من الأسباب القوية التى دعت أصحاب (لا) للدستور.. لموقفهم الذى اتخذوه هو المواد التى تنظم شئون ووضع القوات المسلحة ومنظومة الأمن القومى فى الحياة الوطنية.. المادة 195 التى تنص على أن وزير الدفاع من بين ضباط القوات المسلحة والمادة 197 التى تتناول تشكيل مجلس الدفاع الوطنى والمادة 198 التى تتناول القضاء العسكرى وهى المواد التى وردت فى الفصل الخامس (الأمن القومى والدفاع) من الباب الثالث (السلطات العامة). هناك أسباب أخرى عندهم تتعلق بسلطات الرئيس ومجلس الشورى والعدالة الاجتماعية.. ويبقى موضوع القوات المسلحة هو الموضوع المشترك لدى الجميع وأيضًا الأثير لدى الجميع. وأحب بهذا المقام أن أشير إلى أن الجيش المصرى هو أول وأقدم جيش نظامى فى العالم وقد كان ذلك بعد توحيد الملك نارمر لمصر حوالى عام 3200 ق.م، وقدمت العسكرية المصرية القديمة العديد من القواد العظماء.. (تحتمس الثالث) أول إمبراطور فى التاريخ وهو الذى أنشأ الإمبراطورية المصرية وفى رصيده العديد من المعارك والحروب أشهرها معركة مجدو التى ما زالت تدرس حتى اليوم.. الجيش المصرى هو من حرر مدينة القدس من أيدى الصليبيين بقيادة صلاح الدين فى واحدة من المعارك التاريخية على مر العصور.. الجيش المصرى هو من حمى العالم من المغول بقيادة القائد قطز. تأسس الجيش المصرى الحديث إبان حكم محمد على باشا مؤسس مصر الحديثة حيث كون جيشاً خالصًا من المصريين.. بدأه محمد على ببناء أول مدرسة حربية تقوم بإعداد الجنود والضباط على الطراز الحديث عام 1820 بمدينة أسوان وأنشأ العديد من الترسانات لإمداد الجيش بأحدث المعدات من البنادق والمدافع والبارود، كان التجنيد إجباريًا أيام محمد على ووصل تعداد الجيش إلى 520000 جندى تحت قيادة إبراهيم باشا نابليون الشرق. عام 1881م تقدم الأمير الاى أحمد عرابى مع مجموعة من زملائه مطالبين الخديوى توفيق بترقية الضباط المصريين وعزل رياض باشا رئيس مجلس النظار (رئيس الوزراء) وزيادة عدد الجيش المصري.. فيما يعد أول ثورة وطنية فى تاريخ مصر الحديث. فى عام 1952م، نظم 13 ضابطاً أنفسهم داخل القوات المسلحة فيما عرف بتنظيم الضباط الأحرار وقاموا بحركة مباركة حازوا فيها السلطة من الملك فاروق ملك مصر والسودان.. للقضاء على الإقطاع. والقضاء على الاستعمار. والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم. وإقامة حياة ديمقراطية سليمة. وإقامة جيش وطنى قوي. وإقامة عدالة اجتماعية. تناوب على حكم البلاد خلال رحلة التحقق الفاشل لهذه الأهداف الستة ثلاثة ضباط كان آخرهم الفريق أول حسنى مبارك. الذى رفض الجيش المصرى مساندته وحمايته من ثورة الشعب فى 25 يناير 2011م الذى غامر بوجوده ليتبع حلمًا وأملاً.. تولى بعدها الجيش إدارة شئون البلاد.. حتى 30/6/2012م ليتسلم حكم البلاد بعدها رئيس مدنى منتخب مباشرة من الشارع (د/محمد مرسى). بعدها عاد الجيش المصرى إلى وحداته وواجباته المنوط بها. خارجًا من السياسة والحكم المباشر بعد ستين عامًا من التواجد المباشر وغير المباشر فى معظم دوائر الحكم والسلطة. بدأ من رئاسة الدولة حتى الوحدات المحلية. كان من الطبيعى أن تناقش وضعية المؤسسة العسكرية فى أول دستور بعد الثورة على نحو يثير كثيراً من الأسئلة بعضها موضوعى وهام على خلفية الفشل فى تحقيق الأهداف الستة لحركة الجيش عام 1952م وأيضا بعض الأخطاء فى إدارة الفترة الانتقالية بعد الثورة وحتى مجىء أول رئيس مدنى. وانتهى الأمر إلى ما رأيناه فى الدستور المستفتى عليه هذه الأيام.. مما دفع البعض إلى القول بأن هذا الدستور يمنح المؤسسة العسكرية وضعًا متميزًا فى الحياة الوطنية بما لا يستوجبه الأمر. وهو ما دعاهم إلى رفض الدستور كله والتصويت عليه ب(لا)، متناسين أن الوطن ينتقل تاريخيًا من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة التى تستكمل مؤسساتها على درب الاكتمال التام للشرعية الدستورية. متناسين أن الجيش يخرج لأول مرة من السلطة والسياسة بعد ستين عامًا، متناسين الدور المحورى والتاريخى للجيش المصرى عبر قرنين بدأ من الوقفة الأعظم للأميرالاى أحمد عرابى أمام الخديوى توفيق 9/9/1881م (لن نستعبد بعد اليوم). مرورًا بإنهاء الحكم الملكى 18/6/1953م. وانتهاء بالجلسة الأعظم للمجلس الأعلى للقوات المسلحة 10/2/2011م، (انطلاقاً من مسئولية القوات المسلحة والتزامًا بحماية الشعب ورعاية مصالحه وأمنه وحرصًا على سلامة الوطن والمواطنين ومكتسبات شعب مصر العظيم وممتلكاته وتأكيدًا وتأييدًا لمطالب الشعب المشروعة..). والكريم تؤثره الخلة الواحدة من الإحسان عن الخلال الكثيرة من الإساءة.. ليس فى النطاق الإنسانى فقط ولكن فى نطاق السياسة والتاريخ أيضًا.. على أنه للحق ليس هناك إساءات كثيرة.. ويعتبر البعض أن الصفح (رهان أخلاقى) على اعتبار أن الإنسان يميل للارتقاء. والصفح لا يعنى النسيان فالأمم العريقة لا تقتصر على تذكر اللحظات المجيدة فقط. ثمة موقفان أمام الرأى من الدستور الحالى.. موقف سياسى يتعامل مع الواقع _ على خلفية النصوص _ بمكوناته الحقيقية فى اللحظة الحاضرة انطلاقاً إلى المستقبل.. وموقف نصوصى فقهى وقانونى وعلمى مجرد يتعامل مع النصوص.. لا يلتفت كثيرًا للواقع. الموقف الأول ينظر إلى التاريخ فى أطواره المتتالية ضمن ما يعرف بوحدة (التماسك التاريخى) معالجًا للواقع بهدوء وأناة بأدوات المفاضلة المعيارية فى نطاق النافع والضار والأضر.. فى نطاق المهم والأهم.. فى نطاق الحسن والأحسن.. فى نطاق الميسور لا يسقط بالمعسور.. فى نطاق دفع الأسوأ مقدم على جلب الأنفع.. وغيرها من نطاقات تكوين الرؤية السياسية باتجاه القرار الأقرب للصواب والعقل معرفة ما لم يكن إلى ما يكون. الموقف الثانى يتعامل مع النصوص محض تعامل علمى مجرد.. بطريقة معملية مقطرة.. محكوم بالمثاليات المطلقة فى نطاق الصواب المطلق والخطأ المطلق.. ولا يرى الأشياء إلا كما يتحتم أن تكون لا كما يمكن أن تكون.. ويا بعد ما بين الرؤيتين. الموقف السياسى يقول إن الوطن يمر بمرحلة انتقال هى الأصعب فى مراحل التكون والتحقق طلبًا للمكونات العميقة للاستقرار.. ومن ثم يتوجب عبورها بمنطق الممكن والأيسر.. لا بمنطق الأمثل والأصوب.. وحين يتشاءم العقل تتفاءل الإرادة.. يقول أيضًا إن الجيش هو الجهة الوحيدة فى البلاد التى لها حق تكوين تشكيلات وفرق عسكرية منظمة ونصوص الدنيا كلها لن تمنحه شيئاً ولن تمنعه من شىء.. القصة تتعلق بأمانات التطبيق لا بحقوق التطبيق فقط. واستدعاء التجربة التركية قول فى غير موضعه وافتئات على القراءة السياسية والتاريخية فى نطاق العبر والدلالات. الموقف النصوصى يستدعى النماذج المثالية دون النظر إلى خصوصيات الواقع ودون النظر إلى عنصر الزمن فى إتمام الأمور على الوجه الأكمل والأصوب. طبيعى إذن أن تكون السياسة هى معيار الاختيار والمعالجة. لا نريد أن نضع أنفسنا فى مأزق تاريخى باتجاه المستقبل.. وعلى العاقل أن يقتصد فى الرغبات الحكيمة. ولتكن المعالجات المتدرجة الهادئة هى وسيلتنا لتحقيق حلمنا المنشود فى وطن عظيم يسكنه شعب عظيم.. ولكل عمل وقت فما لم يكن فى وقته فلا حسن لعاقبته.. لاأريد أن أعود إلى بيتى مشردًا لا أدرى لى اسمًا أو أهلاً أو وطنًا.. هل أغمس عينى فى قمر الليل...؟ أم أفتح بابى للأشباح وأدعوها وأطعمها؟.. فليكن قمر الليل إذن.. وغلقاً للباب فى وجوه الأشباح والأوغاد.