إذا عصَرتَ على نفسك لمونة، وتصبَّرتَ حتى تنتهي من قراءة ما يسمونه زوراً مشروع "دستور" ، فإن النتيجة المؤكدة هي أنك ستجد أكثر من ألف سبب يدعوك لمقاطعة الاستفتاء على هذا الشيء. أولها أنه "شيء" ولد سفاحاً من لجنة غير شرعية عينتها سلطة غير شرعية، وآخرها أنه عار سياسي وقانوني على من كتبوه، وخيبة قوية لمن راجعوه ودققوه إملائياً ونحوياً وأسلوبياً، ولا يتفوق عليهم في أخطائهم اللغوية إلا ذوو التأتأة، واللألأة، والسأسأة من بعض كبار رؤوس القضاة الذين فضحوا أنفسهم على رؤوس الأشهاد بلغتهم الركيكة وتلعثماتهم المضحكة وأخطائهم اللغوية الفادحة التي سجلتها عليهم كاميرات الفضائيات ومختلف وسائل الإعلام في المناسبات التي ظهروا فيها في الفترة الماضية. وما بين السبب الأول، والسبب الألف، أو ما بعد الألف، تعشش مئات العلل والرزايا التي تجعل من هذا الشيء الذي يسمونه دستوراً "خرقة بالية"، ووصمة عار في تاريخ من اصطنعوه بعيداً عن أعين المواطنين من المؤيدين لهم ومن المعارضين. هو وصمة عار لأنه لم يكن وارداً في مطالب الملايين التي خرجت في ثلاثين يونيو، ولم يكن في حساب فضيلة شيخ الأزهر عندما قرأ بيانه المؤيد "لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة " عملاً بقاعد "أخف الضررين"؛ الضرر الأكبر هو استمرار الرئيس مرسي مع احتمال وقوع مواجهات بين أبناء الوطن، والضرر الأصغر هو عزل الرئيس والتضحية بنتيجة الانتخابات والصناديق التي حملته إلى منصب الرئاسة. او هكذا تصور شيخ الأزهر. وهو تصور بعيد كل البعد عن أن يكون "افتراس" دستور سنة 2012 ضمن مقتضيات بيان الشيخ. إن ما يسمونه زورا دستوراً عار لسبب آخر وليس أخيراً هو أنه ملطخ بدماء آلاف الأبرياء من المصريات والمصريين الذين هبوا للدفاع عن إرادتهم الحرة، والذين حلموا بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. المقاطعة، والمقاطعة وحدها هي التعبير عن الموقف الثوري الأصيل لكل من ينتمي لثورة 25 يناير 2011، ولكل من يحلم بالحرية ويتشوق إلى رؤية مصر دولة مرفوعة الرأس في نادي الدول الديمقراطية المعاصرة، مع التمسك بدستور سنة 2012م الذي وضعته جمعية تأسيسية منتخبة من الشعب. وأي موقف آخر سوى المقاطعة فإنه ينتمي حتماً للثورة المضادة، ويصب بالضرورة لصالح فلول نظام مبارك المخلوع، وينبطح تحت أحذية جلاديه. قد يقول البعض: سأذهب وأقول "لا"؛ حتى أكون إيجابياً، ولكي أعبر عن رفضي لما يسمونه "خارطة المستقبل"، ولأعبر أيضاً عن رفضي لكل ما ترتب علهيا، فهذا أفضل من السلبية وعدم المشاركة ، وأفضل من الانسحاب واللامبالاة. وأقول له: حتى لو كان ذهابك من أجل قول "لا" لما يسمونه زوراً دستوراً؛ فإنك ستكون مشاركا في خيانة مبادئ ثورة يناير، وفي خيانة دماء شهدائها الأبرار، ودماء شهداء الشرعية والإرادة الشعبية الحرة، وشهداء كل المصريين أياً كانت مواقعهم مدنية أو شرطية أو عسكرية. ستكون مشاركاً في السطو المسلح على صناديق الانتخابات الحرة، وخارجاً على العهد الديمقراطي الذي قطعته أغلبية المصريين على نفسها بأن يكون تداول السلطة سلمياً وعبر نفس الآلية الانتخابية الحرة والنزيهة. ثم إن المقاطعة ليست موقفاً سلبياً كما قد يتوهم البعض، اللهم إلا إذا كانت مقاطعة عمياء ولا واعية. إلا إذا كانت ركوناَ إلى اللامبالاة والأنامالية. ولا أحد يدعو أبداً إلى هذا النوع من "المقاطعة". إذ ليس من المصلحة ولا من المعقولية في شيء أن يعود المصريون إلى حالة السلبية واللامبالاة والانسحاب من مجال العمل السياسي والمشاركة في صناعة مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. وإذا حدث شيء من ذلك، واختار بعض المصريين العودة إلى هكذا سلوك أو موقف انسحابي فسوف تكون محصلته خصماً بالضرورة من مكتسبات ثورة يناير 2011 المجيدة. وهذا ما يتمناه الانقلابيون ومعاونوهم وينتظرونه ويعملون من أجله ليل نهار. ولكن عندما تكون "المقاطعة" واعية ومبدئية وأخلاقية ومبنية على إدراك حقيقة الكارثة التي حدثت في مصر نتيجة تعطيل دستور الثورة الصادر سنة 2012 بأغلبية تقترب من الثلثين، ونتجية الإطاحة