كان لي قديما صديق يساري مثقف يكثر من مقولة لينين (لا تتهموا الجماهير)..ولينين زعيم ثوري يعرف قيمة الجماهير فى التغيير ..فهي الرقم (الملك) فى معادلة التغيير والثورات .والثورة الروسية بالذات كان دور العوام والجماهير الغفيرة فيها حالة تستحق الدراسة إذ تعرض لنا ما سماه جوستاف لوبون (سيكولوجية الجماهير) وهو عنوان لكتاب شهير صدر له عام 1895م. بعض الأفكار التي تطرق إليها لوبون كأحد مؤسسي علم نفس الجماهير تخطاها الزمن الآن وما عادت من الركائز التي ترصد الجماعات البشرية خاصة فى الغرب الذي تحول من كتل(العامة) إلى مجموعات منظمة من (المواطنين)المدركين لحقوقهم وواجباتهم تحت راية العقد الاجتماعي..
في رؤيته للعلاقة مع العامة يذكر لوبون أن(للكلمات الرنانة سطوتها وللأوهام حضورها الأسطوري على اعتبار أن العامة غير قادرة على استيعاب الحجج العقلية.) الخطاب العقلاني لا يجذبها لأنها تفضل كل ما هو بسيط .. محركو الجماهير من الخطباء لا يتوجهون إلى عقلها بل إلى عاطفتها فقوانين المنطق العقلاني ليس لها أي تأثير فيها.
كثيرة هي الأدبيات السياسية والاجتماعية من كل الاتجاهات التي تحتوى على تعاريف وأوصاف ودراسات للجماهير لما لها من تأثير خطير على المجتمعات التي تعيش الإحتقان السياسي والاجتماعي بمنعطفات حادة أو تعيش تطورات سريعة في مختلف المجالات كما لدينا الآن فى مصر..
انشغلت العرب قديما بمسالة العوام وهم لهم مكانة معتبرة فى الإسلام .فهم جموع (الأمة) التي لا تجتمع على ضلالة ..كما قال الرسول الكريم ولاحظ وصف( أمة ) الذي يحظى فى الأدبيات الإسلامية بمكانة سامية وتقول الآية الكريمة (ولتكمن منكم أمة يدعون إلى الخير ...) ..وبالأحرى نستطيع أن نقول أنه فى المجتمع الإسلامي الواعد ستجد أن صفة العامة من الناس (العوام) تكاد لا تكون..ذلك أن الخطاب الإسلامي للفرد اعتقادا وعبادة وأخلاقا ..يجعل منه حالة(إنسانية) له من سمات الرقى ما يرتفع به عن حالة (العوام)..إذ يجتمع كما قال الرسول مع نظرائه فى تكوين (الأمة)..
ما أن نبتعد قليلا عن عصور الرشاد وندخل فى عصور الملوك والسلاطين حتى تظهر لنا مفردة(العوام) كثيرا ..عوام عصور الرشاد وصفهم الإمام على بأنهم(عماد الدين وعدة الأمة.)...(عوام) العصور التالية وصفهم الجاحظ بأنهم(السفلة ..الذين ليس فى الأرض عمل هو أكد لأهله من سياستهم...قاربوهم وباعدوهم كونوا معهم وفارقوهم واعلموا أن الغلبة لمن كانت معه العوام وان المقهور من كانت عليه..) إدراكاً منه لوزنهم ولأهمية السيطرة على الثقافة الشعبية التي كانت ساحة صراع بين تيارات واتجاهات سياسية فكرية متنازعة وكان لها أيضاً دورا هاما في حسم هذا الصراع ...لم يبخل عليهم أبو حيان التوحيدي أيضا بأوصاف شبيهه فقال إنهم(الهمج الرعاع الذين إذا قلت لا عقل لهم كنت صادقا..). و يتابع آخذا في الاعتبار وجودهم كونهم: (هم في هذه الدار عمارة لها ومصالح لأهلها ولذلك قال بعض الحكماء: لا تسبوا العامة فإنهم يخرجون الغريق ويطفئون الحريق ويؤنسون الطريق).
لدى تحيز ذاتي إن لم يكن موضوعي عن شخصيتين فى التاريخ الإسلامي استطاعا تدبير_ لا ترويض _ العوام الأول هو حجة الإسلام أبو حامد الغزالي الذي اجتمعت له ثقافة الأمة العقلية والنقلية من أطرافها والثاني هو الإمام حسن البنا الزعيم والفقيه و مؤسس أكبر تنظيم شعبي فى العصر الحديث.
ما عجز عنه كل من الجاحظ والتوحيدي في تدبير العوام يمارسه الغزالي بمهارة وإتقان. فقد استطاع أن يسوس العوام في جيشهم ضد الفلاسفة أمثال الكندي والفارابي وابن سينا باعتبارهم مبتدعة لكنه أيضاً يحيد هم حين لا حاجة له بهم فهؤلاء عليهم أن لا يخوضوا فيما ليسوا بأهل له وقد حمل أحد كتبه عنوانا ذي دلالة هو ( لجم العوام عن علم الكلام)وكتابه الأشهر (تهافت الفلاسفة) أشهر من أن يعرف.
