"إنها فرصة لإصلاح الأخطاء التي وقعنا فيها". هكذا قال أحد كِبار الكتَّاب في مصر، تعليقا على تهديدات فرْع القاعدة في العراق للكنيسة الأرثوذكسية المصرية، بزعْم أن الكنيسة تأسر سيِّدتيْن مسيحيَّتيْن أعلنتا إسلامهما. بينما، قال البابا شنودة الثالث، إنها الشرّ الذي يجلب الخير. والشرّ هنا، فهو تلك التهديدات البائسة للمسيحيين المصريين، أما الخير، حسب البابا شنودة، فهو ذلك التعاطف الشديد الذي أبدته مؤسسات دِينية وشخصيات عامة ومواطنون عاديون تُجاه الأقباط ككل. المسألة هنا، ليست بالقطع مجرّد فرصة لإصلاح الأخطاء التي وقع فيها المسيحيون والمسلمون، رغم أهمية الدعوة، إذ هي أكبر من ذلك بكثير، إذ تمتدّ إلى قضية أمن الوطن ككل، بكل موارده ومواطنيه، بغضِّ النظر عن دينهم ووحدته الوطنية وتُراثه وتاريخه، وكل ما له صلة بالأمان الشخصي والأمان العام في البلاد، وهو ما يفسِّر انتِفاضة المؤسسات الرسمية والشعبية والناس العاديين ضدّ تهديدات القاعدة ورفضها رفضا تامّا، وهي الانتفاضة التي وصلت أيضا إلى جماعة الإخوان المسلمين، التى سارعت بإصدار بيان انتقدت فيه تهديدات القاعدة العراقية ووصفتها (التهديدات) بالحمقاء، وحملّت مؤسسة الأمن مسؤولية حماية الأقباط المصريين. كما وصلت أيضا إلى الجماعة الإسلامية، التي وصفت تهديدات القاعدة بأنها عمل غير شرعي. ومعروف أن الجماعة الإسلامية تراجعت عن أساليب العُنف، بعد أن مارستها عقدا كاملا، في مواجهة الدولة والمجتمع المصري في تسيعنيات القرن الماضي، جنبا إلى جنب مع جماعة الجهاد الإسلامي، والتي ينتمي إليها أصلا أيمن الظواهري، الرجل الثاني في تنظيم القاعدة. للمرة الأولى.. تهديدات مِن الخارج ما يجعل هذه التهديدات القاعدية مسألة لافتة للنظر، أنها المرة الأولى التي يتعرّض فيها الأقباط لتهديدات مباشرة من قِبل جماعة غير مصرية. كانت التسعينات من القرن الماضي، هي المرحلة الأكثر إثارة واستهدافا للمسيحيين والمسلمين والسائحين والمصالح الغربية ككل، وبعد جهود جبّارة، استطاعت قوى الأمن أن تُسيْطر بصورة كاملة على الحركات الإسلامية العنيفة التي دخلت في حرب مفتوحة مع الدولة المصرية والمجتمع المصري بكل أطيافه. هذا الإنجاز الكبير، يدفع الكثيرين إلى الاستنتاج بأنه لا وجود مُباشر للقاعدة في الأراضي المصرية، ولكنه وجود في الفضاء الإليكتروني، الذي يتلقَّاه كثيرون، ومِن بينهم متطرِّفون او مُتعاطفون مع القاعدة أو يميلون إلى أفكارها، وأنه، ما دامت هناك حالة توتُّر مجتمعي عام بين المسلمين والمسيحيين وهناك قدْر من الغضب إزاء ممارسات الكنيسة بوجْه عام، فربَّما يُحفِّز ذلك بعض ضِعاف النفوس للقيام بأعمال إرهابية ضد الأقباط وكنائِسهم، ومِن هنا، خطورة التهديدات التي أطلقتها دولة العراق الإسلامية ضد مصر وأقباطها. أو بمعنى آخر، أن خطورة التهديدات القادِمة من قاعدة العراق، أنها تجِئ على خلفية توتُّر بين جناحَيْ الأمة المصرية يزداد عُمقا، ووصل إلى مدى خطير بعد أن صرّح أكثر من قِسٍّ كبير في الكنيسة الأرثوذكسية، بأن مسلمي مصر هُم مجرّد "ضيوف" على الأقباط، الذين هُم أصحاب البلد الأصليين، ووصل الأمر ذِرْوته مع تصريحات الانبا بيشوى، وهو الرجل الثاني في الكنيسة، والتي ذكر فيها وجود آيات في القرآن تحُول دُون التفاهم الإسلامي المسيحي، مُلمِّحا إلى أن هذه الآيات قد "وُضِعت في عهد عثمان"، أي بعد موت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مما يعني أن القرآن مُحرَّف، الأمر الذي أثار غضب جموع المصريين غضبا شديدا. ولم يتِم احتواء هذا الغضب الإسلامي، إلا بتصريحات قالها البابا شنودة للتليفزيون المصري، اعتُبِرت بمثابة اعتذار غير مباشر عن تصريحات الرجل الثاني في الكنيسة، مما أسهم في تهدئة الخواطر نِسبيا، ولكن دون الوصول إلى حدِّ التَّجاوز عن خطإ الانبا بيشوى الجسيم أو نِسيان حالتيْ وفاء وكاميليا، اللَّتين تُعتَبران في عُرف جموع المسلمين، قد أسلمتا، ولكن الكنيسة تحتجِزهما