نقابة المهندسين تحتفى بانتخاب النبراوى رئيسًا لاتحاد المهندسين العرب    ارتفاع سعر الريال السعودي في ختام تعاملات اليوم 28 ديسمبر 2025    تونس تعلن رفضها اعتراف إسرائيل بإقليم أرض الصومال    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم قرية عابود شمال غرب رام الله بالضفة الغربية    توتنهام يستعيد الانتصارات بفوز صعب على كريستال بالاس    عقب انتهاء الفرز.. إصابة مستشارة وموظفة في حادث مروري بقنا    القضاء الإداري يُلغي قرار نقيب الموسيقيين بمنع هيفاء وهبي من الغناء    مدير مكتبة الإسكندرية يوزع جوائز المبدعين الشباب 2025    رئيس وزراء الصومال يشكر مصر ويحذر من مخاطر التحركات الإسرائيلية فى القرن الأفريقى    حكومة بريطانيا في خطر بسبب علاء عبد الفتاح.. أحمد موسى يكشف مفاجأة(فيديو)    التشكيل الرسمى لقمة كوت ديفوار ضد الكاميرون فى بطولة كأس أمم أفريقيا    المستشار إسماعيل زناتي: الدور الأمني والتنظيمي ضَمن للمواطنين الاقتراع بشفافية    أشرف الدوكار: نقابة النقل البري تتحول إلى نموذج خدمي واستثماري متكامل    بوليسيتش يرد على أنباء ارتباطه ب سيدني سويني    تفاصيل وفاة مُسن بتوقف عضلة القلب بعد تعرضه لهجوم كلاب ضالة بأحد شوارع بورسعيد    عبقرية مصر الرياضية بأفكار الوزير الاحترافية    القضاء الإداري يسقِط قرار منع هيفاء وهبي من الغناء في مصر    عاجل- رئيس الوزراء يستقبل المدير العام للمركز الأفريقي لمكافحة الأمراض ويؤكد دعم مصر لاستضافة الآلية الأفريقية للشراء الموحد    الأزهر للفتوي: ادعاء معرفة الغيب والتنبؤ بالمستقبل ممارسات تخالف صحيح الدين    إيمان عبد العزيز تنتهي من تسجيل أغنية "إبليس" وتستعد لتصويرها في تركيا    سكرتير مساعد الدقهلية يتفقد المركز التكنولوجي بمدينة دكرنس    تراجع أسواق الخليج وسط تداولات محدودة في موسم العطلات    أمم أفريقيا 2025| منتخب موزمبيق يهزم الجابون بثلاثية    نائب محافظ الجيزة يتفقد عددا من المشروعات الخدمية بمركز منشأة القناطر    ترامب يعلن توقف القتال الدائر بين تايلاند وكمبوديا مؤقتا: واشنطن أصبحت الأمم المتحدة الحقيقية    هذا هو سبب وفاة مطرب المهرجانات دق دق صاحب أغنية إخواتي    «مراكز الموت» في المريوطية.. هروب جماعي يفضح مصحات الإدمان المشبوهة    جامعة بنها تراجع منظومة الجودة والسلامة والصحة المهنية لضمان بيئة عمل آمنة    نجاح أول عملية قلب مفتوح بمستشفى طنطا العام في الغربية    سقوط عنصرين جنائيين لغسل 100 مليون جنيه من تجارة المخدرات    محافظ الجيزة يشارك في الاجتماع الشهري لمجلس جامعة القاهرة    «اليوم السابع» نصيب الأسد.. تغطية خاصة لاحتفالية جوائز الصحافة المصرية 2025    وزير الإسكان: مخطط شامل لتطوير وسط القاهرة والمنطقة المحيطة بالأهرامات    نقابة المهندسين تحتفي بالمهندس طارق النبراوي وسط نخبة من الشخصيات العامة    محمود عاشور حكمًا لل "VAR" بمواجهة مالي وجزر القمر في كأس الأمم الأفريقية    "القاهرة الإخبارية": خلافات عميقة تسبق زيلينسكي إلى واشنطن    إسكان الشيوخ توجه اتهامات للوزارة بشأن ملف التصالح في مخالفات البناء    هيئة سلامة الغذاء: 6425 رسالة غذائية مصدرة خلال الأسبوع الماضي    قضية تهز الرأي العام في أمريكا.. أسرة مراهق تتهم الذكاء الاصطناعي بالتورط في وفاته    رسالة من اللواء عادل عزب مسئول ملف الإخوان الأسبق في الأمن الوطني ل عبد الرحيم علي    وزارة الداخلية تضبط 4 أشخاص جمعوا بطاقات الناخبين    " نحنُ بالانتظار " ..