لا أحد يدرك تماما خفايا التعاملات السياسية في المسرح السوداني - ولا المسرح الدولي كذلك - ولا حتى متنفذي أجهزة الأمن والمخابرات يمتلكون كل الأجوبة لأهم الأسئلة .. احتفاء الناس بوثائق (ويكيليكس) دليل مباشر بان الجميع مقتنع بزيف ظواهر العمل السياسي وان الخطابات والبيانات والبحوث والتحليللات والنشرات التي تصدر من المراكز الرسمية أو شبه الرسمية لا تعدوا أن تكون أداة سياسية تخضع للبرمجة والتوظيف ومن هنا فلا أحد يملك – على وجه القطع - أن ينفي أو يثبت حدوث مؤامرة هنا أو صفقة هناك .. الكثير من الأحداث السياسية تحتاج لتفسير (سحري).. تفسير يجعل للعقل والمنطق علاقة ما بالحدث .. لأن كل المعنى في كل مرة يندفن في بطن السياسيين وحدهم.. بينما يغرد باقي السرب من المحلليين والإعلاميين والآخرين في واد سحيق .. بالمنطق البسيط كيف يمكن ان نفهم قصة نيفاشا وانفصال الجنوب ؟ الجنوب يحكم - حتى موعد الاستفتاء - وفق النظام الفدرالي كولايات لها حكومات ومجالس تشريعية مستقلة تماما وهو مطلب عتيق كان غاية منى المجموعات الجنوبية الأولى.. وهو يحكم أيضا بنظام (حكم ذاتي) للولايات الجنوبية ككل بحيث لها هي الأخرى حكومة ومجلس تشريعي مستقل تماما وهو مطلب مهم دارت حوله صراعات مريرة بين الجنوبيين وبينهم والشماليين.. والجنوب يحظى بمحاباة سياسية فدرالية من طرف واحد بحيث لا يكون للشمال أفرادا – بما فيهم رئيس الجمهورية نفسه - ونظاما أي تدخل من أي نوع في شئون الجنوب بينما يحفظ لهم حقوق متعددة في الشمال .. ولهم حقوق دستورية تفضيلية وغير انتخابية – وفق نيفاشا- فلهم (كوتة معتبرة) في الحكومة الاتحادية والمجلس الوطني الاتحادي والخدمة المدنية والميزانية العامة.. إلخ .. ولهم قول فصل في قضايا دستورية وتشريعية تتعلق بالشمال بشكل أساسي .. ولهم نصف البترول السوداني رغم انه سلعة قومية .. ويحتفظون بجيش خاص جنوبي ومشاركة كبيرة في القوات النظامية الأمنية الأخرى.. وفي كل الحالات فإن الوجود والتأثير الشمالي في الجنوب واقعا وقانونا هو محدود لدرجة تقترب من العدم. هذه المزايا تنامت أكثر بعد عرض الحكومة بالتنازل عن كل النفط للجنوب.. وأكثر فأكثر بطلبات قطاع الشمال حول المزيد من العروض لإغراء - وليس جذب فحسب- الجنوب والتي ألمح المؤتر الوطني الحاكم أنه لا يمانع بالتفاوض حولها بل إن المؤتمر الوطني والرئيس البشير نفسه أشار أكثر من مرة لهذه المفارقة.. هذه العملية السياسية تتلخص في أن الجنوب يتمتع بحق منفرد لحكم الجنوب والاستئثار المطلق بكل خيراته مع تمتعه كذلك بحكم ثلث الشمال والاستفادة من خيراته وفرض الكثير من رؤاه عليه... هذه العملية بهذا السياق ووفق المنطق البسيط يمكن وصفها بلا تردد بأنها أغبى عملية سياسية في تاريخ السودان وربما في التاريخ الحديث كله .. ولا أظن عاقلا يمكن أن يقدم عرضا كهذا على أحد كما لا أظن بان عاقلا يمكن أن يرفض مثل هذا العرض.. هل يمكن أن تتصور دولة ترفض عرضا بان تظل لها كل خصوصيتها الدستورية والسياسية والاقتصادية والأمنية مع مشاركتها في حكم دولة اخرى والتمتع بنصيب كبير من خيراتها وبالوضع التفضيلي لها فيها ومن طرف واحد .. ليست هذه عملية سياسية طبيعية ولا الظروف التي لابستها هي ظروف عادية ولا يظهر بأن المنطق الذي بنيت عليه العملية هو منطق موضوعي .. هذه الأحجية ربما لن يجرؤ أحد على البوح بسرها طائعا مختارا كما لا يملك أحد لوحده كامل خفاياها لأنها متشعبة يدخل فيها الصراع الجنوبي الجنوبي والشمال الشمالي والجنوبي الشمالي ودور دول الجوار والإقليم والدول الغربية .. ما يتبقى لنا لنحكم على هذه العلمية ككل بحسب المعطيات الحالية يكفي قطعا لوصفها بالغباء .. سؤال أخير .. لك انت أيها القارئ.. أيهما بظنك هو الأغبى الذي يعرض ام الذي يرفض؟. • كاتب صحفي سوداني .. رئيس مجلس إدارة صحيفة الخبر .