اقتربت امتحانات الثانوية العامة، وبهذه المناسبة نعيد طرح قضية علاقة وسائل الإعلام بالامتحانات. لا شك أن الإعلام - كسلطة رقابية - عنصر هام ويجب الحرص على استقلاله وتمكين الإعلاميين من أداء واجبهم. ولكن ليسمح لى كل من يشوشرون على عملية الامتحانات بالاختلاف الشديد معهم.. إذ ما دخل وسائل الإعلام بالامتحانات؟! المفروض أن الامتحان مجرد اختبار لقياس قدرات الطالب وليس معركة بين أولياء الأمور ووسائل الإعلام وبين الوزارة. ولا شك أن هذا الضغط الإعلامى والأسرى يؤثر سلبا على الطلاب أنفسهم.. فنجد صحفا تنشر صور طالبات تبكين، وأخرى تخصص تقريرا يوميا عن صعوبة وسهولة الأسئلة، ونجد إرهابا إعلاميا على واضعى الأسئلة! ما هذا الهراء وسوء التقدير؟! إن صعوبة وسهولة الأسئلة مسألة نسبية.. وما دام الامتحان عاما على الجميع فلا معنى لهذا التدخل السافر فى أمر يجب أن يتم فى سرية وهدوء. وليت هؤلاء ينتبهون إلى الأمر الأهم وهو الحرص على توفير الشفافية والعدالة والمساواة باللجان كافة بمنع الغش، ومنح الطلاب فرصا متساوية لقياس المهارات والتحصيل.. ولتأت الأسئلة فى هذه الحالة للجميع؛ صعبة أو سهلة، فلن يكون هناك ظلم لأحد. ألا تتفقون معى على أن المطالبة بأسئلة "سهلة" هى غِش مقنّع؟ ولعل هذا الهراء الغريب (بالإضافة إلى ظاهرة انتشار الغش) يطرح قضية هامة: لماذا تغير الإنسان المصرى وصار هدف أولياء الأمور (تساندهم – بقوة - وسائل الإعلام)، هو مجرد عبور أولادهم للامتحان "بتفوق" بصرف النظر عن مستوى التحصيل بالسلم التعليمي.. لقد تربينا فى هذا الوطن نفسه على قيم أصيلة أساسها أن "الغش حرام"، ولم نكن نشهد فى الماضى القريب هذا الاهتمام الفائق بالامتحانات "فقط" دون أدنى اهتمام بالعملية التعليمية نفسها. لم نكن نشهد هذا التكالب على لجان الامتحانات لمحاولة مساعدة الأولاد بالغش أو بشراء الأسئلة.. كانت حوادث الغش ومساعدة أولاد بعض قيادات التعليم المحليين نادرة وممقوتة ومستهجنة، وكان الطالب الذى يحظى بالمساعدة أو الغش يشعر بالخزى والعار أمام زملائه. كان هناك شعور وفهم عام بأن الغش لن يفيد؛ لأن الطالب الغشاش الذى لم يتعلم جيدا لن يستطيع المواصلة بالمراحل التالية.. وكان أولياء الأمور يتفهمون ذلك ويريحون أنفسهم من عناء اللهث وراء الامتحانات ولجانها، وكانوا بالتالى يهتمون بالعملية التعليمية نفسها، ونشأت فصول (التقوية) لمساعدة الطلاب ضعاف التحصيل، وظهرت الدروس الخصوصية من أجلهم؛ لأنه لا حل سوى التعلُّم الحقيقى ورفع مستوى الطالب. وكانت قصص القِلة القليلة من الطلاب الذين حصلوا - بنفوذ آبائهم - على "الدرجات العُلا" بالثانوية العامة ثم فشلوا فى مواصلة تعليمهم بكليات الطب وغيرها دائما حاضرة. لا شك أن انتقال الفساد التعليمى إلى الجامعات أيضا (حكومية وخاصة)، هو الذى يشجع أولياء الأمور على محاولة مساعدة أولادهم (بالمطالبة بامتحانات "سهلة" أو بالغش)، لعبور امتحان الثانوية العامة.. فالطالب الغشاش بالثانوى يمكن أن يكون غشاشا بالجامعة، ليتخرج ويحمل شهادة تؤهله "بجهله" لقتل المرضى الذين يوقعهم حظهم العاثر فى عيادته، أو تدمير المنشآت التى يصممها أو يشرف على بنائها، أو تسميم الناس بالمياه الملوثة ...