لقد نكأ د.عصام جراحا ًلم تندمل حينما قلّب صفحات من تاريخ الأمّه السياسى عبر مقاليه الرائعين بجريدة المصريون حول الأحزاب السياسيه"بناء نموزج ديموقراطى..والوسائل والآليات" وإننى لأغبطه على هذه الروح الوثابه التى جعلت انشغاله بهموم الأمه يطغى على انشغاله بهمه الشخصى فى محبسه ..وعزائه أن دعوات حاره تغافل السجان فى كل ليله وتتسلل إلى السماء من قلوب ملايين تحبه وتدعو له بالثبات والفرج القريب هو وصحبه الكرام... وبادىء ذى بدء أود أن أؤكد على ضرورة الإنشغال بمثل هذه الموضوعات إلى الدرجه التى تليق بأهميتهاحيث أن قيام دوله اسلاميه"نموزج"وليست مجرد تجربه كما حدث فى السودان وإيران يمر عبر مراحل ثلاث:- مرحلة التقنين والتنظير مرحلة التجريب مرحلة التطبيق "الحكم الرشيد" وهذه المراحل يمكن أن تكون متوازيه أو متداخله وأحسب أن مرحلة التقنين والتنظيرمن أهم وأخطرالمراحل التى تحتاج إلى جهود وأوقات وعقول المخلصين من رجالات الأمه من الإختصاصيين . مرحلة التقنين والتنظير ترجع أهمية هذه المرحلة إلى مجموعه من العوامل التى يمكن أن نجملها فى الآتى:- -1أن الإسلام بعيد عن منصة الحكم منذ عقود طويله -2أن آخر مراحل دولة الخلافه كانت تمثل مرحلة ضعف وتردى -3أن الفقهاء تركوا لنا ميراثا ضخما من التراث الفقهى الذى ارتبط بالزمان والمكان والظرف الذى عاشوه..فهو لم يوضع لمعالجة مشاكل عصرنا -4أن القرآن بطبيعته جاء بقواعد عامه وقضايا كليه ولم يضع أى تفاصيل لقضايا الحياة لأنها متجدده ومتطوره والإكتشافات والمخترعات لا تتوقف -5أن باب الإجتهاد فى العصور المتأخره لاأقول كان مغلقاَ ًَبل أقول كان مواربا ًفلم يسايرمستجدات العصر -6أن المكتبه الإسلاميه ذاخره بالمؤلفات والشروح والتصانيف ,والحواشى فى كل فروع الفقه باستثتاء الفقه السياسى والدستورى الذى عانت فيه المكتبه الإسلاميه من فقر شديد"ومن أشهر ما وصل لأيدينا الأحكام السلطانيه للماوردى والأحكام السلطانيه لابن الفراء والسياسه الشرعيه لابن تيميه وربما يعتبر البعض كتاب الخراج لأبى يوسف قريب من فكرة الإقتصاد السياسى ثم متفرقات ضمنها الفقهاء كتبهم فى تناولهم لقضية الإمامه وشروطها ووجوب نصب الإمامه" -7فى المقابل نهضه غير مسبوقه حققها الغرب فى تطوير مؤسسات ونظم الحكم فى مجالى التنظير والتطبيق مما تسسب فى فتنه أجيال من المسلمين تاره بالإشتراكيه وأخرى بالرأسماليه -8بدلا من سد الثغرات والإنشغال بالبحث والتنظير اختار البعض منهجية الإستسهال وسارعوا إلى تقديم اصدارات تنفى أى صلة للإسلام بالحكم وتقديمه فى صوره أقرب لتلك التى قدمتها الكنيسه عن المسيحيه كما فعل الشيخ على عبد الرازق فى كتابه المثير للجدل الإسلام وأصول الحكم ونقول منهجية الإستسهال بدلا من الخوض فى الإتهامات التى اعتبرت على عبد الرازق وكيلا عن الكاتب الحقيقى سواء كان طه حسين أم أحد المستشرقين كما ورد فى بعض الشهادات -9أن كثيراً من المثقفين والنخب تأثروا بالفكر العلمانى وقد وصلت درجة تبنى بعضهم لهذا الفكر أنهم لا يرون فى الإسلام أى صلاحيه لقيادة الحياة وخاصه فى مجالى السياسه والإقتصاد والبعض جند نفسه ليكون حربا على الإسلام ودعاته إما جهلاً بحقائق الإسلام أو لحساب من يدفعون. -10أن كثيرا من الحكام فى عالمنا الإسلامى عملوا كوكلاء للإستعمار بعد جلاءه وحاولوا فرض النهج العلمانى على الأمه وغيروا مناهج التعليم لاستبعاد مفهوم الإسلام الشامل مما أنتج شعوبا لا تعرف من الإسلام إلاّ العبادات -11 السياسات المستمره لتحجيم الأزهر وتقزيم دوره وإفقاده استقلاليته وإفقار علمائه مما قلل من فرص ظهور العلماء المجتهدين الذين يجمعون بين العلم الشرعى والدرايه بالواقع . -12 كثرة فترات الصراع السياسى التى مرت بالأمه واستخدام عناصر غير سويه فى الحكم "نموزج الحجاج" -13 الوصول إلى مرحلة الملك العضوض بسرعة غير متوقعه..