دون وجه حقّ، وبالتالي، فإن الدولة قد قصَّرت - برأيهم- في حق حماية المواطنين. ورغم دعاية الكنيسة بأشكال مُختلفة، أن كلا السيدتيْن في أماكن آمنة وأنهما لم تتخلَّيا عن المسيحية، فإن الاتِّجاه الغالب بين جموع المصريين هو عكْس ذلك. الاستهداف من أكثر من جهة دخول القاعدة على خطِّ التوتُّر بين المسيحيين والمسلمين، كشَف حقيقة أن مصر مُستهدَفة من أكثر من جهة وأن وجود التطرّف الدِّيني في أي مكان في المنطقة العربية، دون السَّيطرة عليه والإجهاز على فعاليته، كفِيل بأن يؤجِّج الوضع الداخلي المصري. والدَّرس البالغ هنا، برأي العديد من المحللين أن انسحاب مصر من مجالها العربي، يُعدُّ بمثابة دعوة للآخرين أن يأتوا إلى عُمقها، للعَبَث بمصيرها، وهو درس مُوجَّه - حسب نفس المحللين - إلى دُعاة العُزلة بين مصر والعالم العربي أو دُعاة الاكتِفاء بالفُرجة على ما يجري لدى الجيران، دون محاولة السيطرة على الوضع أو الإشتِباك مع القضية نفسها، ومفاده أن أمْن مصر مُرتبط بأمن العرب جميعا وأن تدهْوُر وضْع أي بلد عربي، سيُثير تداعِيات على الداخل المصري بشكل ما. والدَّرس الأهم الثاني، يتعلَّق بوِحدة البلاد وتماسُكها الوطني. والواضح، أن هناك ثغَرات وثُقوبا كبيرة في جدار الوِحدة الوطنية المصري، وبما أغرى تنظيما صغيرا، لا علاقة له بأي شيء في مصر لكي يتدخّل ويحدّد أجندة عمل للمصريين، لا تساوي شيئا بالنسبة لهم. والسؤال الذي يُطرح هُنا، يتعلَّق بأسباب لجوء قاعِدة العراق إلى تبرير فعلة الجريمة النَّكراء ضدّ مسيحيِّي العراق الكاثوليك في كنيسة سيدة النجاة في حي الكرّادة في بغداد، بشيء يحدُث في مصر، ولا علاقة للعراق به. والإجابة المباشرة، تتعلَّق برغبة التنظيم المجرم بأن يحصُل على تأييد وتعاطُف المسلمين، سواء في العراق أو في غيرها، باعتبار أنه فعل الجريمة من أجل هدف نبيل، وهو إطلاق سراح سيدتيْن مسلمتيْن من أسْرِهما. وفي حالة صحّة هذا التفسير، فهذا امتداد لرؤية القاعدة المشددة على أن العالم الإسلامي كله يُعَدّ مسرحا للنشاط الجهادي. سيدتان عراقيتان تمران أمام باب مليء بثقوب خلفتها العيارات النارية داخل كاتدرائية "سيدة النجاة " وسط بغداد يوم 4 نوفمبر 2010" (Keystone) التحوّل في الإدراك "القاعدي" أما الإجابة غير المباشرة، فتتعلق بهل هناك تحوّل في رُؤية وإدراك القاعدة الأم وأنه حان الوقت لتطوير الهجوم على الأعداء في أكثر من مكان؟ وفي ذلك عودة إلى نظرية العدُو البعيد والعدُو القريب. ومن قبل، كانت هناك أولوية لمحاربة العدُو البعيد. والآن، تبدو الأمور مرتبِكة لدى أعضاء التنظيم ولم تعُد لديهم خطوط فاصلة فيما ينْوُون الإقدام عليه، وبالتالي، يختلِط الصِّراع مع العدُو البعيد، أي الولاياتالمتحدة، ومع بلد مسلِم وكبير، مثل مصر. والمؤكَّد هنا، أن القاعدة لا تهتَم بأرواح الأبرياء ولا تعرف الحدود بين الدول. والمرجَّح، أنها بفعلتِها هذه، تُدشِّن مرحلة جديدة من الصِّراع والمواجهة مع النُّظم العربية، التي تعتبِرها القاعدة امتدادا للشيطان الأكبر، ومن بينها مصر، والتي رغم كفاءة الإجراءات الأمنية التي اتخذت لحماية الكنائس في ربوع المحروسة، فإنها تشعُر بقلق كبير، ولاسيما وأن البلاد تدخل الآن مرحلة الإستعدادات المكثَّفة للانتخابات، والتي عادة ما تكون فترة ساخِنة تشهد العديد من ظواهِر العنف والتدخُّل الحكومي والأمني، الفجّ أحيانا، لصالح المرشَّحين القريبين من الحكومة والحزب الوطني الحاكم. وأخيرا، هل ستدخل مصر مرّة أخرى دوّامة المواجهة الدّامية مع التنظيمات الإسلامية المُتطرِّفة، بما في ذلك، تلك القادِمة من وراء البحار؟ مصادر النظام هنا، تؤكِّد أنه لا وجود للقاعدة في مصر، ولكن ربما هناك خلايا متطرِّفة مشحونة بالطائفية وكراهية الآخر، تقرِّر اللجوء إلى العُنف ضدّ ما هو مصري، مستلهِمة في ذلك أساليب القاعدة، وإذا حدث ذلك، ستكون مصر أمام اختبار أمني شديد، سيتطلَّب عِلاجه فاتورة باهِظة الثمن. المصدر: سويس انفو