قصيدة لأميرة الشعر العربى أ.د.أحلام الحسن    من مخزن المصادرات إلى قفص الاتهام.. المؤبد لعامل جمارك بقليوب    صاحب الفضيلة الشيخ / سعد الفقي يكتب عن : شخصية العام!    قيادات الأزهر يتفقدون انطلاق اختبارات المرحلة الثالثة والأخيرة للابتعاث العام 2026م    لتخفيف التشنج والإجهاد اليومي، وصفات طبيعية لعلاج آلام الرقبة والكتفين    أبرز مخرجات الابتكار والتطبيقات التكنولوجية خلال عام 2025    أزمة السويحلي الليبي تتصاعد.. ثنائي منتخب مصر للطائرة يلجأ للاتحاد الدولي    دار الإفتاء توضح حكم إخراج الزكاة في صورة بطاطين    بدون حبوب| أطعمة طبيعية تمد جسمك بالمغنيسيوم يوميا    كييف تعلن إسقاط 30 طائرة مسيرة روسية خلال الليل    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم فى سوهاج    هيئة الرعاية الصحية تستعرض إنجازات التأمين الصحي الشامل بمحافظات إقليم القناة    لافروف: روسيا تعارض استقلال تايوان بأي شكل من الأشكال    الناخبون يتوافدون للتصويت بجولة الإعادة في 19 دائرة ب7 محافظات    الزمالك يخشى مفاجآت كأس مصر في اختبار أمام بلدية المحلة    واتكينز بعدما سجل ثنائية في تشيلسي: لم ألعب بأفضل شكل    بعد قضاء مدة العقوبة.. إخلاء سبيل حمو بيكا من قسم شرطة قصر النيل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السياسة الأمريكية .. ومشروع الإصلاح في العالم الإسلامي
نشر في المصريون يوم 28 - 11 - 2005

منذ الحرب العالمية الثانية - التي ضمنت الولايات المتحدة بعدها الحصول على منابع الثروة الحيوية عبر توظيف علاقات السوق- كان الهدف الأساسي للسياسة الأمريكية الخارجية هو كيفية ضمان رفاه الشعب الأمريكي في المقام الأول ، وذلك بعد أن ساهمت الولايات المتحدة في تقويض النظام النازي الذي سيطر على أوروبا ، وقامت بدورها من أجل إعادة بعث أوروبا الغربية لضمان استقلالها و أمنها أمام الزحف الأحمر. لقد لاحظنا بأن الدعم الأمريكي فيما يسمى بمشروع مارشال كان مشروطا بتوحد أوروبا الغربية وتنسيق الجهود فيما بينها لتحديد أهداف الإقلاع الاقتصادي ، وتجاوز مشكلات التنمية مع الاحتفاظ بخصوصيات الشعوب وهويتها. وقد أعقبت ذلك فترة من الاستقرار السياسي ، وتحرك عجلة الاقتصاد خاصة في أوروبا الغربية واليابان ، رغم مضاعفات ما يسمى بالحرب الباردة، وهو نفس الأثر الذي تركته السياسة الأمريكية في الكتلة الشرقية بعد نهاية الحرب الباردة و إعلان ميلاد النظام العالمي الجديد. بينما نلاحظ أن بلادنا الواقعة في الحزام الأخضر بتعبير مالك بن نبي رحمه الله، أي بلاد العالم الإسلامي ، قد أُهملت ولم تستفد من هذه الجهود العالمية لتحسين أوضاع الشعوب ، كما حدث في أوروبا الشرقية أو أوروبا الغربية ، أو في جنوب شرق آسيا. قد يبدو من غير الواضح التناقض الناجم عن إبداء الرغبة في تعميم قيم الديمقراطية وحرية التعبير واحترام اختيار الشعوب كما تعبر عن ذلك أدبيات السياسة الخارجية الأمريكية خصوصا والغربية عموما ، بينما نجدها في نفس الوقت تغض الطرف عن السياسيات القمعية المنتهجة في أغلب الأنظمة الموجودة في منطقة الحزام الأخضر. وبقيت مطالب شعوبنا في تحرير الفضاء السياسي وتوسيع مجال الحريات العامة خاصة حرية التجمع وحرية التعبير والنقد ، لا تحظى بأي تجاوب لدى الساسة الغربيين. يبدو أن هناك سياسة "غض الطرف" وسياسة "التجاهل" والتي قد تقود إلى مآس كبرى كما حدث ويحدث في فلسطين المحتلة ، وكما حدث في البوسنة والهرسك ، وفي أفغانستان وفي العراق وفي الجزائر وفي بوروندي وغيرها من الدول الأخرى. إن الموقف السلبي حيال نداء الشعوب المسلمة ومطالبتها بالتحرر والتغيير السياسي السلمي الحضاري، جعل هذه الشعوب تبدي شكوكها تجاه السياسات الغربية المعلنة ، لأن هذه الازدواجية في التعاطي مع قضايا الشعوب تغذي نظرة المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين. واليوم يتم الحديث من جديد عن الإصلاح السياسي في العالم الإسلامي، ولم يعد هذا مطلب القوى السياسية الوطنية والإسلامية فحسب ، بل تحول إلى مطلب عالمي تسعى القوى العظمى لطرحه كألوية في سياساتها الدولية. ورغم أن القوى الديمقراطية الطامحة لتحرير شعوبها من هيمنة الديكتاتورية لا تزال تعاني الأمرين خاصة أن الأنظمة تستفيد من المناخ العالمي الخاص بما يُعرف بالحرب على الإرهاب، وتسوق نفسها على أساس أنها أكبر ضامن لمصالح الغرب في المنطقة، إلا أن الأوساط الصانعة للسياسة الغربية وخاصة سياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية ، بدأت تنظر للمسألة بشكل مختلف. حيث هناك محاولة لتصحيح الصورة والنظر للمسألة باعتبارها الأساس لمشكلة الفساد السياسي وغياب الديمقراطية الحقيقية. وعلى أية حال، وبغض النظر عن الدوافع المختلفة التي تختفي وراء دعوى فرض الديمقراطية في العالم الإسلامي و لو بصورة شكلية وسطحية، إلا أن هذه النظرة تدل على حدوث تطور هام جدا في نظرة صانع القرار الدولي للمشكلات العالمية التي تؤثر على التوازن والسلم العالميين. وهذا التطور هو حصيلة عملية تقييم جادة لمرحلة الحرب الباردة هذه ، وأثرها السلبي على العالم الإسلامي، هذا التقييم الذي قامت به العديد من المؤسسات البحثية التي لديها تأثير واضح على صناع القرار الدولي في مختلف المواقع سواء في أروقة الأمم المتحدة أو في كواليس البيت الأبيض وقصر الأليزيه. لقد خلصت هذه المراكز إلى أن دعم النظم الديكتاتورية الغاشمة لم يعزز السلم العالمي ولم يدفع بمسارات السلام إلى نهاياتها المتوقعة ، بل أحدث فوضى عالمية لم تكن متوقعة ،وسمحت بنشر الاضطراب في أصعدة أخرى خاصة مجال التوازن الاقتصادي ، الذي بات يلعب لصالح العمالقة الأسيويين وعلى رأسهم الهند والصين ثم بعد ذلك كوريا و تايوان و تايلاند وماليزيا وسنغافورة .. وأخيرا إمارة دبي التي أصبح نفوذها المالي ودورها في التبادلات الاقتصادية يتعزز يوما بعد يوم. وفي المقابل تعرضت كثير من الشركات العملاقة ذات المنشأ الأوروبي إلى اهتزازات شككت في مدى نجاعتها الاقتصادية بداية من شركات النسيج الأوروبية التي قامت بتسريح أزيد من نصف عمالها ورمتهم في خنادق البطالة، ومرورا بشركات المواد الغذائية المعلبة التي فقدت السيطرة على الأسواق الدولية. في الولايات المتحدة لعبت لجنة الكونجرس في التحقيق في أحداث 11 سبتمبر دورا بارزا في طرح النقاش الجدي وذلك عندما طرحت السؤال: لماذا يوجد هنالك إرهاب؟ ومن ثم البحث عن جذور الظاهرة، وحيث يلعب الاستبداد السياسي دورا بارزا في صناعة الانسداد وغلق منافذ التغيير السلمي وتحويل الطاقة الشبابية المعطلة إلى قنابل بشرية موقوتة يمكنها أن تنفجر في أي حين. ومهما قيل عن الإدارة الأمريكية الحالية، فإنه يبدو أنها المرة الأولى التي بدأ الحديث فيها عن جذور التطرف ليس فقط في الجانب الاجتماعي ولكن أيضا في الجانب السياسي الذي لا يسمح بتوزيع عادل للثورة ، واحترام قرارات الشعوب ، الأمر الذي يؤدي إلى الفساد الاقتصادي وشيوع الرشوة والمحسوبية ، ومن ثم حدوث الاختناق الاجتماعي وبالتالي الانفجار السياسي والأمني. لقد بتنا اليوم وللمرة الأولى نسمع كثيرا من صانعي القرار يتحدثون عن خطورة الاستبداد وخطورة الديمقراطية الشكلية ، باعتبارهما يمثلان تهديدا للسلم و الرفاه العالمي لأنهما يقطعان الأمل من القلوب، ويكرسان السلبية وروح الانتقام. لقد دعت إدارة بوش الثانية إلى تغيير جذري في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي، تلك السياسة التي لم تتغير طيلة الستين سنة الماضية، ولأول مرة لم تعد مواقف الدول من القضايا الخارجية محل اهتمام فقط بل كذلك علاقات الحاكم والمحكوم وسياساتها الداخلية أيضا محل اهتمام شديد. وتحت وقع هذا الضغط الذي يمارسه "الأخ الأكبر" (Big Brother) لبعض الأنظمة في المنطقة نجد تحسنا ملحوظا لملف العمل السياسي وملف حقوق الإنسان في بعض الدول. وهاهي الانتخابات المصرية الأخيرة تدل على أن هذه الأنظمة بدأت تفقد السيطرة . وأما بالنسبة لمختلف القوى السياسية في العالم الإسلامي فعليهم أن يدركوا أن سرعة تحرك الأحداث الدولية والتطورات المختلفة التي يتداخل فيها السياسي بالأمني والاقتصادي بالأيديولوجي، أصبحت كبيرة جدا بالمقارنة مع السنوات الماضية ، ولذلك بات من الواجب على قوى التيار الحضاري أن تكون قادرة على قراءة الأوضاع بشكل صحيح ، وتفهم اتجاهات التاريخ كي تستطيع أن توازن بين خياراتها الإستراتيجية وفعلها اليومي الديناميكي ، وتكون لها قدرة لاستشراف المستقبل ، تسمح لها بتجنب جميع الانزلاقات والمطبات الدولية. وأي غفلة عن هذه السرعة الهائلة التي تحرك المسارات الدولية سيؤدي إلى فقدان السيطرة والموقع في الحدث الدولي بلا شك. وفي ظل هذا التسارع اهتمت العديد من المؤسسات البحثية في العالم الغربي ومنها مؤسسة "راند" الأمريكية بمناقشة قضايا الإصلاح في العالم الإسلامي. والجديد في هذا المشهد الفكري أن هناك اهتماما متزايدا بدور الحركات الوطنية والحركات الإسلامية في قيادة منظومة العمل السياسي في هذه البلاد ، سواء تعلق الأمر بالنفوذ المتصاعد للمسلمين في الهند، أو الدور الفاعل للحزب الإسلامي في تركيا في تحييد الجيش ، والالتفاف على العلمانية الأتاتوركية المتطرفة ، أو تفاعلات المشهد السياسي الجزائري بين المصالحة الوطنية الحقيقية والمصالحة الاستئصالية ، التي تصنف المواطنين إلى درجة أولى ودرجة ثانية، أو مواطنين و "أنديجان"(1) كما كان يفعل الاستعمار الفرنسي. وأحب هنا أن أقف بسرعة عند بعض أهم ملامح الموجة الإصلاحية الجديدة التي تصدر من الغرب ، وأجبرت معظم الدول الديكتاتورية المتسلطة على رقاب الناس في العالم العربي على تغيير سياساتها المحلية حتى تتحايل على المجتمع الدولي. فشل التخويف بالحركة الإسلامية كإستراتيجية استئصالية : نذ البداية كان رهان القوى العلمانية في العالم الإسلامي هو صناعة بُعبُع لتخويف الغرب به: "فإذا طالبتمونا بديمقراطية حقيقية فإن الوريث لنا هو التيار الأصولي والحركات الإسلامية". كان العلمانيون يتصورون أن صناعة هذا البُعبٌع كافية لإبعاد شبح المطالبة بالإصلاح الحقيقي القائم على التعددية الفكرية واحترام إرادة الشعب ، وتوقيف المهازل الانتخابية التي تسيرها عصابات التزوير المفضوح. لقد