على مدار النصف قرن الأخير لم يغب الجيش المصري العظيم عن المشهد السياسى وإن اتسمت مقارباته من عناصره الفاعلة بضوابط محكومة بما يمثله الجيش في الوعي الوطني والشعبي من ضمانة وحماية ومنعة سواء على مستوى الأمن القومي والسيادة الإقليمية أو على مستوى الداخل كضامن للشرعية وحارس على مكتسبات الشعب ومكونات الدولة. وقد كانت الفترة من 1954-1967م من أهم الفترات في تكون هذا الوعي العميق لدى قواتنا المسلحة. ذلك أن الرئيس عبد الناصر عاش عمره كله مسكونًا بهاجس انقلاب عسكري عليه حتى في أكثر أوقات الصفاء بينه وبين المشير عامر كان لا يغيب هذا الهاجس عن خاطره. ومنذ نصيحة الرئيس السوري أديب الشيشكلي له بأنه إذا أراد الاستمرار في الحكم فعليه بتأمين موقف الجيش تأمينا تامًا.. وكانت النصيحة في محلها فكانت الترقية الاستثنائية لعامر من بكباشي إلى لواء وتوليه وزارة الحربية وقيادة القوات المسلحة وانتهى الأمر إلى ما نعلمه جميعًا من هزيمة 1956 و1967م.. بعدها أدرك الرئيس الراحل بعد فوات الأوان أن قيادة الجيوش وتحمل مسؤوليات الأمن القومي لها رجالها الأكفاء بعيدًا عن قصة الولاءات الشخصية ناهيك عن أنه لم يعد في حاجة إلى ذلك بعد أن خرج الناس يحملونه بشكل مباشر مسؤولية ما حدث رافضين جملته الشهيرة فى خطاب التنحى (أنني على أتم استعداد لتحمل المسؤولية كلها..) والتي بدا منها تنصله عن تلك المسؤولية الجسيمة وما أنتجته من خسارة تاريخية فادحة. وجاءت إلى قيادة القوات المسلحة مدرسة جديدة تمامًا وخاضت حرب الشرف كما كان يسميها الفريق عبد المنعم رياض وترسخت المكانة السامية للجيش العظيم في قلب الوطن. وابتعد تمامًا عن الشأن السياسي المباشر إلا في حدود الرعاية التاريخية لجهاز الأمن القومي(المخابرات العامة) كون أغلب قياداته قادمين من الجيش والشرطة للطبيعة شبه العسكرية لهذا الجهاز العظيم أو القيادة المحلية في محافظات الحدود أو إدارة قناة السويس والهيئة العربية للتصنيع. عدا ذلك فالجيش لا علاقة له بالسياسة ولا بالسلطة وصراعاتها المكتومة والمعلنة. عام1977م تعرضت شرعية الرئيس أنور السادات للاهتزاز جراء المظاهرات المشهورة ونزل الجيش إلى الشوارع وحفظ النظام والمؤسسات وثبت الشرعية الدستورية وعاد إلى ثكناته. وإن توترت العلاقة بين قائده وقتها (المشير الجمسي) والرئيس السادات. عام 1986م حدثت مظاهرات الأمن المركزي المريبة وعجزت الشرطة عن احتواء الموقف فكان النزول الثاني للجيش إلى شوارع العاصمة لحماية المؤسسات وحفظ النظام وتثبيت الشرعية وعاد مجللًا بالحب والكرامة إلى ثكناته ثانية. عام 2011م حدثت انتفاضة 25يناير وعجزت الشرطة عن التعامل معها فنزل الجيش إلى الشارع لحماية المؤسسات وحفظ النظام وأرجئ النظر في مسألة الشرعية الدستورية.. التي كانت قد تعرضت لشرخ كبير من تصاعد الحديث عن ما عرف وقتها (بمشروع التوريث) فتداول المجلس الأعلى للقوات المسلحة الأمر فيما بينه ورأى أن هذا الوقت الذي تولى فيه الشعب صدارة الموقف هو أكثر الأوقات ملائمة لتغيير النظام السياسي وحماية الوطن من أكبر مغامرة يقودها عدد من الطائشين. والطامحين وذوى الأحلام الخائبة. وأعلن الجيش وهو بصدد التحضير لهذا الدور التاريخي أنه ليس بديلًا عن الشرعية. وبالفعل تمت على أثر ذلك عدة خطوات تتالت في حدوثها على نحو يتراوح بين الصواب والخطأ.. وتمت انتخابات رئاسة الجمهورية على مرحلتين 23-24 مايو ثم الإعادة بين مرشح حزب الحرية والعدالة (د/محمد مرسى) وبين مرشح النظام السابق قبل الثورة (الفريق أحمد شفيق) وانتهت بتقدم د/مرسى بنسبة 51,73% وتسلم الرئيس المنتخب الرئاسة الشرعية بعد أدائه اليمين أمام الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا يوم 30/6/2012م وتم الاحتفال بتسليم المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة الشرعية للرئيس المنتخب بمنطقة الهايكستب العسكرية الذي وجه الشكر إليهم قائلًا: (أحييكم في هذا اليوم العظيم ونبرهن على أن شعب مصر وقواته المسلحة يتحركون نحو هدف واحد واليوم نرى ويشهد العالم العربي والإسلامي نموذجًا فريدًا لم يروه من قبل كيف تنتقل السلطة من القوات المسلحة إلى سلطة مدنية منتخبة). فى منتصف أغسطس الماضص أعلن رئيس الجمهورية المنتخب تغيير قيادة القوات المسلحة وأصدر قرارًا بتولي الفريق عبد الفتاح السيسي قائد المخابرات الحربية وزيرًا للدفاع والفريق صبحي صادق رئيسًا للأركان.. وتم التسليم والتسلم بمهنية واحترام شديدين برهنا على احترام القوات المسلحة وصونها لمبدأ الشرعية الدستورية. ولاشك أن طول بقاء المشير فى منصبه وقوة العلاقة بينه وبين الفريق السيسي الذي يتصف بأخلاقيات وطنية وشخصية رفيعة.. كانت مما ساعد على سير الأمور سيرًا حسنًا فيما يمكن أن نصفه (بدهاء التاريخ). ودون الخوض كثيرًا في تفاصيل تلك الخطوة. على مدار الشهور الأخيرة تعالت الصيحات باستدعاء الجيش إلى التدخل المباشر فى السياسة على خلفية (الصراع التاريخي) بين القيادة السياسية المنتمية للتيار الإسلامي وبين فصائل المعارضة المنتمية للتيارات اليسارية والليبرالية ورجال النظام السابق استبعادًا للشعب الركن الأصيل في مسألة (الشرعية الدستورية) كونه مصدر السلطات.. لكن جيش مصر العظيم وقادته الأوفياء لم ينصتا كثيرًا لتلك الصيحات مدركين أنها من قبيل (العجز السياسي) وهو ما دعا السيد وزير الدفاع إلى توجيه كلمته القوية لهم قائلًا (اذهبوا للصندوق وسنحمي الناخبين).. المتنادين باستدعاء الجيش العظيم للقيام بالدور الذي قام به الجيش الجزائري بعد انتخابات 1992م وخلفهم (جوقة الخراب) من الكتاب والمثقفين أمثال نظرائهم في الجزائر رشيد بو جدرة وأمين الزاوى ومحمد بن شيكو الذين طالبوا الجيش باستعمال كل ألوان القسوة مع الإسلاميين أخضرهم ويابسهم مسالمهم ومحاربهم أبيضهم وأسودهم حتى لو انتخبهم الناس لأن الشعب لا يعرف كيف يقرر مصلحته!! لدينا كتاب يكتبون على نفس (البحر الخليلي) الجزائري كما يقولون.. لا يعنيهم الجيش ولا الوطن ولا الشعب ولا الانتخابات. ما يعنيهم هو إشعال الحريق في المستقبل كله وصبغة بالدماء الحرام. وأنا حقيقة في حيرة محاولًا فهم سبب كل هذه الشراسة التي تفوق في قسوتها القسوة نفسها حال التعامل مع الإسلاميين حين يقتربون من (السلطة والسياسة).. وعبثًا أتساءل هل هذا من مخلفات الاستعمار الذى كان يعتبر علماء الدين والمجاهدين والمتدينين عامة عدوة اللدود كونهم كانوا قادة المقاومة في كل العصور؟ هل هذا من أثر تجربة الصراع الدموي بين الكنيسة والإصلاح في عصر التنوير بأوروبا وحديث (وكر العقارب) الذي وجهه مارتن لوثر للبابا؟ لماذا لا يعامل الإسلاميون كمواطنين عاديين يحملون أفكارًا إصلاحية تعكس فهمهم البشرى لا قداسة لها جانبها الصواب أم صاحبها؟ وتبقى التجربة وما تسفر عنه من صواب أو خطأ مصونة بالانتخابات.. ولن يصلوا بحال من الأحوال فى أخطائهم معشار أخطاء مبارك وصدام حسين والقذافي... والمعاناة ودورة الآلام التي عشناها معهم مع فشل مريع في تحقيق الأهداف التي وعدوا بها تاركين وراءهم مجتمعات تنضح بالجهل والتخلف ومراتع الفساد. لا أجد تفسيرًا لذلك في أدنى وأيسر وأحسن الظنون إلا ضحالة الثقافة التاريخية والسياسية والمدنية لدى غالبية المعارضين الذين يعدون كذبًا ويمنون خداعًا. على أننا ما زلنا نؤمن أن الذى يخاف الله تختلف طبيعة تصرفاته عن الذى يرى أن البقاء للأصلح.