برهنت الأحداث الأخيرة، سواء ما تعلق منها بالاحتقان الطائفي في الإسكندرية، أو أزمة القضاة والقضاء في القاهرة، وكذلك أحداث سيناء، على الثوابت التي باتت دون غيرها تتحكم في السياسة الداخلية للنظام الحاكم في مصر ، بحيث لم يعد يحيد عنها ولو قيد أنملة، يستوي عنده في ذلك ليس فقط رأي الشعب في تلك الثوابت، بل أيضا رأي كل الآخرين بمن فيهم واشنطن، لا لشيء سوى لقناعة راسخة لدى السلطة، بأن في تلك السياسة - وحدها - الضمانة الوحيدة لبقائه، وأن الحيدة عنها ستؤدي إلى انهيار النظام سريعاً ، وربما بشكل فوضوي، وهي قناعة يراها الشعب في مصر - وبات يراها الآن أيضا العالم الغربي - بشكل معكوس تماماً. ويبدو أن السلطة في مصر، لم تعد تتابع ما يُكتب عنها في الصحافة الغربية، وإلا لأعادت التفكير ألف مرة قبل اتخاذ قرار الاستمرار في السياسات الداخلية المتبعة حتى الآن، والتي لم يعد لها بين الناس سوى تفسير واحد، مفاده أن بقاء النظام وأمانه، لا تعادله غاية أخرى بما فيها أمن وأمان الشعب كله، بمؤسساته - وسلطاته - المختلفة. وعليه فقد باتت المهمة الرئيسة لأجهزة الأمن الداخلية المصرية، هي حماية النظام لا القانون، ولا يهم أي شيء بعد ذلك، وربما هذا ما يفسر دون لبس أحداث الإسكندريةوسيناء والقضاء. فبدلاً من أن تهتم وزارة الداخلية ووزيرها بتطبيق القانون بشكل عادل في الشارع المصري، وبالتالي الحفاظ على الأمن الداخلي من اللصوص والمحتالين والفاسدين، والمرتشين وحتى البلطجية والإرهابيين، بات همها الأوحد حماية النظام الحاكم ورموزه، من الشعب وقواه الوطنية والديموقراطية، وحتى من قضاته . هذا بالضبط ما نشرته وتنشره صحف العالم كله الآن وبخاصة في الغرب، وباتت التعليقات والصور عما حدث ويحدث في الشارع المصري، وبخاصة الأحداث الأخيرة في الإسكندريةوسيناءوالقاهرة تملأ صفحات الصحف والمجلات، وعناوين الأخبار الرئيسة في المحطات التلفزيونية التي يلتف حولها في فترة البث الرئيسة عدة مئات من الملايين في أوروبا وحدها . استنتج أحد المحللين الألمان المتخصصين في الشؤون العربية، مع واحدة من أهم المحطات الإخبارية الأوروبية - أثناء تعليقه على أزمة القضاة في مصر، أن النظام يعيش أيامه الأخيرة. وقارن بين السياسات التي يتبعها النظام في مصر الآن، والسياسات التي اتبعها الرئيس الراحل أنور السادات في أيامه الأخيرة، مشيراً إلى أن الفرق الوحيد بين الحالتين يكمن في أن نظام الحكم في مصر أيام السادات، كان لأسباب عدة مسيطراً على الأوضاع بشكل عام ، أكثر بكثير مما هو عليه الحال الآن، واحتفظت مؤسسة الرئاسة في مصر، حتى آخر أيام حياته بهيبتها، حتى لدى ألد أعدائه وخصومه، على عكس الحال الآن في مصر ، بالرغم من أنها تبدو غير ذلك . فما يحدث يؤكد على انعدام الضمانات الحقيقية لدى النظام في استمرار تعاطف وولاء الأجهزة المختلفة في مصر، وهو أمر لم يحدث بين يوم وليله، وإنما نتيجة السياسات المتبعة داخل تلك الأجهزة في العشر سنوات الأخيرة تحديداً، وهو أمر مختلف عما كان عليه الحال أيام الرئيس السادات ، حيث استمر ولاء تلك الأجهزة للرئيس الراحل حتى يوم وفاته قائماً. هذا علاوة على أن القوى السياسية المصرية الحقيقية، وتحديداً التيار الإسلامي المعتدل ، برهن عبر الانتخابات البرلمانية الأخيرة على انه موجود بقوة في الشارع، ويستطيع تحريك ولو قطاع منه في التوقيت والمكان الذي يريده، في حين كانت تلك القوى أيام السادات مبعثرة ومشتتة بشكل كبير. إضافة إلى أن الرئيس السادات حين خاض معاركه الأخيرة استثنى بذكاء شديد القضاء والقضاة من تلك المعارك، مبقياً على علاقاته القوية برموزها، حتى مع اختلافهم معه في الرأي، لعلمه التام، بأنها تمثل الخط الأحمر الواجب عدم تجاوزه ، وهو ما لم يفعله الرئيس مبارك. ولذا فحتى وإن طالت فترة بقائه أكثر من ذلك - فسيظل فاقداً لكل غطاء شرعي لحكمه ، بعد أن فقد شرعيته الأخيرة حين اصطدم بالقضاء - وهي آخر شرعية كان يمكنه اللجوء إليها. أشار الإعلام في الغرب، إلى أن ما أقدم عليه النظام ، لم يترك فرصة، حتى لأشد العناصر تأييداً له ضمن الحكومات الغربية، لإعلان استمرار تأييدهم له، وإلا خسروا تأييد الناخب لهم. قد تتباين الرؤى - في الغرب - في قضية الديموقراطية، وطرق تطبيقها في بلدان العالم الثالث. وقد تتباين حول قضايا الفساد والمحسوبية والرشوة، باعتبارها قضايا "نسبية" ، يمكن تقييمها بدرجات متعددة، انطلاقاً من اختلاف زوايا الرؤية حولها، لكن المرء لن يجد طرفاً رسميا واحداً في الغرب يختلف في تفسيره عن الآخرين في قضية سيادة القانون، واستقلالية القضاة والقضاء. لفترة طويلة ، أغمضت دوائر غربية كثيرة عينها عما يحدث في مصر وشعبها . لكن أحداً الآن لم يستطع إغماض العين حين سُحل القضاء، وأدرك الكثيرون أخيراً أن النظام لم يستفد على الإطلاق من تجارب الآخرين، حتى في رومانيا . هذا ما يقوله الإعلام في الغرب، فهل يقرأ مستشارو الرئيس مبارك؟ [email protected]