حان الوقت بعد أن انجلت محنة خطف الجنود وعادوا إلى أهلهم أن نتحدث عن ملاحظة مهمة ينبغي التوقف أمامها طويلًا، وهي حديث جميع الأطياف عن الدولة المصرية وصورتها أمام العالم وصورة الجندي المصري الذي قهر الجيش الإسرائيلي، وكيف يظهر في شريط الفيديو بهذه الصورة المخزية وكأنهم يتحدثون عن دولة أخرى غير مصر التي أصبح لا هيبة لها ولا احترام في قلب أحد، ولا أدري ما الفرق هنا بين خطف جنود وبين خطف أطفال أو قطع طريق أو إيقاف قطارات صحيح أن خطف الجنود يمثل قمة الاستهانة بالدولة إلا أن جميع هذه المظاهر تمثل في الدول العظمى جرائم أمن قومي يعاقب عليها القانون بأشد العقوبات كما تنم عن جرأة كبيرة وجرم خطير يجب التصدي له. لقد رأينا كيف أنه قفز فجأة على لسان جميع النخب السياسية مصطلح (هيبة الدولة) إعلاميون.. رئاسة.. إسلاميون.. وتيارات مدنية.. وفلول.. الغريب أن من يتتبع (قصة) هيبة الدولة هذه يجد أنها قصة مضحكة جدًا، لأن كل من يتباكى الآن على احترام (الدولة)، وعدم التقليل من مكانتها هو أول من شارك في إسقاطها ومشى في جنازتها، وأن مختطفي الجنود هم في الحقيقة آخر حلقة من سلسلة منتهكي (هيبة الدولة) ولم يعد في الحقيقة شيء يسمى هيبة الدولة حتى رأينا مظاهر فريدة ومضحكة أشبه ما تكون ببرنامج غرائب وطرائف من نوعية (إضراب الشرطة!!) و(إعلان استقلال بورسعيد والمحلة) وعدم قدرة الرئاسة على (زيارة مدن مثل بورسعيد والشرقية والمحلة!!) ومحاولة (خلع باب القصر الجمهوري ببلدوزر!! وغير ذلك كثير!!! جميع النخب غضت الطرف عن كل هذه (الفضائح) وأدارت وجهها للناحية الأخرى وتحدثت عن هيبة الدولة وكان كل شيء تمام والدولة محترمة (وزي الفل). لقد نسي أولئك أن هيبة الدولة مفهوم ينطوي على عنصرين: أولهما الرهبة والخشية، أي ما تبثه الدولة في نفوس الناس من شعور بالوجل والتهيب يمنعهم من تحديها أو انتهاك نظامها، وهو ما يثّبته اقتناعهم بأنهم إن فعلوا سيلقون عقابًا رادعًا والعنصر الثاني هو الاحترام، أي الشعور بالتقدير لأفعال الدولة، وهو شعور ينبعث من التزام هذه الأفعال بقيم وقواعد مطردة، ومن خدمة هدف عام يتعدى مصالح القائمين عليها، فالاحترام مرتبط بالقانون، وللأسف فإن عنصري الهيبة وهما (الخشية والاحترام) ساهمت كل العناصر في إسقاطهما فعنصر الخوف والخشية سقط تلقائيًا منذ الثورة وخرج ولم يعد وولى مدبرًا ولم يعقب ولم يعد أحد حاليًا يخشى الدولة ولا يعمل حسابًا لأجهزتها ولا لشرطتها أما عنصر الاحترام فقد شارك الجميع في هدره وهدمه وإسقاطه بدءًا من الإعلاميين الذين ترصدوا لرمز الهيبة (رئيس الدولة) فتندروا بكلامه واستهزئوا بتعبيراته وسكتاته وهفواته وطريقة كلامه ولم يتركوا شيئًا فيه إلا وسخروا منه ثم يطالبونه الآن بالحفاظ على هيبة الدولة!!