" إن الحرية السياسية للمواطن هي سكينة الروح النابعة من رأى كل فرد بخصوص أمنه. ولكي يتمتع كل فرد بهذه الحرية يجب أن تبذل الحكومة قصارى جهدها بحيث لا يخاف أي مواطن من أخيه المواطن"، هكذا عبر "مونتيسكو" في كتابه "روح القوانين" المنشور عام 1748 عن أهمية التربية السياسية المدنية للمواطنين، ويشير التحليل العميق لهذه العبارة إلى أهمية إدراك العلاقة بين الحرية السياسية وبين تعلم الأفراد لأصول التربية المدنية، ويتطلب ذلك تحديد طبيعة المعارف والمعلومات والقيم والآراء والأفعال التي يتوجب على المواطنين اكتسابها، لكي يستطيعوا المشاركة بفاعلية في الأنشطة السياسية لأوطانهم، وهنا تبرز أهمية التربية المدنية ودورها في إكساب المواطنين لكل ما يتصل بحقوقهم وواجباتهم. إن نجاح المواطنين كأفراد فاعلين في المجتمع لا يتطلب إعدادهم للقراءة والكتابة فحسب، ولكنه يتطلب أيضًا تدريبهم على التفكير في العديد من التخصصات مثل: الرياضيات والاقتصاد واللغة العربية واللغة الإنجليزية والدراسات الاجتماعية والعلوم. وليس هذا فحسب، بل يجب عليهم أن يدركوا العلاقة بين ما يتعلمونه في المدرسة وبين القضايا الحياتية المتنوعة التي عليهم أن يواجهوها، ويحتاج المواطنون إلى اكتساب مهارات التواصل مع مختلف الأفراد، كما يحتاجون أيضًا إلى إدراك أن مستقبلهم سوف يتأثر بالاقتصاد العالمي والتجارة الدولية والقرارات السياسية التي تتخذ في دول العالم الكبرى. ولهذا فهم يحتاجون إلى فهم فلسفة التاريخ والتقاليد والقوانين والعمليات الديمقراطية التي تجعل من وطنهم العريق صاحب حضارة عظيمة. ومن ثم، فإن قسم الولاء للوطن يتطلب فهم كل ما سبق. وإذا كانت التربية المدنية بهذه الأهمية فما هو تعريفها؟ يرى "ستورم وستوسكوبيت" أن التربية المدنية هي تعلم التفكير في حياة الفرد كمواطن ينتمي إلى جماعة، وتؤكد فلسفة التربية المدنية على أن استقرار نظام الحكم الجمهوري يعتمد بقوة على ذكاء الأفراد، وعلى أن ذلك يتطلب تأسيس نظام تعليمي حكومي مجاني موحد وعالي الجودة، ويرى "كارل جليكمان" أن هدف التعليم الحكومي هو تمكين التلاميذ من أن يصبحوا مواطنين لهم قيمة في مجتمع ديمقراطي، وأن يتعلموا كيف يصبحون أحرارًا وكيف يتخذون قرارات صائبة عن مستقبلهم، وأن يتدربوا على حكم أنفسهم وحكم الآخرين. ومن ثم يؤكد النظام التعليمي المرتجى على أهمية اكتساب التلاميذ للمهارات التي تمكنهم من أن يصبحوا مواطنين يتمتعون بروح المسئولية تجاه أوطانهم وأسرهم ومدارسهم. ونظرًا للأهمية الشديدة للتربية المدنية سعت العديد من دول العالم إلى تدريس هذه المادة طوال السنوات الاثنتي عشرة للتعليم قبل الجامعي، وتتضمن هذه المادة دروسًا عن أدوار المواطنين الدستورية، وكيفية صياغة القوانين، وآليات انتخاب المسئولين الحكوميين، وأهمية التصويت في الانتخابات، وضرورة المشاركة في نظام الحكم. وبالمثل تؤكد القواعد المنظمة لهذه المادة في العديد من الديمقراطيات الكبرى على ضرورة تقديم المدارس للتعليم وللأنشطة اللازمة لإكساب المواطنين المهارات الضرورية لإعدادهم كمواطنين إيجابيين يتحلون بروح المسئولية والواجب داخل بيوتهم ومدارسهم ومدنهم ومحافظاتهم ودولتهم. وبالإضافة إلى التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي تلزم بعض الدول طلاب الجامعات بدراسة مقررات في نظم الحكم والتاريخ لمدة عام دراسي كامل ومقرر واحد في الاقتصاد لمدة فصل دراسي واحد بصرف النظر عن تخصصهم الأساسي. وتقوم هذه الفلسفة على اعتقاد جوهره أن التعليم لن يكفي