تدل اللغة العربية على الحياة العقلية من ناحية إن لغة كل أمة في كل عصرمظهر من مظاهر عقلها وتفكيرها ، ولم تخلق اللغة دفعة واحدة ، ولم يأخذها الخلف من السلف الصالح كاملة ، إنما تخلق أو يخلق الناس في أول أمرهم ألفاظاً على قدر حاجاتهم ، فإذا ظهرت أشياء جديدة خلقوا لها ألفاظاً جديدة ، وإذا اندثرت أشياء قد تندثر ألفاظها معها ، وهكذا نرى اللغة في حياة وموت مستمرين . وهذا ما أشار إليه " أوليري " في كتابه " العربية قبل محمد " من حيث إن الاشتقاقات والتعبيرات اللغوية فهي أيضاً تنمو وترقى تبعاً لرقي الأمة ، ويقول أوليري : " ولما كان هذا أمكننا إذا أحضرنا معجم اللغة الذي تستعمله الأمة في عصر من العصور أن نعرف الأشياء المادية التي كانت تعرفها والتي لا تعرفها " . ولقد درج النحاة واللغويون القدماء على استعمال كلمة " لفظ " استعمالاً غير محدد ، وهذا ما أشار إليه المفكر اللغوي الدكتور تمام حسان ، حيث إن كلمة " لفظ " العربية تشير تارة إلى الكلمة ، وتارة أخرى إلى الكلام ، رغم الفارق البيِّن بين كليهما في الإفراد والتركيب ، ولكن هذا يعكس ما للفظة العربية والواحدة على التعبير عن معانٍ وتعابير طويلة بكلمة واحدة قصيرة .وما يؤكد كلامنا هذا قول ابن مالك : " كلامنا لفظ مفيد " . وقول الجزولي : " الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع " ، إذا نحا كلاهما باللفظ منحى التركيب في مقابل ما شاع من جعل اللفظ مرادفاً للكلمة على ألسنة الدارسين . وهذا يجعلنا نقر بامتلاك اللفظة الواحدة صورة ذهنية ثابتة نسبياً إذا عالجناها من المنظور المعجمي ، وبصور ذهنية متعددة إذا خرجت هذه اللفظة من ضيق المعنى المعجمي إلى آفاق أرحب وأوسع . وحينما نقترب لرصد المشهد الحضاري لألفاظ اللغة العربية نستبين أن هناك ألفاظاً تغيرت معانيها في الإسلام ، حيث كان المعنى لها في الجاهلية عاماً وخصص في الإسلام ، مثل الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والبيع ، والمزارعة ، بل إن اللفظ الواحد قد تغير مدلوله في عقل السامع بانتقاله من طور البداوة إلى المشهد الحضاري ، مثل لذلك لفظة الكرسي التي كانت تعني لدى البدوي المقعد الخشبي أو الحجري فقط الذي يجلس عليه المرء ، ولكن بعد نزول القرآن استطاعت اللغة العربية أن تخلق لها مشهداً حضارياً ليعادل هذه المعجزة اللغوية السماوية ، فانتقل مدلول الكرسي من معناه الضيق ليشير مرة إلى العرش ، ومرة إلى المنصب ، ومرة إلى المنزلة وهكذا . والإمام جلال الدين السيوطي في كتابه المزهر يقول : " إن لفظ الجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة ، والمنافق اسم إسلامي لم يعرف في الجاهلية " . وأوضح علماء اللغة المتقدمون أن أهل التحقيق أشاروا إلى أن الألفاظ العربية تابعة للمعاني ، كون المعاني أصلاً للألفاظ ، حيث إن المعاني منها ما يكون معنى واحداً ، ثم توضع له ألفاظ كثيرة تدل عليه وتشعر به ، ولو كانت المعاني تابعة للألفاظ لكان يلزم إذا كانت الألفاظ مختلفة أن تكون المعاني مختلفة أيضاً . ويؤكد قولنا هذا ما أشار إليه البلاغي العربي يحيى العلوي في كتابه الطراز ، حيث يقول إن المعاني لو كانت تابعة للألفاظ للزم في في كل معنى أن يكون له لفظ يدل عليه ، فإن المعاني لا نهاية لها ، والألفاظ متناهية ، وما يكون بغير نهاية لا يكون تابعاً لما له نهاية ، ويقول البلاغي يحيى العلوي ما نصه : " وإنما كانت الألفاظ متناهية ، لأنها داخلة في الوجود، وكل ما دخله الوجود من المكونات فله نهاية لاستحالة وجود ما لانهاية له ، وموضعه الكتب العقلية " . وثمة عوامل جعلت اللغة وألفاظها تخرج من كونها مجرد وسيلة اتصال ووسيط للتواصل الإنساني إلى اعتبارها مشهد من مشاهد الحضارة الإنسانية ، منها عوامل تطور الوظيفة اللغوية ، وتنوع الخطاب اللغوي من خطاب لا يخرج عن المراسلات الإخوانية أو الرسمية إلى خطاب إبداعي مثل الشعر والقصة والرواية ، وخطاب سياسي ، وعوامل وافدة مثل نظريات علوم اللغة التي أطلقت على اللفظ اللغوي مفهوم الدال وعلى ما يتضمنه اللفظ من معنى ومضمون مفهوم المدلول . واللغة العربية التي نحرص أن يلتزم بها متحدثو الضاد نطقاً وكتابةً بصورة وظيفية أو إبداعية ، هي لغة كتب لها الشهود الحضاري منذ أن نزل القرآن الكريم بها ، فأعطى لها حق الحياة ، ومنحها تجدداً مستداماً لا ينقطع . ولا ينكر جاحد أن