كانت إستراتيجية التيار التغريبي هي التلويح المستمر بخطر "الغول الأصولي" الذي يريد إعادة الناس إلى القرون الوسطى، من أجل الحفاظ على المكاسب غير الشرعية ونهب المال العام. فمن خلال التلويح بهذا الغول كانت النظم التي تساقطت شرعيتها وفقدت مصداقيتها تريد أن تخلد نفسها في سدة الحكم، وتبرر كل السياسات القمعية الدامية التي راح ضحيتها مئات المواطنين الأبرياء في مصر وسوريا والعراق وتونس والمغرب والجزائر وغيرها. وأصبحت معظم هذه الدول تسير عن طريق الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ ومجالس معينة في شبه انتخابات لا ترقى إلى أدنى مقاييس النجاعة القانونية والديمقراطية. لكن الغرب بدأ يتخلص من النظرة النمطية التي كان يسوقها دعاة العلمانية العربية عن الحركات الإسلامية. ونظرة بسيطة للكتب والمنشورات التي طبعت في العالم الغربي حول التيار الإسلامي في السنوات الأخيرة تجعلنا نقف على مادة فكرية وبحثية راقية ، تراوحت بين رسائل الدكتوراه ودراسات بحثية ألقيت في ملتقيات فكرية ، خصصت لبحث مشروعات الحركة الإسلامية وعلاقتها بالغرب وبمفهوم الإصلاح وبالديمقراطية. ومن الواضح في هذه الدراسات أن معظمها بدأ يفرق بين صورة الحركة الإسلامية كما يروجها الكتاب المرتزقة وأئمة العلمانية المتطرفة و الأنظمة الديكتاتورية القمعية ، وصورتها الحقيقية من خلال العودة إلى خطابها ومواثيقها ورصد حركتها في الشارع الشعبي. فالنظم الديكتاتورية والكتاب التغريبيون يسعون لترويج صورة المجموعات الهامشية التي يراد إلحاقها وتصنيفها ضمن نسيج الصحوة الإسلامية. وعادة ما تكون هذه التيارات الهامشية تتبنى أفكارا غاية في البساطة والسذاجة ، والأخطر من ذلك كونها تيارات قابلة للاختراق الأمني ، ومن ثم التوظيف السياسي والإعلامي و المخابراتي متى احتاجت الأنظمة لذلك. وفي نفس الوقت تقوم هذه الأنظمة بتجاهل الصوت الإسلامي العريض المعتدل الوسطي لأنها تعتبره خطرا حقيقيا على وجودها ويهددها باستمرار في مهمة سيطرتها على شؤون الدولة والمجتمع خارج إطار الشرعية. بدأ الباحثون في الغرب يهتمون بالنسيج الإسلامي العريض المعتدل، بل هناك بعض الأصوات لا تخفي رغبتها في إدماج هذه الأصوات المعتدلة في العملية السياسية حتى يتم الفصل بينها وبين قوى الميوعة أو الإرهاب. وفي ظل هذا الحرج والضغط المتزايد على الأنظمة عمدت هذه الأخيرة لبناء واجهات "إسلامية" مزيفة ، واستعمالها كجزء من الديكور الديمقراطي المغشوش. وهو نفس ما قام به الاستعمار عندما حارب بلا هوادة حركة الإصلاح الإسلامي ممثلة في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، وقام بالترويج لكل أنواع المتدينين المزيفين سواء كانوا من بعض الطرق الصوفية المنحرفة البعيدة عن التصوف الحقيقي ، والتي اعتبرت الاستعمار قضاء وقدرا ومن يحارب الاستعمار فهو يحارب قضاء الله وقدره، أو تلك التي مارست أصناف التضليل الديني وتشويه سمعة ومكانة العلماء. أملنا أن يعود التيار التغريبي لصوابه و أن لا يحاول معاكسة أو عرقلة عجلة التاريخ، فإن عالمنا الإسلامي يمر بمرحلة دقيقة، حيث إن الظروف الدولية و الإقليمية و المحلية تفرز اليوم فرصا تاريخية من أجل إقدام مختلف بلدانه على إصلاحات حقيقية تمكن شعوبنا من إقلاع حضاري. الديكتاتورية وباء يجب أن يحاصر لأول مرة يقف رئيس دولة أمريكي ليقول للعالم بأننا أخطأنا طيلة ستين سنة في دعم النظم الديكتاتورية في
العالم ، سواء نظام ماركوس في الفلبين أو الأنظمة العسكرية القمعية في أمريكا الجنوبية أو غيرها من النظم في العالم العربي وفي أفريقيا وآسيا. هذا الاعتراف لم يأت من فراغ بل هو حصيلة تقييم دقيق لمخاطر تصعيد الضغط على الشعوب ، وحكمها بأنظمة ورقية تستند فقط إلى لغة القمع والقتل والتعذيب ومصادرة حرية التعبير والرأي . إن الاستبداد خطر على النمو الاقتصادي ، وخطر على حركة التبادل الدولي ويؤدي في حالات كثيرة إلى اضطراب أسعار العملات و تذبذب أسعار النفط ، وكلها عوامل تؤثر في استقرار النمو الاقتصادي. إن هذه الحساسية المفرطة تدفع الجميع إلى نبذ كل أشكال الديكتاتورية والاستبداد المحلي والعالمي، وقديما قال ابن خلدون رحمه الله:"الظلم مؤذن بخراب العمران". و هذه القاعدة الاجتماعية التي استخلصها العلامة ابن خلدون هي التي يبدو أن منظري العلاقات الدولية اليوم قد فقهوها جيدا ، و أملنا أن يتحرك السياسيون على ضوئها ، و أن لا يصغوا لتحرشات الدكتاتورية و أكاذيب استخباراتها. لقد شدد العديد من الباحثين و المختصين في السياسة الدولية على أهمية خلق دينامكية جديدة في العالمين العربي والإسلامي ، وذلك بفسح المجال لجميع القوى الوطنية والإسلامية الفاعلة في مجتمعاتها ،حتى تتخلص هذه المجتمعات من بذور العنف وتتجه نحو البناء والتعمير. و للأسف نجد أن هذه الأنظمة تعمل على التمديد في عمرها وذلك بتحويل العنف إلى سلوك ومنهج سياسي تقايض به المجتمع الدولي دون اهتمام بصحة المجتمع المحلي واستقراره ونموه الاقتصادي. حتى إذا خفتت حدة الصراع وتراجعت يشهد المجتمع دون سابق إنذار موجة جديدة من العنف غير المبرر. وفي نفس الوقت نجد إعادة تأهيل العنف حتى يتحول إلى عنف اجتماعي واسع النطاق. وإلا كيف نفسر إلقاء القبض على أكثر من 500 شخص في شهر رمضان الماضي في بلد مثل الجزائر بتهم العنف الاجتماعي المدني. ألا يدل هذا على أن العنف بدأ يتهيكل في أشكال جديدة ؟ ومن يعطيه قوة الحركة ؟ أليست هي الدوافع القائمة على الهروب من الواقع المؤلم المشبع بصور الإحباط والبطالة. لكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو كيف ستقوم هذه الأنظمة بتغيير جلدها حتى تتكيف مع موجة الإصلاح التي أصبحت مطلبا دوليا قبل أن تكون مطلبا سياسيا وطنيا ، وضرورة اجتماعية ملحة؟ وإذا أردنا الحديث عن إصلاح حقيقي في مجتمعاتنا الإسلامية لا بد أن نقف عند محطات أرى بأنها هامة جدا، ودونها لا يمكن الحديث عن الإصلاح الحقيقي: الإصلاح السياسي أم الإصلاح الحضاري ؟ من المغالطات الكبرى حصر المشكلة في الإصلاح السياسي فقط. وكأن المشكلة تتعلق بالجانب السياسي ، دون النظر إلى العمق الحضاري للمشكلة الذي يؤثر بشكل كامل على كافة المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية و الاقتصادية. وحيث العامل السياسي على أهميته يتحول إلى الجزء البارز من جبل الجليد فقط. ولذلك رؤيتنا أن تجزئة عملية الإصلاح وتحويلها إلى عنوان جديد لمعركة سياسية يختزل أبعاد التغيير الحقيقية. فالتغيير شامل له بعد حضاري لا ينحصر فقط في المشكلة السياسية. فمجتمعاتنا في حاجة ماسة ليس فقط إلى انتخابات نزيهة وديمقراطية حقيقية ، ولكن إلى ضمان الحريات وحقوق المواطنة لجميع فئات المجتمع دون تمييز، وإلى فعالية في مجال التربية واستقرار اجتماعي وأسري ، واعتزاز بالهوية الثقافية واحترام ثوابت الأمة والمجتمع ، وتعزيز الوحدة الوطنية، وإلى تأسيس دولة