أزمات عديدة تلك التي عاشتها مصر وعاشها شعبها الكريم، ليس قبل الثورة على النظام البائد فحسب، وإنما تلك التي بتنا نعانيها بشكل فج، إبان الثورة ولاسيما مع حكم الإخوان.. أزمات عاشها الغني قبل الفقير ولا رجل الآمن قبل رجل الشارع.. والقاضي قبل المدعى عليه.. أزمات يقر البعض بأنها مختلقة ومدبرة.. ويراها آخرون بأنها ظاهرة صحية لنظام سقط وآخر يقوم... تعددت الأزمات وتعددت معها أصابع الاتهام.. وتعدد المتهمون والمتورطون، الكل يتهم الكل.. ولا يعفي من المسئولية سوى نفسه.. وأراهم جميعًا مذنبين بما فيهم أنا كاتب المقال.. فلسنا كلنا شرفاء ولسنا كلنا مذنبين والكل ساهم قدر وجوده والكل ساهم قدر المكان الذي يشغله والكل ساهم قدر طموحه.. ورغم تعدد التفسيرات المصاحبة للأزمة؛ بيد أنني أقصر ها في عاملين هما: الضمير والمدير.. وأقصد بالضمير الكائن في وعي الشعب.. وأقصد بالمدير المسئولية العالقة في عنق الرئيس.. والضمير في تصوري القوة التي تمنع الشخص من ارتكاب الجريمة.. والقوة أيضًا التي تمنعه من الاستمتاع بالفساد.. ضمير الشعب الذي اتُّهِمَ مبارك بقتله وسحله ودفنه عبر ثلاثين عامًا.. ضمير مات في وعي الشعب عندما أدرك أن الإتقان في عمله هَبَل.. وتفضيل المنتج الأجنبي في الشراء عن المصري دهاء.. ثلاثون عام فقد فيها الشعب قدرته على العطاء والتسامح، كما فقد فيها معاني التآخي والانتماء والإحساس بحب الوطن.. الوطن الذي استشعر المواطن أنه سلبه الإحساس بالكرامة، التي صار يبيعها المواطن لمن يدفع؛ رغبة منه في البقاء على قيد الحياة، ولم يعد الإحساس بالعيش الكريم سوى حلمًا لا يدركه سوى الأغنياء ويحرم منه البسطاء، حلم أصبح فيه الوطن كالسينما.. فيه المواطنون درجات، أولى وتانية وتالتة.. وناس بلكون.. وطن فيه مواطنون أصليون وآخرون عالة عليه.. فإذا كنا في عهد مبارك قد انقسم المجتمع إلى سياسيين وبسطاء.. فقد انقسمنا بعد الثورة إلى ثوار وحزب كنبة.. وثوار وفلول.. وإسلاميين وأقباط .. وسلفيين وإخوان .. ليبراليين وإسلاميين.. وفى عهد مرسي انقسمنا إلى إسلاميين وكفرة.. وهنا ينتحر الضمير الشعبي وتقع أزمة التاريخ .. وتقف مصر في المنتصف.. ولن تنتظر كثيرًا في فترة الثبات.. فإما أن تخطو مصر إلى الأمام وإما للخلف.. فالدول لا تعرف في تاريخها التوقف.. فإما أن تتقدم وإما أن تتأخر.. ومؤشر التنمية لا يعرف التغافل ولا الثبات.. وبطون البسطاء ليست كالعقول تعبئها الأوهام والأكاذيب.. وإنما تُملأ فقط بالطعام .. مات نظام مبارك وتعفن ومبارك على قيد الحياة.. ومات ضميره معه ضمير الشعب.. مات مبارك عندما أغلق مصانع الإنتاج وارتضى بالاستيراد كبديل.. ومات ضمير الشعب عندما استعاض بالاستهلاك عن الإنتاج، مات مبارك عندما جعل سيناء خاوية دون زرع ولا ماء.. وما ضمير ساكنوها عندما زرعوها بالمخدرات، وتزاوجوا من اليهوديات.. ماتت ضمائرهم جميعًا عندما قتلت الشهيد على أرضها مرتين.. مرة وهو يدافع عنها ومرة عندما زرعوا على جثته البانجو ورووه بدمائه ليقتلوا به آلاف الأبرياء.. مات ضمير مبارك عندما حول مصر إلى عزبة لا يرتع فيها سوى رجاله.. ومات ضمير الشعب عندما تجاهل حضارته وتاريخ أجداده وراح يبيع كرامته لكفيل في دول الخليج.. وعندما قبل العمل بغسل الأطباق في أمريكا وأوربا.. مات ضمير الشعب عندما ارتضى أن يعيش مشلولًا أو عاجزًا على مقاهي العاطلين.. مات مبارك ولم يورثنا سوى رئيس، لم يرث من سابقه سوى فنون التسول والشحاتة.. مات مبارك عندما حول ميادين مصر المحروسة وأبواب مساجدها ومزاراتها السياحية إلى ميادين لتسول سيدات وأطفال الشوارع، مات ضمير الأمة بحق عندما شوه الصورة.. وارتضى أن تتحول مصر إلى نظام يتسول في الخارج وشعب يتسول في الداخل.. ضمير الشعب الذي كرس ثقافة العند ولو على حساب مستقبل الوطن فاختار رئيسًا وحكومة بمعايير دنية وعاطفية لا علاقة لها بالكفاءة فوضع مصر على فوهة البركان.. مات الضمير الذي أعطى لأصحابه الحق في الحرق والتدمير والتخريب وإغلاق مؤسسات الدولة وتعطيل مصالح المواطنين.. مات ضمير الشعب والنظام الذي سمح لذراع البلطجة أن يقوى ليغلب ذراع رجل الأمن.. فالقضية يا سادة ليست فقط في رئيس فاسد أو مستبد.. وإنما في شعب سمح لضميره أن يموت ليموت معه كل شيء حتى الحلم في مستقبل. فإذا كان مرسي الرئيس مازال يغفو ولا يرى في مصر عيبًا سوى الشعب.. هكذا كان يرى مبارك.. وهكذا يسير مرسي على نفس الطريق سابقه.. تاريخ أملاه مبارك والآن يكتبه مرسي.. وإذا كان صلاح الشعب من صلاح الحاكم.. فهل سوف يكتب مرسي وجماعته بأيديهم نهاية حضارتنا؟ ويدشنون عصرًا جديدًا تحاكي فيه مصر الصومال؟! [email protected]