الخ. وأصحاب النفوذ والمال الذين يستطيعون شراء الامتحانات بالثانوى هم الذين يستطيعون فعل الشيء نفسه بالجامعة، وهم الذين يستطيعون تدبير وظائف لأولادهم الجاهلين فور التخرج، رغم البطالة السائدة.. فلماذا لا ينتشر الغش وشراء الذمم؟! لابد إذاً من إصلاح الجامعة أولا.. وإليكم مثال واقعى يمكن أن يدلنا على موضع الداء؛ لأن الفساد (فوق، فوق)، فى الرأس! فى دولة خليجية؛ تعاقدت "أستاذة" مصرية بجامعة إقليمية لتدريس أحد التخصصات الأساسية.. وكانت المفاجأة أنها لا تفقه شيئا فى ذلك التخصص لدرجة أن الطالبات الخليجيات المهذبات اللاتى يرضَيْن بأقل القليل من العلم - إن أحسن الأستاذ تقديمه - رفضنها وطالبن بتغييرها. وعندما تدخل الزملاء لحل المشكلة، اقترح البعض أن تختار المقرر الذى يروق لها وتستطيع أن تقنع به الطالبات (وليكن تخصصها الدقيق).. ولكنها فشلت فى تقديم أى مقرر بحجة أنها "مقررات صعبة"، واضطر العميد لإنهاء عقدها. وقد تسببت هذه الواقعة فى فتح حوار محرج للمصريين عن مستوى الأساتذة وعن أزمة التعليم فى مصر. واحتدم النقاش عن اللجان العلمية، وكيف تسمح بترقية من هم دون المستوى، وعندما عرفنا أن زوج هذه الأستاذة عضو بإحدى اللجان العلمية؛ بَطُل العجب!.. وذُكِرتْ قصص كثيرة عن التربيطات والهدايا والرِّشا؛ لدرجة أن أحدهم أقسم أن الدرجات تمنح فى جامعته ب"حلل المحشي!". لابد إذاً من البدء بالجامعة واستئصال كل أشكال الغش والمجاملات والفساد، لكى نصلح العملية التعليمية كلها. أما وزير التربية والتعليم فما عليه إلا أن يُصلح وزارته أولا، بإعادة العملية التعليمية إلى المدارس بدلا من البيوت، وإعادة الهيبة إلى المعلم، وإعادة الكتاب المدرسى "المحترم" إلى الطالب ومنع الكتب الخارجية، وإعادة مفهوم التعلم من أجل اكتساب المعرفة وليس لعبور الامتحان.. لو فعل ذلك لأصلح التعليم وأفلح فى منع الغش بنوعية - الصريح والمقنّع - ولقدم خدمة جليلة للوطن. وننبه السيد الوزير ووزارته مسبقا إلى أن (مسرحية) إعادة التصحيح مقابل مائة جنيه للمادة، التى تديرها الوزارة لجمع المال من الطلاب ضحايا (سوء وعشوائية التصحيح) لن تمر بهدوء بعد أن اكتشف الناس أن الأمر لا يتعدى "مراجعة جمع الدرجات"؛ دون النظر إلى لب المشكلة أو ظلم المصححين الذين يلتزمون بنموذج التصحيح ويعتبرون الإجابة الصحيحة (خطأ) إن لم تُذكر بالنموذج! ينبغى ذكر هذه الحقيقة قبل الإعلان عن فتح أبواب الطعون، حتى لا تكون الوزارة فى موقع من يغش الطلاب. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.