توقفت في المقال السابق عند التكتيكات والاستراتيجيات التي تتبعها نظم الحكم الدكتاتورية لترويض شعوبها على الخوض في مستنقعات الرشوة واللصوصية والمحسوبية ونهب المال العام ، باعتبار أن التكتيكات هي آليات قصيرة المدى تهدف إلى تحقيق جزئي مقصود لخدمة المخطط الاستراتيجي بعيد المدي وهو توطين الفساد العظيم. لقد اكتسبت كل النظم الشمولية وفي طليعتها النظام المصري خبرة عميقة لنشر الفساد المؤسسي من تراث الاستبداد السابق، ولكنها لم تمتلك-في يوم من الأيام- الرؤية والقدرة التخريبية على استخدام وسائل تشويه القيم النبيلة في المجتمع إلا بمساعدة مباشرة وغير مباشرة من خلال تشكيلين عصابيين هما: 1- قوى الهيمنة العالمية المدعومة صهيونيا. 2- رديف المثقفين المحليين الطامحين إلى السلطة والطامعين في فتات الموائد. ومن المؤكد أن هناك أهمية بالغة لتوظيف أجهزة الإعلام المرئي والمسموع والمقروء كأدوات فعالة ومضمونة النتائج لبث الفساد العقلي الناعم كمكون ثقافي في الذاكرة الجمعية للشعب، حيث استطاعت قوى الهيمنة والاستبداد تمرير أفكارها وقيمها بأدوات تعليمية وعناصر ثقافية مدسوسة نفذت من بوابة كامب ديفيد، وقد أشار " هورست ريشتر" في كتابه ( فن الفساد العظيم) إلى أن عمليات غسيل مخ الشعوب يمكن أن تتم بصورة أكثر فعالية عبر جهاز التلفزيون الذي تتفنن نظم الحكم التابعة في توظيفه لصالحها، فهي تعرف الطريق جيدا من خلال خبراتها وممارساتها الفعلية على أرض الواقع فيقول: ( التلفزيون يوظف بطريقة ملائمة كأداة رائعة للفساد العقلي وكواقع لسنا في حاجة لتدريسه للنظم الحاكمة ). ويتحقق هذا- في رأيي- بترسيم مجموعة من السياسات والإجراءات التي أكتفي هنا بالتركيز على أبرزها وأعظمها أثرا على عقول الأجيال الشابة باعتبارها المستقبل المقصود تدميره: الأول : خلق ورعاية النماذج الفنية والإعلانية المبهرة عرفنا فيما سبق الرموز الغنائية الوطنية التي قامت بدور وطني مؤثر وفعال في دعم الصمود العربي في مواجهة ومقاومة الاستعمار والرقي بالشعور الوطني والانتماء ويأتي في المقدمة سيدة الغناء العربي أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب وسيد درويش وسيد مكاوي وشاديه وغيرهم، أما اليوم فغالبية النماذج المطلوب ترميزها وتلميعها إعلاميا هي نماذج خاوية تتنافس على إهمال، بل قتل الشعور الوطني والانتماء المقاوم للمحتل، وتتفانى هذه الرموز المصنعة البراقة في الدعاية لاقتصاد السوق وتعظيم أهمية السلوك الاستهلاكي والسفه وتحقير الإنتاج والعمل لتظل المنطقة سوقا شرهة لمنتجات الغرب، وهذا أمر واضح لكل من لديه القدرة على إعادة استقراء الأهداف المستترة خلف إعلانات المشروبات الأمريكية والسلع الاستهلاكية من أجهزة المحمول إلى إعلانات الزيت والسمن، وتكتمل بانورما المفاسد في المجتمعات العربية ببرامج تغييب الوعي على الفضائيات العربية من ستار أكاديمي إلي إعلان مسابقات ملكة جمال مصر !!. ترى كم عدد المغنين المعتمدين وغير المعتمدين من لجنة المصنفات الفنية ؟ وكم نسبة من غنى منهم للوطن وللحرية وللحق وللعدل وللثورة ؟ كم منهم غنى للقيم وللأخلاق وللمشاعر النبيلة ؟ وكم منهم غنى وتعرى للبيبسي وللجنس ولمساحيق التجميل وللقبح ونغمات المحمول ؟ ترى كم عدد الشباب العربي الذي يصوت لبرامج نجوم الغناء مثل العندليب ؟ وكم عدد الشباب الذي يدافع عن حقه في وطنه ويقاوم تغول الاستبداد والطغيان ؟ الثاني : المسابقات المليونية بنظرة سريعة على المسابقات المختلفة التي تحض على الاسترخاء والكسب السريع وتتابع المسابقات التافهة للفوز بألوف وعشرات الألوف وقد تصل الجائزة أحيانا إلى ملايين من الدولارات أو الريالات ( لاحظوا أن الجوائز عملات صعبة غير وطنية غالبا ). حقا، لقد وقعت الأسرة العربية في شراك الشركات العابرة للقارات عبر مندوبيها المحليين وسال لعاب أفراد الأسرة للدعاية المبهرة، إن هذه المؤسسات التجارية الكبرى تعمل بحق على عودة السخرة مرة أخرى بصورة ملتوية، حيث يكد الآباء والأمهات ليل نهار لسد الرمق، ثم تتسلط عليهم وسائل الإعلام والفضائيات المؤجرة من الباطن لاستلاب وامتصاص ما اكتسبته سواعدهم قبل أن يجن الليل. والتساؤلات التي لابد من الإجابة عليها هي : كم تتضخم ثروات شركات الاتصالات والمؤسسات الإعلانية من هذه المسابقات، وما نسبة ما تدفعه هذه الشركات من جوائز للمغرر بهم من الفقراء والصبية والسفهاء ؟؟؟ وكم تستفيد النظم السياسية الفاسدة من تغييب شعوبها وراء سراب الفوز الذي لن يأت أبدا ؟؟؟ وهل هذه الأنشطة أنشطة تجارية حرة أم هى واجهات متعددة لشركات احتكارية ؟ وأين جمعيات حماية المستهلك مما يحاك للأسرة والمجتمع بليل ؟ الثالث : المؤسسات الصحفية والدعاية المضادة سيطرت وجوه مشبوهة – في ربع القرن الماضي - على وسائل الإعلام والمؤسسات الصحفية والأحزاب في إطار سياسة تعظيم منظومة الفساد العقلي وتجنيد الأنصار والمدلسين للقيام بعدة أدوار في آن واحد، ومن أهم أدوار هؤلاء المندوبين: العمل على تراكم قيم الفساد والنفاق على هيئة طبقات جيولوجية في شرائح المجتمع المصري، هذا فضلا عن تصنيع نماذج بالونية للقدوة المسطحة والمغيبة عن الفعل العام والإنتاج في أوساط الشباب والإسراع في تدمير القدوة الصالحة لقيادة الجماهير، أما المقابل فكان فتح خزائن على بابا والأربعين حرامي في تلك المؤسسات ليغترفوا من أموال الشعب ومؤسساته الصحفية والإعلامية ما يشاءون ، ولك الله يا وطن !!!. هذه هي إحدى أهم الدوافع الحقيقية وراء دعم نظام الحكم المصري" ومن على شاكلته" من المحافظين الجدد ووكلائهم في أوربا، لأن النظام ملتزم حرفيا بتطبيق معايير الإفساد الدولي المعتمدة لدى المنظمات والمؤسسات الدولية من صندوق النقد الدولي إلى منظمة التجارة العالمية وصولا إلى مجلس أمن القراصنة الدولي. إن إدارة الهيمنة الصهيوأمريكية وأرباب الشركات العملاقة ووكلائهم ووكلاء وكلائهم المعتمدين( حصرا في المنطقة العربية عفريت استحضرته رائحة البترول والفساد ولن ينصرف، إلا إذا استيقظت الشعوب المسلوبة الإرادة لاسترداد حقوقها وكرامتها من أنياب الطغاة المستبدين وليقضي الله أمرا كان مفعولا. [email protected]