نواصل الحوار مع وزراء حكومة الثورة لمعاونتهم على بدء التغيير الشامل لتحقيق النهضة بعد إصلاح (الخرابة) التى أورثها لنا المخلوع. ولا شك أن إصلاح أى قطاع من قطاعات الدولة لا يمكن أن يتم قبل إصلاح التعليم.. فالتعليم الجيد هو الأساس لتكوين المواطن الصالح لأى عمل آخر. وكان المفروض أن يكون التعليم هو أكثر الميادين حصانة ضد الفساد لأنه يتعلق بمستقبل الوطن، إذ لا يمكن أن تنهض أمة فى ظل تعليم فاسد. ويدرك الناس فى العالم كله أن التعليم ليس مجرد امتحان للحصول على رخصة للعمل، ولا هو مجرد تلقين للمعارف والمعلومات.. ولكنه عملية تربوية متكاملة تهدف إلى بناء الإنسان الصالح الواعى الذى يمتلك من المعارف والمهارات ما يمكِّنه من خدمة نفسه ووطنه. ومرحلة التعليم فى حياة الإنسان هى مرحلة تكوين الشخصية واستكشاف المواهب واكتساب المعرفة وتنمية المهارات والسلوكيات.. والشرط الأساسى لتحقيق ذلك هو توافر الشفافية والمساواة والقدوة الصالحة، وإذا لم يتوافر ذلك فى تلك المرحلة الدقيقة من حياة الإنسان فلا أمل فى التعليم، لأنه يصبح أداة هدم لشخصية الإنسان وسلوكياته. ونعتقد أن الجرائم الكثيرة التى اقترفها النظام المخلوع لا تساوى شيئا أمام جريمة إفساد التعليم، إذ حدث تغيُّر خطير فى مفهوم التعليم نفسه؛ وصار الهدف منه هو مجرد عبور الامتحان بأى وسيلة والحصول على الشهادة- الرخصة، سواء تعلَّم الطالب أو لم يتعلم. لقد انهارت القيم الأصيلة التى كانت تميز المدارس والجامعات المصرية.. وهذا الانهيار والانحدار كانت له مقدمات كثيرة، لم تؤخذ مأخذ الجد فى حينها، وتسبب الفساد المستشرى فى إغماض العين عنها مما أدى إلى اتساع الخرق على الواقع.. لنصل إلى حالة حرجة لم يعد يجدى معها سوى أسلوب الجراحة والاستئصال. وأخطر ما فى الأمر أن المجتمع المصرى بات يتقبَّلُ حوادث الفساد فى التعليم، ولا تهتز له شعرة أمام هذا الزلزال المدمر الذى ضرب مصر فى قلبها.. إذ يظن الكثيرون الآن للأسف أن مساعدة الطالب فى الامتحان - سواء بالغش أو بشراء الأسئلة أو بالإرهاب الإعلامى لوضع امتحانات سهلة!- هدف مشروع وحق مكتسب، وأصبح التدخل غير المعقول فى امتحانات الثانوية العامة من قبل أولياء الأمور ووسائل الإعلام شيئا عاديا لا يثير الاشمئزاز ولا حتى الاحتجاج من أى جهة، وكأن المطلوب من وزارة التربية والتعليم هو منح (الدرجة النهائية) لجميع الطلاب فى جميع المواد أيا كان مستواهم أو درجة تحصيلهم! والسؤال الخطير الذى يطرح نفسه الآن: لماذا تغير المجتمع المصرى وصار هدف أولياء الأمور (تساندهم- بقوة- وسائل الإعلام للأسف) هو مجرد عبور أولادهم للامتحان "بتفوق" بصرف النظر عن مستواهم التعليمى؟.. لقد تربينا فى هذا الوطن نفسه على قيم أصيلة أساسها أن "الغش حرام"، ولم نكن نشهد فى الماضى القريب هذا الاهتمام الفائق بالامتحانات "فقط" دون أدنى اهتمام بالعملية التعليمية ذاتها. لم نكن نشهد هذا التكالب على لجان الامتحانات لمحاولة مساعدة الأولاد بالغش أو بشراء الأسئلة.. كانت حوادث الغش ومساعدة أولاد بعض قيادات التعليم المحليين نادرة