون به موقفهم غير العاقل ولا الحصيف برفض التعديلات الدستورية لم يعودوا يملكون من الحجج سوى أن يشعروا الشعب بفقدان الثقة فيه ، والثورة بالتشكيك في قدراتها على التواصل مع الشعب ، وقدرتها على حماية مكتسباتها ، وكل ذلك صناعة للوهم ومعاندة للحقيقة ومكابرة على الاعتراف بالخطأ . [email protected]