القانون القائمة على الحق والعدل لتكون أداة في يد المجتمع تمكنه من إقامة النظام المجتمعي الذي يرضاه ، وإلى تنظيف الخدمة العامة والإدارة من الفساد والرشوة والمحسوبية ، وإلى نمو اقتصادي... فكل هذه المجالات هي جزء من عملية ديناميكية شاملة. وأول خطوات الإصلاح تنطلق من الإنسان من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية ، و إعادة ثقته بنفسه ووطنه ومجتمعه و أمته ، وتعزيز فعاليته الاجتماعية وتقوية دوره في حركة التاريخ الاجتماعي، حتى لا يشعر بالدونية و التهميش. من شروط الإصلاح : إن التيار الحضاري، كقوة حية وفعالة يحتاج إلى مزيد من التأمل في فرص التغيير و الإصلاح التي يوفرها الوضع الجيوسياسي العالمي، خاصة أن الخط الأصيل استطاع أن يحافظ على مسافة متوازنة بينه وبين النظم الديكتاتورية ، والممارسات التي تخل بالتزامات الحركة اتجاه المجتمع. وهذا ما يجعل مصداقيته الاجتماعية والتاريخية لا تزال قوية يمكن استثمارها لتقوية قناعة المجتمع بأهمية تحمل المسؤوليات التاريخية. ولا يمكن الحديث عن الإصلاح السياسي فضلا عن الإصلاح بالمفهوم الحضاري الشامل دون السعي المنهجي لضبط الخطوات العملية الممكنة. لأنه لا يعقل أن تستمر كل من الحركات الإسلامية والوطنية في طرح الشعارات دون البرامج العملية الميدانية الواقعية. ولذلك فإنني أحاول أن أساهم في إثارة هذا النقاش الحيوي ، وذلك بطرح العناصر التالية كعوامل تعزز التحرك نحو الإصلاح بمفهومه الشامل. و إلى جانب تنمية روح النقد البنّاء وتعزيز ثقافة العمل والفعالية ، علينا تكثيف الجهود الوطنية من أجل: تعزيز دور المجتمع المدني إنه لمن الخطأ التصور أن التغيير يخضع دائما للعامل الواحد والمؤثر الواحد، بل برهنت التجربة أن هناك عدة عوامل تتضافر فيما بينها لتصنع الوجه الجديد وفجر النهضة. و لذلك لا يمكن القول إن العمل السياسي وحده هو مفتاح التغيير. وهذا ما جعلنا نحن في مدرسة البناء الحضاري الدعوية نقف مبكرا ضد الطرح الذي أراد أن يذوب العمل الإسلامي في العمل السياسي، ويجعل الحزب السياسي بديلا عن الدعوة. فالسياسة ليست هي كل شيء، بل هي جزء لا يتجزأ من عملية أعقد وأكبر هي عملية التغيير الحضاري الشامل. لقد كانت هناك كثير من القوى تجذبها العناوين الكبرى والأضواء البراقة ، ولكنها لا تستطيع أن تفهم سير عجلة التاريخ في الاتجاه الصحيح وتضمن استقرار وسلامة جميع الراكبين. وهذا ما يجعلنا نعترف بأن اهتمام الحركة الإسلامية بالمجتمع المدني عمليا وميدانيا لم يكن بمستوى التحديات المطروحة. ورغم أن حركة البناء الحضاري التزمت جانب التحفظ ولم تشارك كمؤسسة باقي القوى في ركوب موجة تأسيس الأحزاب حيث اكتفت بدعمٍ بالرجال والمشاريع لأول تجربة سياسية للصحوة الإسلامية بالجزائر إلا أنها رغم ذلك لم يُسمح لها بتطوير تجربة مستقلة تهدف إلى تطوير وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني، ف "الجمعية الإسلامية للبناء الحضاري" كانت أول الجمعيات الثقافية التي طالها الحظر ظلما وعدوانا غداة 11 يناير 1992. لقد بات من الواضح اليوم أن الدور الفاعل لمؤسسات المجتمع المدني سواء هيئات حقوق الإنسان أو الجمعيات الخيرية أو الثقافية أو جمعيات خدمة الدعوة والمساجد التي تتولى استكمال نقائص الفعل الرسمي وعمل الدولة مهمة جدا وتحتاج إلى عناية خاصة من أبناء الحركة الإسلامية. فهذه المؤسسات تطلق طاقات المجتمع من أجل الإبداع والتطوير