وممقوتة ومستهجنة، وكان الطالب الذى يحظى بالمساعدة أو الغش يشعر بالخزى والعار أمام زملائه. كان هناك شعور وفهم عام بأن الغش لن يفيد؛ لأن الطالب الغشاش الذى لم يتعلم جيدا لن يستطيع المواصلة بالمراحل التالية.. وكان أولياء الأمور يتفهمون ذلك ويريحون أنفسهم من عناء اللهث وراء الامتحانات ولجانها، وكانوا بالتالى يهتمون بالعملية التعليمية نفسها، ونشأت فصول (التقوية) لمساعدة الطلاب ضعاف التحصيل، وظهرت الدروس الخصوصية المحدودة من أجلهم لأنه لا حل سوى التعلُّم الحقيقى ورفع مستوى الطالب. وكانت قصص القِلة القليلة من الطلاب الذين حصلوا- بنفوذ آبائهم - على "الدرجات العلا" فى الثانوية العامة ثم فشلوا فى مواصلة تعليمهم بكليات الطب وغيرها دائما حاضرة. فما السبب فى هذا الانقلاب الخطير فى مفهوم التعليم؟، وهل هناك حل لهذه المعضلة التى تهدد مستقبل الوطن؟ لا شك أن انتقال الفساد التعليمى إلى الجامعات أيضا هو الذى يشجع أولياء الأمور على محاولة مساعدة أولادهم بالغش لعبور امتحان الثانوية العامة.. فالطالب الغشاش بالثانوى يمكن أن يكون غشاشا بالجامعة، ليتخرج ويحمل شهادة تؤهله "بجهله" لقتل المرضى الذين يوقعهم حظهم العاثر فى عيادته، أو تدمير المنشآت التى يصممها أو يشرف على بنائها، أو تسميم الناس بالمياه الملوثة ...إلخ. وأصحاب النفوذ والمال الذين يستطيعون شراء الامتحانات بالثانوى هم الذين يستطيعون فعل الشىء نفسه بالجامعة، وهم الذين يستطيعون تدبير وظائف لأولادهم الجاهلين فور التخرج، رغم البطالة السائدة.. فلماذا لا ينتشر الغش وشراء الذمم؟! وقد ساعد على استفحال هذه الظاهرة- إلى جانب الانهيار الجامعى- وجود الجامعات والمعاهد الخاصة التى تؤكد بنظمها الحالية المعلنة أنها نشأت لهذا الصنف من الطلاب. فالجامعات الخاصة فى الدنيا كلها تتنافس فى اجتذاب الطلاب المتفوقين أكثر من التنافس على (جيوب) أولياء الأمور، لأن المستوى الأكاديمى للجامعة ومستوى خريجيها هو الأهم.. وهو الذى يجلب المال أيضا؛ لأن الطلاب فى الدول الجادة يتسابقون للالتحاق بالجامعات المحترمة ذات السمعة الممتازة التى تهتم أساسا بالعملية التعليمية وبتخريج أفضل المتخصصين. وهذا واضح أيضا حتى فى بعض مدارسنا الخاصة الحالية.. فالمدارس الخاصة المتميزة لا تقبل إلا أفضل الطلاب، بل وترفض قبول الطلاب ضعاف التحصيل حفاظا على سمعتها. وقد تسربت آفة الغش إلى كثير من الجامعات أيضا، وهناك غش (رسمى) من نوع آخر تقترفه أغلب الكليات الآن من خلال إعداد قائمة من الأسئلة (وبيعها للطلاب) تحت مسمى "الشيت".. ولا يخرج الامتحان عنها لأن الطالب اشتراها بِحُرِّ ماله، والأستاذ حصل على هذا المال! والشىء الذى ينذر بالخطر أن كارثة الدروس الخصوصية بالتعليم العام انتقلت كما هى إلى الجامعات الكبرى، وصارت مشكلة الطلاب الآن هى ضياع وقتهم فى التنقل بين المراكز التعليمية المتناثرة فى أحياء العاصمة، بل والشكوى من الازدحام بهذه المراكز. إننا الآن بحق (أمة فى خطر) بسبب فساد التعليم.. ونواصل الأسبوع القادم بمقترحات للإصلاح. [email protected]