ثلاث دوائر تتحرك فيهم رواية بشير الرشيدي " مجاهد": أولها: دائرة التحليل النفسي أو السلوكي لفرد القرية الراغب في حراك اجتماعي يتمرد به على واقع القرية الخامل؛ كذلك تحليل نفسي أو سلوكي لتلك النوعية من ضباط الأجهزة الأمنية الذين يعيشون واقع انفصام، فكثير منهم يحاول أن يقتنع أنه يعمل لحفظ كيان الدولة لكنه في التحليل الأخير يدرك تماما أنه يعمل لحفظ أمن النظام وتحديدا مجموعة من الشخصيات الحاكمة ليسوا بالطبع هم الدولة ولا الدولة هم، وإن دوره في اختراق كل التكوينات الاجتماعية والسياسية المعارضة واستقطاب شخصيات هشة التكوين النفسي لتعمل عيون وآذان على تكويناتهم المحلية أو الطبقية دور لا يراد به وجه الله ولا وجه الوطن، إذا كانت الدولة القومية الحديثة تعترف أن الله له في بنيانها أو أعمالها نصيب. كما قدمت الرواية تحليلا نفسيا أو سلوكيا عميقا لنمط الشخصيات العقائدية التي تعضّ على صورها الذهنية بالنواجذ وتتماهى معها وبها، فلا تدرك شيئا خارج تلك الصور الذهنية، ولديها الاستعداد التام لأخذ الطريق إلى منتهاه ولا تعرف الرجوع من منتصفه. وبعيدا عن التحليل النفسي أو السلوكي يلمس الرشيدي مساحات غائرة في النفس البشرية عندما تدرك الزوجة صدق زوجها وعزمه على خلع رداء التبعية للأجهزة الأمنية، فبنت الرجل الصادق "ذرية بعضها من بعض" ما تزوجته إلا لأنه يحمل كلمة السر من أبيها لا حبّا فيه؛ وتظل تبعيته للأجهزة الأمنية حاجزا زجاجيا في العلاقة بينهما حتى إذا رجع إلى رشده وعزم ألا يستمر في ذلك الدور المشين، تضمّه ضمّة ما ضمّتها له من قبل؛ نعم كانت عزيزة لا تبصر لكن: إن فقدان البصر لا يعني فقدان البصيرة، لقد كان أبوها صالحا. - مجاهد أشعر بك مختلفا اليوم - أشعر أنك أقرب على قلبي من ذي قبل - اقترب مني بل ضمني إليك بقوة ...أنت وجودي وحبي وقلبي - قام مجاهد وضم زوجته؛ شعر لأول مرة معنى الحياة؛ اشتاق أن تستمر الحياة، كانت الضمّة بالنسبة لعزيزة هي بداية علاقة؛ ولكنها بالنسبة لمجاهد هي ضمة وداع (ص 178). الدائرة الثانية: هي دائرة السجون، لقد أثبتت تجربة السجون العربية أنها أكبر مورد لحشود العقائديين؛ وأنها مفرخة الشباب المكون عقائديا والمتجه للغلو والتطرف وتظل بيئات القهر تلك هي أكبر مولّد للعنف في عالمنا العربي والإسلامي، فالقهر يولد تكفيرا والتكفير سبيل التفجير، وكل ذلك محله العقول والقلوب قبل أن تثبت أعمال الجوارح تلك المعتقدات وتصدقها؛ وتتطاير أشلاء بشر لا ناقة لهم ولا جمل في صراع دائر بين طرفين هم لا يدرون عنه شيئا وليسوا طرفا فيه أصلا، إن أكثر الشخصيات مساهمة في طاحونة الحرب الدائرة بين النظم العربية والإسلامية ومعارضيها هم الشباب الذي لا يوجد لديهم ما يبكون عليه، لقد بدأ مجاهد يفكر في الانتقام من العسكر الذين يحرسون السجن ويأخذ ثأره منهم وليكن ما يكون؛ لم يعد عنده شيء يخسره (ص 51). وربما كان إهداء الرواية لتلك الأجهزة التي لا تجعل للشباب ما يبكون عليه هو أقرب للتوسل منه لتقديم العمل الأدبي "نرجوكم لا تزيدوا طاحنة الحرب حَبّا" فأنتم لا تخدمون وطنكم حقيقة بل تخدمون الجالس على الكرسي. ويبدو تواطؤ الأجهزة الأمنية عندما تجعل بعض الأماكن على أسوار السجن غرضا لمن يفكر في الهرب؛ وعلى تلك الأسوار يُذبح الشباب ذبحا ويُصفّى كل من لدية نزعة