وتكون بعيدة عن لغة المزايدات والتراشق الإعلامي ، لأن كل من ينتسب لمثل هذه المؤسسات يكون هدفه هو أداء الواجب أولا وقبل كل شيء قبل النظر لأي حق من حقوقه الشخصية. عزل المتطرفين: المغالين والمائعين إن التطرف في أي اتجاه ليس من خلق أصحاب الرسالات ولذلك كان الإسلام ضد التشدد وضد التميع، الأمر الذي يدفع قوى التغيير الجادة لخط طريق مستقل بين هذين الحدين المتناقضين، حد الغلو وحد الميوعة. ففي الجزائر مثلا، ربما لم تنتبه الحركة الإسلامية عندما جرفتها الأحداث التي أعقبت 5 أكتوبر 1988 إلى خطورة هذا الطابور الخطير الذي ينمو في هوامش الفعل الدعوي الوسطي. فهناك المتسلقون الذي جعلوا الدعوة مطية لمكاسب ومناصب ثم تنكروا لها وأصبحوا يخافون من الانتساب لها. وهناك من يزايد على الدعاة الشرفاء والعلماء الأجلاء ، ويتهمهم بالتقصير في حق الإسلام والدعوة ، ويصبح يتعامل معهم و كأنهم قوى شيطانية. ولذلك فإن السير في الخط الوسطي الإسلامي المتوازن ليس بالأمر الهين كما يتصور البعض. فالدعوة بين مرونة تكسبها التوازن أو مرونة تفقدها هويتها وتذيبها في بحر المتاجرين بمكاسب العمل الإسلامي ، من أجل مصالح شخصية وفئوية. هذا بالنسبة للتطرف المحسوب على الحركة الإسلامية بالجزائر، و أما بالنسبة لباقي بؤر التطرف المحسوبة على التيار التغريبي الاستئصالي ، والتيار المدافع عن حقوق الإخوة الأمازيغ ( البربر ) و ثقافتهم، فربما الحركة الوطنية هي الأخرى تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية بحكم استحواذها منذ فجر الاستقلال على السلطة السياسية في البلاد ، و لو بصفة الواجهة للسلطة الفعلية الغامضة والغير الدستورية ، التي لا تزال تهيمن على مفاصل الحكم في البلاد. فكبت الحريات و القبول بنظام الحزب الواحد وعدم توضيح حقيقة مكانة الجيش و أجهزة الاستخبارات ، و تدخلها غير الدستوري في صنع القرار ورسم سياسات البلاد ، و الإفراط في الدعوة إلى القومية العربية على حساب الإسلام المكون الأساسي للشخصية الجزائرية و العنصر الموحد للبلاد، ، أدى إلى دفع الكثير من أبناء شعبنا إلى التطرف في ميولهم لثقافة المستعمر الفرنسي ، والبعض الآخر إلى نزعات الانفصال الخطيرة التي أصبحت تهدد بالفعل المصالح الإستراتيجية لبلدنا بل و لكامل منطقتنا في شمال إفريقيا. آن الأوان للاعتراف بحق أبناء الصحوة الإسلامية في المشاركة في عملية الإصلاح الحضاري، بما فيه حق السياسيين المنتمين للحركة الإسلامية دون تمييز للمشاركة في الساحة السياسية، إن الإصلاح الحضاري الشامل لا يكون إلا بالخروج من دائرة المشكلات الوهمية التي تعرقل مسيرة المجتمع ، والنظر بعيدا للمشكلات الحقيقية التي تتعلق بموقع الجزائر في المنظومة الدولية ومكانتها بين الأمم. هل نحن مؤهلون كي نساهم في الحضارة الإنسانية المعاصرة ؟ وهل يمكننا أن نشارك في النشاط الاقتصادي العالمي مثل شعوب كوريا واليابان .. واليوم أيضا الهند.. وفي الغد القريب ستبرز فيتنام؟ ذلك هو الرهان الحقيقي! وتلك هي تحديات المستقبل! فهل من متبصر؟! -------------------------------------------------------------------------------- * رئيس البعثة البرلمانية للجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية في واشنطن (1) كلمة فرنسية معناها "الأهالي" كانت تطلق على سكان الجزائر الأصليين المصدر : الاسلام اليوم

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.