فإن التبديل والتغيير والإحداث يقع فى كل الأمم ولكن ليس بهذه السرعه أن تحدث ثلمه فى أخطر قضيه وهى الحكم وتصل لأسوأ منهجيه وهى منهجية التوريث ليصبح الدم أوالعرق هو معيار التفاضل والصلاحيه عند أمه جاء دينها ليحرر الناس من كل هذه المعايير الفاسده . -14 التناول الفقهى للتعامل مع الفتن الذى أفرز نتائج خطيره مؤداها أن يتخذ أهل العلم والفقه وأولى العقل والنهى مواقف سلبيه إزاء الفتنه بينما يقود الموقف الدهماء والسوقه بدعوى أن الفتنه الواقف فيها خير من الماشى وكما حدث فى فتنة مقتل الخليفه الراشد عثمان" ر" وصدق رسول الله"ص" حينما قال:"تنقض عرى الإسلام عروة عروة..أولها الحكم وآخرها الصلاه"....لكل هذه الأسباب وربما غيرها كثير لم تسعه هذه العجاله تكتسب مرحلة التقنين والتنظير أهمية خاصه ولقد سجلت الحركه الإسلاميه اهتماما مبكراً بهذا الموضوع بدأه الإمام محمد عبده باجتهاداته السابقه لعصرها ثم تجربة الإمام البنا التى أحدثت نقله كبيره فى إعادة صياغة مناهج الإسلام من مجرد فتاوى فى قضايا متفرقه فى العقائد والعبادات والأخلاق إلى صياغه تتوافق مع مفهوم الدوله الحديثه التى تقدم الإسلام كأنظمة حياه كالنظام السياسى والنظام الإقتصادى والنظام الإجتماعى والنظام القانونى وبرزت فى هذا المجال إسهامات عبد القادر عوده فى سعيه لإخراج موسوعة القوانين الإسلاميه والتى صدر منها التشريع الجنائى فى الإسلام ثم اجتهادات سيد قطب فى تصوره عن العداله الإجتماعيه فى الإسلام واهتمامات د.عيسى عبده المبكره بالإقتصاد الإسلامى ثم أطروحة د.القرضاوى فقه الزكاه فى الإسلام أمّا القصه التى تستحق أن نتوقف عندها كثيراً فهى قصة خروج رسالة د.على جريشه إلى النور فحينما تقدم لتسجيل رسالة الدكتوراه اختار لها موضوع المشروعيه الدستوريه العليا فى الإسلام ولم يتحمس أغلب من عرض عليهم الإشراف على الرساله للتعامل مع الموضوع بدعوى أن موضوع الدساتير اختراع حديث لم يتجاوز عمره المائتى عام وأن الإسلام لم يعرف هذا النوع من العلوم القانونيه ولكن الباحث أصر على أن الإسلام يتضمن أرقى ما توصلت إليه البشريه من مبادىء دستوريه ويتفوق على أعرق الديمقراطيات فى ذلك لأنه نهج سماوى لا ينحاز لطبقه ولايحابى أمّه أو شعب إنما يضع قواعد لصلاح البشر جميعاً ثم أجيزت الرساله بتقديرات عاليه ثم صدرت طبعتها الأولى من مكتبة وهبه فى نهاية السبعينيات ثم تحمس د.هشام الطالب ورفاقه لإنشاء معهد الفكر الإسلامى العالمى الذى بذل جهوداً مشكوره فى هذا المجال وهناك اجتهادات كثيرة يصعب حصرها فى هذه العجاله كأعمال د. ضياء الدين الريس ود.حامد ربيع ثم د. حامد عبد الماجد فى المجال السياسى ود.ابراهيم بيومى غانم فى المجتمع المدنى ود. عبد الحميد الغزالى فى الإقتصاد وجهود د. سيد دسوقى فى محاولاته الدؤوبه لصياغة نظريه تنمويه إسلاميه ثم أخيراً كتابات العريان التى تكتسب أهميتها من كونه ممارساً للسياسه ومهموماً بها . بل إن البعض قد تنبه إلى خطورة دور العلوم الإنسانيه التى تأسست من منظور غربى مادى فكانت هناك محاولات جادة مثل تلك التى قام بها د. محمد عثمان نجاتى فى اصداره العظيم "علم النفس فى القرآن الكريم" ثم تلاه "علم النفس فى السنه النبويه" . إن سقوط الأمم وانهيار الدول والحضارات يبدأ بعالم الأفكار والتصورات وينتهى بعالم الإخلاق ومن هنا يتوجب على كل مسلم أن ينظر لهؤلاء العظام نظرة تقدير وامتنان مع دعاء خالص من القلب أن يتقبل الله جهدهم فى خدمة الإسلام خدمه جليله غفل عنها الكثيرون هم وكل من لم يسعهم المقال من أمثالهم وهم كثر ونتطلع إلى غد أكثر إشراقاً تسود فيه الفكره الإسلاميه ليحى من حى عن بينه ويهلك من هلك عن بينه ...ونكمل فى مقال قادم إن شاء الله [email protected]