في الهروب أو بقية من تمرد على واقعه. نظر مجاهد إلى أعلى السور لا يعرف ما الذي يخفيه الحائط وراءه لكنه عزم على تسلّق السور مهما كانت الأخطار التي تحيط به ليس هناك خطر أكبر من استمرار سجنه دون قضية ... إنه يريد التمرد على الموت البطيء بموت سريع وقف أمام الجدار وقفة من يرسم الخطوات ... وفي غفلة من مجاهد وقف عسكري من وراءه ثم طرق على كتفه وقال له: نصيحة ألا تفكر، فقد فكر العشرات قبلك وكان مصيرهم الموت، أعرف كل من يقف في هذا الموقف بما يفكر وقد وضعت إدارة السجن هذا المكان بالذات كمصيدة لمن يريد الهرب (ص 78). نعلم يقينا أن الدولة القومية ومنذ أن نشأت أضحت "المطلق الوحيد" تُذبح لأجلها النذور ويضحى لها بالغالي والنفيس حتى لو كانت كرامات المواطنين وأعراضهم وحرماتهم. عندما سأل مجاهد ضابط الأمن المكلّف بتجنيده: - ما المطلوب؟ - قبول المهمة - أقبل ماذا؟ - أن تنفذ كل ما يطلب منك من تعليمات - ما هي تلك التعليمات؟ - كل ما يطلب منك. ربما كان هذا الحوار أصدق تعبيرا من التحليل الأدبي حول الصور الذهنية التي تحكم ضباط الأجهزة الأمنية، بل إن الرواية تحكي لنا صورة في غاية الوحشية، وذلك عندما اهتدت بعض الأجهزة الأمنية (أو بالأحرى ضلت) إلى وسيلة بشعة وهي أن يأتوا ببنات السيد مصعب إلى السجن وتهديده بهن: "فخبرة الأجهزة الأمنية مع هذه النوعية الصلبة من الرجال تؤكد أن إحضار الأسرة خاصة النساء قضية في غاية الحرج نفسيا بالنسبة لهم، ولهذا فإن كثيرا منهم ينهار عندما يرى بناته ...... يحاول أن يعترض مجاهد على إحضار أسرة السيد مصعب على أساس أنه لا تزر وازرة وزر أخرى .... وأن هذا فيه مخالفة لمفهوم كرامة الإنسان. فيجيبه الضابط: إنك لا تفهم القواعد الأمنية؛ في هذا المكان لا بد أن تعرف إن الإنسان ليس له كرامة إلا بمدى التزامه بالقواعد الأمنية التي نمليها عليه؛ فإن لم يلتزم فليس له هوية ومن ليس له هوية ليس له وجود في هذا الوجود (ص 111). الدولة في هذا السياق هي المطلق الوحيد في هذا الوجود؛ وهي حالة تكرس مفهوم صَنَميّة الدولة وعلى مذبحها تهدر كرامات البشر وأعراض البشر. لحين من الدهر كان على علماء الاجتماع أن يفسروا كيف يتحول السجن إلى مدرسة لتفريخ مشاريع قنابل موقوتة، كيف يدخل شاب السجن خطأ؛ فيتحول إلى جهاز تدمير لنفسه ولوطنه أو حزاما ناسفا لمستقبله بعد أن نسفت أجهزة الأمن كرامته؛ ولم تبق له ما يحفظه أو يحافظ عليه، وربما كانت هذه الرواية تساهم في الإجابة على أسئلة علماء الاجتماع تلك. الدائرة الثالثة: هي دائرة الصراع بين القرية والمدينة، كانت الصورة الذهنية عند مجاهد، ما أجمل حياة المدينة، وأنها نهاية المعاناة؛ لكن المدينة عند أمه فيها أولاد الحرام، ولقد حذّرته أمه من أولاد الحرام: - يا بني إيّاك والحرام، فإنه ضار لصحتك ودينك. - ومن أين الحرام؟ - الحرام يُعرض عليك، وأولاد الحرام يقبلون ولكن أولاد الحلال يرفضونه، فكن ابن حلال (ص24). في الطريق إلى المدينة حسم مجاهد اختياره بين صوره الذهنية عن المدينة والقرية، كان هناك ابن عم أبيه الذي قد هاجر إلى المدينة قبل عشرين سنة؛ ويأخذ كل أفراد القرية عنوانه وهم ذاهبون للمدينة؛ وهو رجل كريم جعل بيته مزارا لمن يزور المدينة؛ لكن مجاهد يقرر أنه لن يكون مثله، فلن يعطي عنوانه لأحد بعد أن يستقر في المدينة، ففي المدينة كل يسعى لنفسه دون تحمل مسؤولية الآخرين ولكن وضع القرية تكافل غير منته، المدينة تقوم على فردية المسؤولية ولكن القرية تقوم على جماعية التعاون، قرر أن يكون مدنيّا حال وصوله المدينة؛ لقد طلّق القرية من ذهنه وهو ما يزال على ترابها (ص 28). وفي الباص في الطريق للمدينة يتجاذب أطراف الحديث مع شاب من المسافرين فيكون أول درس يأخذه عن المدينة أنها لا ترحم. فيسأل: ولما لا ترحم؟ - كل شيء يسير بسرعة ومن لم يلحق، يُسحَق. - لماذا؟ فيسأله الشاب: هل هي أول مرة تذهب إلى المدينة؟ - نعم - إذا احذر من أولاد الحرام - كيف؟ فيجيبه: بعض الناس يضحك على المساكين بتقديم الخدمات المجانية لهم؛ وهم في الواقع أولاد حرام، ليس في المدينة خدمة مجانية أو استقبال أو ترحيب دون مقابل، إنها مكان تبادل المصالح؛ فإن لم يكن عندك حاجة تقدمها للناس، فلن تجد من يقدم لك خدمة تحتاجها. - لم أفهم - بعد ساعات كل شيء يتضح لك - أخرج الشاب قطعة من الخبز وقدمها إلى مجاهد وقال له: تفضل - هل هذه الخدمة بمقابل؟ - لم نصل إلى المدينة بعد - كنت أريد أن أتأكد - إنْ وصلنا إلى المدينة فإن الأمور ستختلف، لن أقدم لك قطعة خبز أو ماء إلا بمقابل (ص30). ربما كانت هذه أول دروس تلقّاها مجاهد في التفرقة بين تقاليد القرية وقوانين المدينة؛ غير أنها ظلت خواطر تتكالب على رأسه بين تلك الدروس وما يفعله ابن عم أبيه من استقبال دائم لأهل القرية وتقديم خدماته لهم دون مقابل. وفي السجن أذهبَ تعاقب الليل والنهار حلم العيش في المدينة من رأس مجاهد، لقد أبغض المدينة وأولاد الحرام الذين يعيشون بها؛ وأصبحت لدية قناعة أن المدينة ملوثة بالظلم بكل أنواعه (ص55). ومع ذلك ففي نهاية الرواية يهرب مجاهد من السجن؛ لكنه مع ذلك لم يعود إلى القرية، فالذي يخرج من القرية لن يعود إليها، وترك البلاد إلى مدينة افتراضية اسمها جمالستان، بالطبع لن يمكنها أن تسع كل الهاربين من مدنهم أو قراهم. أسلوب النهاية المفتوحة اختيار بشير الرشيدي في روايته، فعلى مدار الرواية نجح الرشيدي في أن يجذب قارئه ولا يدع له فرصة في ترك الرواية؛ لكن عودة مجاهد إلى رشده وعزمه على خلع رداء تبعيته وتوطينه لنفسه على دفع ثمن هذا الاختيار الشخصي ثم دخوله السجن حقيقة بعد أن كان يدخله في إطار سيناريو ترسمه أجهزة الأمن ثم تحوّل أحوال السجن وبداية فرض المعتقلين لاختيارهم ثم هروبهم جماعيا من السجن، ثم مغادرة مجاهد للبلاد. ورغم عزمه على مواصلة الرسالة التي حملها إلا أن خروج مجاهد من البلاد إن كان من ناحية انتصار لقراره إلا أنه من ناحية أخرى هروب من مواجهة نظامه وترك الساحة خالية ترتع فيها الأجهزة الأمنية ولن تغني محاصرة النظام من الخارج – كما يرى السيد مصعب- عن خلخلة بنيان الاستبداد من الداخل، فالجيوش لا تنتصر إلا بجحافل المشاة؛ وتظل القاعدة العسكرية الحاكمة هي: أن المعارك على الأرض وداخل الحدود لا خارجها. وفي الختام أحسب أن رواية بشير الرشيدي "مجاهد" لا يمكن أن تقرأ أو تفهم تماما إلا في ضوء قراءة روايته الأخرى "الشجرة" فكلاهما يشكّل مشروعا روائيا واحدا، ففي "الشجرة" يحمّل الفرد المسؤولية، وفي "مجاهد" يحمّل المجتمع والدولة المسؤولية، وهذا التوازن في التناول والمعالجة ربما كان أهم وظائف الأدب المحمّل بالأبعاد الرّسالية.