بالمؤسسات الشرعية المنتخبة، ونتيجة استباحة أغلب وسائل الإعلام الرسمية والفلولية لكل ما يمت بصلة إلى العقل والمنطق والضمير، وعندما تكون المقاطعة رد فعل على واقعة "الانقلاب" الذي يجر مصر عنوة باتجاه الحكم الفاشي الاستبدادي؛ في هذه الحالة تكون المقاطعة فعلاً إيجابياً وعملاً أخلاقياً بناءً. المقاطعة هي الفعل الإيجابي الممكن والوحيد للتعبير عن رفض حالة "اللامعقول" التي يريدون تمريرها على السواد الأعظم من المصريين بدعوى أن الكلام الذي كتبوه، أو كتب لهم وبصموا عليه ، ينتمي إلى جنس "الدساتير"!. وهذا زعم بعيد عن الحقيقة بعد المشرق عن المغرب. هو فقط ينتمي إلى لغة "البيان الأول"، أو إلى شعارات شاعت ثم بادت من قبيل "والله زمان يا سلاحي" على رأي العلامة د. سيف الدين عبد الفتاح. هذا الشيء الذي يسمونه زوراً "دستوراً"، هو عمل فاضح لأنه بدأ بديباجة فارعة الطول وفارغة المعنى. هي فارعة الطول لأنها تقريباً بطول دستور كامل مثل دستور الولاياتالمتحدةالأمريكية إلا قليلاً. ولكنها فارغة المعنى وليست مثل الدستور الأمريكي؛ فهي عبارة عن موضوع إنشاء يمكن أن يكتبه تلميذ متوسط الذكاء في المرحلة الإعدادية. هذه الديباجة بحد ذاتها فضيحة من العيار الثقيل، ليس فقط لركاكتها وكثرة أخطائها النحوية والإملائية، وإنما لأنها تشبه أغنية هابطة من الأغاني التي نسمعها في الميكروباصات. وإلا فليقل لنا مثلاً جهبذ من جاهبذة "الخمسين" في أي دستور من دساتير العالم يرد ذكر أسماء شخصيات مهما كان قدرها؟. وإن شئت إقرأ واضحك ضحكاً كالبكاء، أو ابك بكاء كالضحك ما جاء في تلك الديباجة من أن: "مصر هبة النيل للمصريين، وهبة المصريين للإنسانية" ياه... ما هذه العبقرية!. "هبة النيل"!! . هذه يمكن ابتلاعها، ونضيف إليها ما هو أهم وهو أن مصر أيضاً هبة المصريين لأنفسهم بكدحهم وكدهم وعرقهم على مر الزمن. أما أنها "هبة المصريين للإنسانية" فهذه جملة عبثية من العار أن ترد في نص قانوني ناهيك عن نص "دستوري". ولا يمكن حمل هذه الجملة على أي معنى حقيقي، أو مجازي. ونحن هنا أمام احتمالين لا ثالث لهما: أولهما أن لفظ "هبة" له معنى مقصود، وثانيهما أنه ليس له معنى مقصود. فإن لم يكن له معنى يقصده كاتب الديباجة، فهذا عبث، وكفى. وإن كان له معنى مقصوداً فلا يخرج عن احتمالين أيضاً لا ثالث لهما: الأول هو المعنى القانوني للفظ "هبة"، والثاني هو المعنى اللغوي الحقيقي أو المجازي لهذا اللفظ. فإن قلنا إن مصر"هبة المصريين للإنسانية" بالمعنى القانوني للفظ "هبة" إذاً فهذا إعلان بالتنازل عن استقلال مصر وسيادتها من أول سطر فيما يسمونه زوراً دستوراً، ومن فجر التاريخ الذي تحدث عنه إلى اليوم وفي المستقبل؛ فالهبة بالمعنى القانوني "تمليك بغير عوض" . والهبة لا تُرد ولا يجوز الرجوع فيها بعد إبرام عقدها!. أما إذا قلنا إن المقصود هو المعنى المجازي، فإما أن يكون مجازاً مرسلاً؛ وهو لا يصح لعدم وجود قرينة في الديباجة أو في بقية نصوص ما يسمونه دستوراً تمنع المعنى الأصلي لكلمة "هبة". أو أن يكون مجازاً عقلياً، وهو لا يصح أيضاً؛ لأن المجاز العقلي هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له مع قرينة مانعة من الإسناد الحقيقي، ولا شيء من هذا في النص الذي أمامنا. وكمثال على المجاز العقلي قول الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها.... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي!. والمقصود هنا واضح عقلاً ، فالشاعر بعد أن قال: لا ترحل لطلب المكارم، لا يعقل أن يقول له إنك تطعم غيرك وتكسوه؟! أبداً؛ إنما أراد أن يقول له : اقعد عالة على غيرك مطعوماً مكسواً. وليتأمل كتبة الديباجة ومراجعوها ولجنة الخمسين فيما قصده الحطيئة. لسنا بوارد نقد ما يسمونه زوراً دستوراً ولا حتى نقضه؛ لأنه كما يقول رجال الفقه الدستوري هو والعدم سواء. ويضيع الزمان في نقضه ناهيك عن نقده؛ فالنقد أصعب وأعمق من النقض. هو عار على من كتبه، وسيكون عاراً على من يشارك في مهزلة الاستفتاء عليه. وليس من الحكمة في شيء قبول المشاركة في هذه المهزلة، ولك ألف سبب وسبب لمقاطعته.