الفساد أشكال وألوان ومستويات، فقد يبدأ الفساد من الحاكم والمحيط الأسري الضيق ، ومن الجائز أن يترعرع الفساد في الحاشية والأعوان، وهو في هذه الحالة ينتقل بخاصية الاستطراق من مؤسسة الحكم إلى النخبة ويستفحل في الإدارة، وعندما ينتشر الفساد في الطبقة أو المهنة ، فهو إيذان بعموم فساد الشعب، كل حسب مشاركته بالفعل أو بالرغبة أو بالصمت. أما الفساد العظيم فهو الفساد الذي يتمكن بالرشوة والمحسوبية والنفاق والسلطة والانتشار في جسد الأمة بكاملها من الحاكم إلى المحكوم، ومن القاضي إلى المتهم، ومن المستبد إلى المظلوم المقهور. لقد وقعت عيناي مؤخرا على أحد الكتب التي تؤسس لديانة العولمة التي يبشر بها المحافظون الجدد، وهو بعنوان"فن الفساد العظيم" ، واخترت منه بعض المقتطفات التي تشخص حالة الفساد المستشرية في نظم الحكم العربية بصفة عامة والنظام المصري بوجه خاص، وفيها يلخص المؤلف أهم المعايير التي يجب توفرها في النظم التي تريد أن تحكم الشعوب في ظل هيمنة القطب الأوحد وهو الولاياتالمتحدة. يقول أحد الأنصار المؤسسون لدستور اقتصاد السوق :( إن من يريد أن يحكُم، عليه أن يمارس الفساد، والتفاعل بين الفساد والخضوع للفساد يخلق ويحفظ ويحمي النظام ) (هورست أبرهارد ريشتر - فن الفساد العظيم). لقد حدد المؤلف دور نظم الحكم الحليفة لأمريكا والغرب، وأهمية هذه النظم في نشر الفساد بين شعوبها ، وحشرها بين رحى القمع والجوع ولذة الخضوع ، بهدف تسيير قطار اقتصاديات السوق السريع علي قضبان من جثث العمال الكادحين والفقراء والمعدمين. ويبدو مما عرضناه أن عقد تنصيب نظم الحكم الاستبدادية ، لا يشترط فيه الشرعية الشعبية ولا تنفيذ بنود العقد الاجتماعي، بل ينبغي- فقط- أن تكون وثيقة الاستيلاء على السلطة ممهورة بخاتم التواطؤ مع المحافظين الجدد في البيت الأبيض ووكلائهم في العواصم الأوربية، وأن تكون اتفاقات اقتصاد السوق لاستغلال الطبقات الكادحة ، هي دستور هذه النظم الفاسدة ودليلها في الحفاظ على مصالح الشركاء وحماية مكاسبهم ، في إطار صفقة لزيادة معدل التراكم الرأسمالي. وتدل تعاليم ديانة العولمة الجديدة من ناحية أخرى على أن توظيف رعب الجوع والبطالة في ظل سيادة اقتصاد السوق ، سيكون الوقود السحري للشركات الأمريكية والأوربية العملاقة لعقود قادمة. وفي ظل هذه النظم الدكتاتورية القبيحة الكذوب ، أصبحت مفاهيم الديمقراطية والإصلاح والحكم الرشيد والشفافية ، مصطلحات سيئة الذكر والمضمون لدي الشعوب التواقة للحرية الحقيقية، لأن قوى العولمة الصهيونية وحلفاءها من بني جلدتنا ، قد سطوا علي هذه المصطلحات ومرّغوا مفاهيمها في الوحل. وتؤكد قيم اقتصاد السوق أيضا على أنه لا مكان للضمير ولا للبعد الاجتماعي الإنساني في عالم ديناصورات منظمة التجارة العالمية، لأن يقظة الضمائر الحية ستعمل على خنق المارد الاقتصادي ، ولجم وقف شرهه تجاه ابتلاع ملح الفقراء لتعظيم سلسلة الشركات متعددة الجنسيات. والسؤال القديم والمتجدد هو : ما التكتيكات "الإبليسية" التي اتبعت لتلبيس قواعد فن الفساد العظيم على الواقع الأليم للفقراء والكادحين من أجل الحفاظ على آلية توحيد السوق والقهر الفكري للمستهلك؟ ، وما الكيفية التي نستطيع بها - في ضوء ما تقدم- فهم استراتيجيات عمليات الفساد المنظم في مصر نموذجا ، ليسهل ابتداع وسائل مقاومة الإفقار ومسخ الهوية ؟ هذا ما سنتناوله في المقال القادم بإذن الله. [email protected]