القرآن الكريم دستور المسلمين في شتى بقاع الأرض قد حَقَنَ اللفظة العربية بعقار منحه النشاط الزائد ، وخير دليل على نشاط المفردة العربية أن حركة التقدم العلمي المستمرة كل يوم قد صحبها تجديد البحث في النشاط اللغوي ومن خلال تقعيد مفردات لغوية جديدة تناسب هذا التقدم العلمي . بل إن اللغة العربية ذاتها أصبحت في السنوات الأخيرة من إحدى وسائل الشحذ الحضاري ، عن طريق دور الترجمة اللغوية الصائبة لكل المؤلفات العلمية ، وهذا ما أشرنا إليه ونحن نتحدث عن تغير وظيفة اللغة من كونها وسيلة اتصال ووسيط تواصل إلى وسيلة ضرورية لتنمية الفكر البشري عن طريق الترجمة. ولاشك أن اللغة استطاعت أن تلعب دوراً سياسياً بالغ الخطورة والأهمية على السواء في المشهد السياسي في الدول التي شهدت ربيع الثورات في العام الماضي ، فاللغة الإشارية التي كان الشباب يصر على إقحامها في تواصلهم الاجتماعي اختفت واندثرت بفعل التماس الثائرين للغة ومفرداتها النشطة للتعبير عن مطالبهم ومطامحهم ، وهذا ملمح آخر جديد على الشهود الحضاري المعاصر لألفاظ اللغة العربية التي لم تكن غائبة عن الحراك السياسي . ورغم أن الللغة العربية وبلاغتها المميزة لطبيعتها تتعرض لمحاولات تشويه مقصودة ومستمرة من قبل بعض الأشخاص الذي يطلقون على أنفسهم لفظ مبدعين وكذلك بعض المنظمات الأجنبية التي تعمل جاهدة ليل نهار على تقويض دعائم اللغة عن طريق المناداة بدعاوى مشبوهة لغوياً مثل التخلي التدريجي عن الخاصية الإعرابية للغة ، وعن طريق تهميش دور القواعد العروضية التي تمثل طقس الشعر وشرائطه الضابطة ، وأخيراً ضرورة الدمج بين اللغة الفصيحة واللهجات العامية تحت ظن أن الأخيرة أقرب في التواصل بين المتحدثين باللغة ذاتها. وهذا لغط شديد وخطأ بيِّن ، لأن الألفاظ العربية الفصيحة تمتلك قدرة هائلة بفضل اللفظ القرآني على الثراء والامتلاء اللغوي بمعنى القدرة على التعبير التام عن جميع المشاعر والمظان والحقائق ، بالإضافة إلى تمتع اللفظة العربية بالحضور عن طريق تنوع المعنى ودقة التوصيف .وتتميز اللغة العربية بمزية فريدة لا تشترك معها فيها لغات أخرى وهي مزية الانفراد اللغوي ، أي أن هناك كلمات تعد نشيطة أي قابليتها للاشتقاق والنحت اللغوي من مفردة واحدة مع الحفاظ على قدر مقبول من التمايز ، مثل مشتقات كلمة عَلِمَ ، والتي يمكن اشتقاق ونحت عدة كلمات منها مثل : عِلم ( بكسر العين وتسكين اللام) ومعلم ومعْلم ( بفتح العين وتسكين العين) وعليم ، وعلاَّم ، وإعلام ، وتعليم ، واستعلام .وهذه الزوائد والسوابق واللواحق والدواخل التي تضاف إلى الكلمة تعد مورفيمات (أصغر وحدة لغوية ذات معنى ) لأن هذه الزوائد مورفيمات لها معانيها ولأنها وحدات يكثر تواجدها في كلمات اللغة. وعملية النحت اللغوي تلك تمنح اللفظ العربي القدرة على الشهود الحضاري ، والقدرة على التكيف المقبول والمناسب لكافة المتغيرات المعاصرة ، والتعبير عن حالات اجتماعية متباينة . ثمة ظاهرة أخرى تتمتع بها الألفاظ العربية لتحقق الشهود الحضاري للغة ذاتها ، وهي ظاهرة الحوار بين الكلمات ، وهو ما اتفق على تسميته بين المنظرين اللغويين بالسياق اللغوي ، حيث إن المفردة اللغوية لا تتمتع بنوع من التمايز المستقل أو الاستعلاء اللغوي عن بقية الكلمات الواردة بنص لغوي معين ، ومفاد هذا أن اللفظة الواحدة تمثل الشكل الظاهري المجرد لنص معين ، وبتراص الألفاظ بصورة متناسبة ومترابطة تحت موضوع محدد تمنح للنص نفسه شكلاً باطنياً آخر بغير خلل. ملمح آخر يؤكد على الشهود الحضاري لألفاظ اللغة العربية ، وهو تقسيم الكلمات العربية إلى كلمات نشيطة ، وكلمات خاملة ، ويقصد بالكلمات النشيطة تلك الكلمات التي تعلم ليستخدمها المرء في كلامه وكتابته ، أما الكلمات الخاملة فيقصد بها تلك الكلمات التي يتوقع من الإنسان أن يفهمها إذا سمعها أو قرأها ، ولكن لا يتوقع منه أن يستخدمها إذا تكلم أو كتب . ورغم هذا التقسيم إلا أنه ليس ثابتاً ، فالحدود بين هذين النوعين حدود مرنة متحركة ، فالكلمات الخاملة في نشاط لغوي ( خطاب لغوي ) معين قد تكون نشطة في خطاب لغوي آخر ، أي أن الكلمات والألفاظ العربية في انتقال مستدام من دائرة الخمول إلى دائرة النشاط ، ذلك لأن لكل حقل وميدان لغوي من ميادين المعرفة مفرداته ومواضعاته اللغوية المحددة . الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة