المشهد بات مكررًا.. ويبعث على الخوف على المستقبل.. والملل من كثرة تكرار هذه المشاهد الصادمة.. بات الهاجس الذي يقلق ويخيف. مواكب الشهداء تتوالى وهي تشيعهم إلى "فراديس" الملكوت الأعلى.. ومواكب المصابين تترى في طريقها إلى المشافي ومراكز التأهيل وقد خلفت إصابتهم الكثير من العلامات الشاهدة على حجم العنف الذي بات سمة أو بصمة من بصمات التحول الكبير في الشخصية المصرية. " بحسبة بسيطة وجدت أن من سقطوا شهداءً ومصابين خلال النيف والعشرين شهرًا المنصرمة أعلى بكثير ممن افتقدناهم شهداء في حرب التحرير عام 1973م ". ترى ما الذي حدث..؟ سؤال بسيط الكلمات، ساذج في الطرح.. لكنه معقد في الجواب.. أنا لن أكون أول من قال بأن المصريين تغيروا، ولست آخرهم.. لكنّ كثيرين قبلي تكلموا عن المصريين الجدد، إلا أنهم لم يقولوا كل الذي لديهم، ولم يرصدوا تلك التحولات التي شكلت شخصية المصري الجديد.. لا أبالغ إن قلت إن الخامس والعشرين من يناير 2011، حمل الكثير من التحولات التي صادفت شخصية المصريين على المستوى العام والخاص، والإنساني أيضًا. أنا على المستوى الشخصي.. أفتقد كثيرًا "ذاك" المصري البسيط، المتسامح، الصابر، المتوكل على الله دائمًا.. وأدرك تمامًا الآثار السلبية التي طغت على ملامح هذه الشخصية خلال السنوات الثلاثين الأخيرة بالذات لأنها شكلت وإلى حد كبير مجمل ما أصاب شخصية المصري من "تلف" و"تشويه" أشبه بعمليات التحويل الجراحية التي نسمع عنها ولا نصدقها. سوف أحيلكم إلى مثل بسيط.. وهو أننا لو تخيلنا هذا المصري مثل قطعة من الصلصال في يد فنان ماهر.. وعلى فكرة لم يكن هذا الفنان النظام ماهرًا بالمرة.. هذا الفنان فكر في أن يصنع من قطعة الصلصال شخصًا اشتراكيًا، ثم عاد وعدل عن ذلك، ليحول الصلصال إلى شخص رأسمالي.. ثم عاد وللمرة الثالثة ليجعل من قطعة الصلصال شخصًا ثالثًا.. جنسًا ثالثًا لا هو اشتراكي ولا هو رأسمالي.. وكان بين بين.. وحدث أن تشوهت قطعة الصلصال.. حيث أصابها الجفاف.. فتشققت حروفها، وتشوهت ملامحها.. وغدت أقرب إلى المسخ منها إلى شخص سوي.. هذا ما فعلته الأيام والأنظمة المتعاقبة على الشخصية المصرية.. في المرحلة الأولى "الاشتراكية" كان النظام والحكومة هي كل شيء في حياة المصري.. "بابا الذي يؤكل وماما التي تربي وتعلم.. حتى الحانوتي الذي يغسل ويدفن.. على طريقة "أنت ح تعرف مصلحة نفسك أكثر مننا"..!! ثم عرجنا على النظام الرأسمالي والذي افتتح بالانفتاح السداح مداح.. والذي حول بعض المصريين إلى قطط سمان، وأغنياء حرب.. وأعاد مصر إلى مجتمع ال 5 % ويخدم عليهم الباقي.. ومن ثم أنتج مجتمعًا جشعًا أنشبت الرأسمالية البشعة أنيابها في جسده. ثم أتت المرحلة الثالثة والذي تحول فيها المصري إلى مسخ، متواكل متبلد الحس الوطني، فاقد للشرعية الإنسانية، دون طموح.. تحت شعار "اللهم دمها نعمة واحفظها من الزوال". حتى حدث الزلزال.. واستيقظت مصر.. ولأول مرة.. موحدة.. قوية.. بعقل واحد، ولسان واحد، ويد واحدة.. وأزاحت نظامًا "غبيًا" مستبدًا.. وقد حول قطيعًا كبيرًا من أبناء الشعب إلى امتهان البحث عن لقمة العيش في صناديق القمامة.. بدلًا من البحث عن لقمة العيش في خطط التنمية، والمدن الصناعية الجديدة، والمزارع التي تلون صحراء مصر إلى اللونين الأخضر والأسود.. هذا هو حالنا.. بعد نيف وعشرين شهرًا.. بل بعد ستين عامًا من ثورة يوليو التي ساندها الشعب آنذاك أملًا في حياة جديدة وهي الثورة التي وعدت بالقضاء على ثلاثة أعداء. وإقامة ومواجهة ثلاثة تحديات، وقد بشرت بالعدالة الاجتماعية، والحرية، والكرامة الإنسانية.. إلا أن ما حدث هو أن تحولت مصر إلى سجن كبير.. الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود.. ولأن أرض الله واسعة فقد هاجرت الكفاءات، والعقول.. ووجدت الأنظمة أن من بقي منهم تحول إلى كائن، خانع، خاضع، مسكين لا حول له ولا قوة.. وقد تحكم فيه وفي رزقه وحياته ومستقبله.. قطيع من الأغبياء والفاسدين والمنتفعين والأفاقين والمنافقين.. والجهلة.. ووجد الجهل والفقر والمرض ضالته في هذا السجن الكبير.. الذي اشتد عود حراسه ولم يجدوا لهم عملًا إلا التسلية بأبناء هذا الشعب.. المسكين.. وبات المصريون بحاجة إلى طبيب نفسي، وإلى عالم اجتماع.. ليداووا هذه التشوهات التي حدثت في نفس وقلب وعقل ووجدان هذا الإنسان الذي كان بسيطًا.. متسامحًا.. يعشق البناء والحياة والمستقبل.. وقد بدت مؤشرات التراجع في منظومة القيم الاجتماعية واضحة ومعلومة للجميع وإنبات قيم سلبية بديلة مثل التواكلية والمظهرية والفهلوة والاعتماد على الحظ والوساطة والسمسرة والتي تفوقت على قيم التفوق والكد والإتقان والوفاء بالوعد واحترام الآخر والتعليم والتربية والارتقاء بالحس الإنساني النبيل. ومن ثم تمت صياغة عبارات مثل: أنّ المصريين الجدد هم أولئك النفر من الناس الذين أصبحوا يتبنون أفكارًا ورؤى سنوات الانكسار والانحسار، ومن ثم أصبحوا عنوانًا لمجمل التحولات التي شهدتها مصر والشخصية المصرية في السنوات الأخيرة، وملخص هذا كله هو أن ركائز منظومة القيم التي شكلت إدراك الجماعة الإنسانية في مصر، جرى انتهاكها أو تفريغها من مضمونها المصري الأصيل.