الإمام حسن البنا استطاع تدبير العوام فى تنظيم شعبي ضخم يعتمد بالأساس على (الفكرة الدينية)..كان البنا يتحرك فى الزمن الصعب كما يقولون ..فعواصف العلمانية التي هبت من الغرب على أثر التجربة الدينية المريرة فى أوروبا_ والتي نهض بعد أن فاصلها وهجرها_ ما لبثت أن جاءت إلى الشرق الإسلامي الذي قام ونهض على أثر التجربة الدينية وضعفه واضمحلاله كان على اثر مفاصلتة وهجره(الفكرة الدينية).. وصعوبة زمن البنا تكمن فى أن هذه الأفكار لم تأت عبر صفحات الكتب فقط وإنما جاءت على ظهر الدبابة والمدرعة فكانت المواجهة الكبرى لتحرير العقل والأرض ..
كانت تجربة من سبقوه من رواد الإصلاح تراوح المفكرين والمثقفين ..وتلفت فوجد أن من وصفهم الرسول الكريم ب(الأمة) التي لا تجتمع على ضلالة قد انفرط عقدها من سابق الزمن ومن وصفهم الإمام على ب(عماد الدين وعدة الأمة) ما عادوا أمة وما عادوا عماد الدين ..وأدرك البنا بحسه السياسي والزعامي المرهف أين موطن( العلة) وكيف يكون العلاج..وما كان عليه إلا أن يبدأ وإذ وهبه الله قبولا وجاذبيه وخطابه(والإنسان منا هو أعرف الناس بمواهبه) فما كان عليه أن يتأخر فذهب يبحث عنهم من فوره وكانوا على موعد ..وما هى إلا سنوات عديدة إلا ونجد صورة الرجل على غلاف مجلة روزا اليوسف وتحتها عنوان لا تخطيء العين دلالته (هذا الرجل يتبعه مليون رجل) ..إحسان عبدالقدوس الذي كتب هذا التحقيق وقتها .. سيكتب فى أيامنا بابا شهيرا فى الصحف المصرية (على مقهى فى الشارع السياسي) كان إحسان يدرك ما يقوله ويعنيه فهو نفسه كروائي وكاتب سياسي كان جمهوره من (العوام).
تدبير العوام الذي أحكمه البنا فى تنظيم كبير ..استلهم فيه أفكار الإمام محمد عبده عن التعليم كرافعة كبرى لنهضة الأمة ..وإذ كان التعليم قد قصم ظهره من الأيام الأولى لدولة (محمد على) بالفصل بين التعليم الديني والتعليم المدني فاتجه الرجل إلى التعليم والتربية فيما عرف داخل التنظيم ب(بالأسرة) وأفاض الرجل كثيرا فى شرح مفردة(الفهم) الذي اعتبره ركنا أول فى (بيعة) الإصلاح والنهوض..ولم يوافيه العمر بما كان يريد إتمامه من دعوة المفكرين والمثقفين لتحمل مسؤوليتهم معه وفضلوا العمل من برجهم العاجي بعيدا (العقاد واحمد أمين وشاكر..وغيرهم) وهم بالأساس كانوا قد تصالحوا مع (الفكرة الدينية) على عكس موقف العلامة (على طنطاوى) الذي رجاه البنا أن يكون(مرشدا) للجماعة لكنه اعتذر ناسبا الفضل لأهله.. الشهيد سيد قطب أيضا كمفكر وإصلاحي تعليمي كبير.. سيكون له موقف سلبي ضد الجماعة ما يلبث أن يتغير عنه بعدها لاحقا بفكرة البنا عن أهمية (التنظيم الشعبي)كنواة لمفهوم(الأمة) لكنه ذهب بعيدا فى أرائه.
الفنانون أيضا سنجدهم يعتبرون العوام اعتبارا كبيرا..ذلك أن وزنهم النوعي يقدر بحجم (جماهيريتهم)..وها هي السيدة أم كلثوم بعد أن كانت تغنى (ريم على القاع بين البان والعلم) أصبحت إدراكا منها للتحول لدى(العوام) إلى التسطيح والتسفيه فى عهد عبد الناصر تغنى(يا العيب فيكوا يا فى حبايبكو..!)..الأستاذ عادل إمام والأستاذ عمرو دياب سيضبطون بوصلتهم على بوصلة الجماهير بالأساس.. هم غير مشغولين بوعى هذه الجماهير ولا بفكرة الارتقاء بهم بأكثر مما هم مشغولين بحجم جماهيريتهم .
قديما قال إن الشعوب على دين ملوكها ..الآن الشعوب على دين إعلامها ..الإعلام هو( كلمة السر) فى تدبير العامة من الناس ..وهو ما تنبأ به جورج أورويل فى رواية(الأخ الكبير) حيث أفاض فى الحديث عن دور الإعلام فى التحكم بالجماهير وتوجيهها كما يشاء أصحابه ..العالم كله يشهد نوع من الاتفاق بين الإمبراطوريات الإعلامية والقيادات السياسية لأنهم فى حقيقة الأمر يخدمون هدف واحد ..وهو (ترويض العامة والجماهير) .. وتذكروا كلمة الجاحظ من (واعلموا أن الغلبة لمن كانت معه العوام وأن المقهور من كانت عليه).