، وجبهة الإنقاذ المعارضة شاركت أيضًا في إسقاط هيبة الدولة حينما سكتت عن الهجوم على (قصر الرئاسة) وضربه بالمولوتوف واشتعال النار في أشجاره وأعمدته أمام العالم ولم تدنه ولم ترفع عنه غطاء المعارضة وبعد ذلك تخرج وتقول أين هيبة الدولة!!! ومجموعات الألتراس أسقطت هيبة الدولة يوم أن ظلت أيامًا تحاصر مقر وزارة الداخلية وتصر على اقتحامه، أما الرئيس فقد ساهم هو بنفسه في إسقاط هيبة الدولة بقراراته الخاطئة ثم العودة عنها بصورة مضحكة ومكررة وبتهديداته (الفشنك) التي لم تعد تخيف أحدَا وبسقوط هيبته الواضحة حتى إن مدن القناة لتلعب كرة في ساعات حظر التجول تحديًا له ولقراره!! هيبة الدولة سقطت من خلال أداء الهواة (لمؤسسة الرئاسة) المهتز والتي من المفترض أنها أكثر مؤسسات الحكم انضباطًا وأدقها أداء لدرجة أنها تصدر قرارًا بالدعوة إلى الانتخابات ثم لا تكلف نفسها النظر في (نوتة أعياد السنة) لتعرف أن موعد الدعوة إلى الانتخابات يوافق أعياد المسيحيين!! فيعدل القرار في اليوم التالي في أمر غريب ونادر الوقوع ودقيق الدلالة على قمة الفوضى وسقوط الهيبة. أما الإسلاميون فتاريخهم يحكي أنهم (المؤصلون) لفكرة إسقاط هيبة الدولة وأكثر الأطياف عملًا لهذا ليس فقط في كسر هيبة مؤسسات الدولة بالقوة والسلاح وإنما في سحب بساط الشرعية من تحتها فالجهاديون قتلوا رئيس الدولة أمام العالم في يوم احتفال بأعظم نصر للمسلمين في القرن العشرين على اليهود وأسقطوا شرعيته وكفروا الجيش والشرطة والقضاء والمستقرئ لتاريخ العمل الجماعاتي في مصر يلمس بوضوح أن الحركة الإسلامية خلطت خلطًا عجيبًا بين مفهوم (الدولة) ومؤسساتها وبين مفهوم (الحكومة) أو (النظام الحاكم) وبسبب هذا الخلط تعرضت (الدولة) ومؤسساتها للاعتداءات بدعوى ( تغيير نظام الحكم) أو( قتال الطائفة الممتنعة) بل وتصفية الحسابات بين الطرفين. وللحق فإن أكثر الحركات الإسلامية حفاظَا على الدولة ورمزيتها بعد الثورة هي الجماعة الإسلامية وحزبها البناء والتنمية التي وضعت في استراتيجيتها تعزيز مكانة أجهزة الدولة وتأكيد هيبتها. والحازمون أيضًا أسقطوا الدولة بتعديهم اللفظي على الشرطة والجيش ويوم أن حاصروا وزارة الدفاع أمام العالم في حادثة فريدة من نوعها بدعوى أنها مقر للحكم العسكري وليس على اعتبار أنها وزارة دفاع طبعًا تبرير سمج لا منطق له ولا عقل!! والإخوان أسقطوا هيبة الدولة يوم أن حاصروا المحكمة الدستورية ومنعوها من أداء دورها ويوم أن هاجموا المعتصمين أمام قصر الاتحادية بدل أن يتصدى لهم الحرس الجمهوري. الكل بصراحة – تسلم يده– شارك في هدم هيبة الدولة بمعوله وبما يقدر عليه ومن ثم فالخاطفون هم جزء من الجغرافية المصرية التي تعاني من ترهل الدولة وسقوط هيبتها لا سيما في جزيرة سيناء وإقدامهم على الخطف هو مظهر من مظاهر سقوط الهيبة الذي شارك فيه الجميع حتى غدت مصر الآن وللأسف بلا هيبة لا داخليًا ولا خارجيًا، والحقيقة أن هيبة الدولة لم تسقط يوم أن خطف الجنود وإنما يوم أن فرح كل حزب بما لديه وقدم أجندته الخاصة والضيقة على المصلحة العامة وهيبة الدولة.