لإعداد المواطن الفاعل سياسيًا ما لم يتم تدريب التلاميذ خارج الفصول الدراسية، ومن ثم، فإن اكتساب المعلومات الأساسية، وفهم القيم والمبادئ الديمقراطية، وتنمية المهارات المدنية، وتشكيل المعتقدات السياسية سوف يستغرق وقتًا طويلًا، ولا يمكن تحقيق كل ذلك في أسبوع أو أسبوعين أو حتى من خلال مقرر دراسي يتم تدريسه لمدة 3 أو 4 أشهر. وبالتالي، تؤكد معايير التربية المدنية على ضرورة اكتساب جميع التلاميذ في جميع الصفوف الدراسية لفهم عميق للمبادئ الأساسية للنظام السياسي، ولتنظيم آليات تشكيل الحكومة، ولحقوق وواجبات المواطن. ومن هذا المنطلق تؤكد فلسفة التربية المدنية على أن المعايير وحدها لا تكفي لتحسين التحصيل الدراسي للتلاميذ أو لأداء المعلمين أو لرفع الجودة التعليمية، وإن كانت تعتبر محفزًا لها. وتمثل معايير التربية المدنية الأطر المتفق عليها حول ما يجب أن يتعلمه جميع طلاب الدولة، وما يجب أن يكونوا قادرين على تنفيذه في مجال الحكم والنظم السياسية. وتفيد هذه المعايير في صياغة أطر عمل للمناهج الدراسية وللكتب والبرامج التعليمية ونظم التقويم والامتحانات. وتؤكد هذه المعايير على أهمية تنمية البعد التطوعي والميل إلى خدمة المجتمع. ويشير العديد من التربويين إلى أن الديمقراطية تعتمد إلى حد كبير على مقدار اكتساب المواطنين لمهارات وكفايات ومعارف المواطنة الرشيدة، وعلى كيفية تطبيقهم لهذه المسئوليات على أرض الواقع. ويتطلب ذلك أيضاً تنمية مفاهيم الاعتماد المتبادل بين الدول، والترابط الكوكبي، ومستقبل كوكب الأرض، والدور الذي بإمكان دولتنا أن تلعبه على مسرح السياسية الدولية. ومن ثم، فإن على فلسفة التربية المدنية أن تعد أبناءنا التلاميذ للعيش بنجاح في عالم شديد التعقيد والترابط تكون فيه مصر جزءًا لا يتجزأ من العال، إن التربية المدنية ليست فقط عنصرًا مهمًا في تشكيل هويتنا كمواطنين عالميين بل إنها ضرورة لا غنى عنها لأمننا القومي وقيادتنا الإقليمية. فالتعليم هو محطم جدران الجهل والخوف والحقد، وباني جسور التفاهم والثقة والمشاركة البناءة. وإن الضمان لاستمرار مصر في تصدر قيادة وطنها العربي هو إعداد طلاب أغزر معرفة، وأكثر إدراكًا لطبيعة الكوكب الذي يعيشون فيه، وأشد اهتمامًا بالأنشطة السياسية المحلية والدولية. وتشير الممارسات السياسية الراهنة إلى تدهور مستوى معارف ومهارات أبنائنا الشباب. ومن ثم، فإن هناك حاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة هيكلة مقررات التاريخ والتربية الوطنية في مدارسنا. إن تحقيق الاستفادة القصوى من شبابنا الواعد يتطلب التعاون الكامل بين مدارسنا وبين المجتمع بكافة طوائفه. إن على مؤسساتنا المدنية والتربوية أن تتعاضد سويًا لتوفير فرص حقيقية ثرية للشباب، لكي يتعلموا ويمارسوا التربية المدنية في ظل مجتمع ديمقراطي ولن يتحقق ذلك إلا على يد معلمين شديدي التميز يستطيعون تقويم المناهج الدراسية الراهنة، وينجحون في تطويرها بحيث تلبي ما وضعت لأجله من أهداف. إن على مدارسنا أن توفر خبرات للتعلم تتيح للتلاميذ فهمًا عميقًا لأدوارهم العظيمة في بناء المجتمع الحر وفي تأسيس الوطن الديمقراطي. ويتطلب النجاح في تحقيق ذلك غرس شعور قوي لا يتزعزع داخل كل تلميذ بأهمية دوره في بناء الأمة المصرية الحرة، وبأهمية المسار الديمقراطي في انتشال هذه الأمة من الهوة السحيقة التي سقطت فيها، وباختصار فإن على مدارسنا أن تغرس بذور الأمل في مستقبل واعد أكثر إشراقًا في نفوس أبنائنا، وأن تدريهم على مجابهة الصعاب والإصرار على النجاح.