أحمد حمدي: لدي الثقة في الوصول لنهائي الكونفدرالية.. ودريمز منظم    مؤتمر كولر - هل يعود الشناوي في النهائي أمام الترجي    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    قبل عودة البنوك غدا.. سعر الدولار الأمريكي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 27 إبريل 2024    مصر ستحصل على 2.4 مليار دولار في غضون 5 أشهر.. تفاصيل    صندوق النقد: مصر ستتلقى نحو 14 مليار دولار من صفقة رأس الحكمة بنهاية أبريل    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    بالصور.. رفع المخلفات والقمامة بعدد من شوارع العمرانية    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    جماعة الحوثي تعلن إسقاط مسيرة أمريكية في أجواء محافظة صعدة    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل    شهداء وجرحى جراء قصف طائرات الاحتلال منزل في مخيم النصيرات وسط غزة    الرجوب يطالب مصر بالدعوة لإجراء حوار فلسطيني بين حماس وفتح    قطر تصدر تنبيها عاجلا للقطريين الراغبين في دخول مصر    "أسوشيتدبرس": أبرز الجامعات الأمريكية المشاركة في الاحتجاجات ضد حرب غزة    بسبب سوء الأحوال الجوية.. قرار هام حول موعد الامتحانات بجامعة جنوب الوادي    ننشر المؤشرات الأولية لانتخابات التجديد النصفي بنقابة أطباء الأسنان في القليوبية    تصرف غير رياضي، شاهد ماذا فعل عمرو السولية مع زملائه بعد استبداله أمام مازيمبي    فاز ذهابًا وإيابًا.. الترجي يكرر تفوقه على صنداونز ويضرب موعدًا مع الأهلي في النهائي (فيديو)    موعد مباراة الأهلي المقبلة بعد التأهل لنهائي دوري أبطال أفريقيا    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    عبد القادر: تأهلنا للنهائي بجدارة.. واعتدنا على أجواء اللعب في رادس    أرقام مميزة للأهلي بعد تأهله لنهائي دوري أبطال أفريقيا    السيطرة على حريق في منزل بمدينة فرشوط في قنا    العراق.. تفاصيل مقتل تيك توكر شهيرة بالرصاص أمام منزلها    تعرض للشطر نصفين بالطول.. والدة ضحية سرقة الأعضاء بشبرا تفجر مفاجأة لأول مرة    تعطيل الدراسة وغلق طرق.. خسائر الطقس السيئ في قنا خلال 24 ساعة    الأمن العام يكشف غموض 14 واقعة سرقة ويضبط 10 متهمين بالمحافظات    برازيلية تتلقى صدمة بعد شرائها هاتفي آيفون مصنوعين من الطين.. أغرب قصة احتيال    %90 من الإنترنت بالعالم.. مفاجأة عن «الدارك ويب» المتهم في قضية طفل شبرا الخيمة (فيديو)    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    دينا فؤاد: تكريم الرئيس عن دوري بمسلسل "الاختيار" أجمل لحظات حياتي وأرفض المشاهد "الفجة" لأني سيدة مصرية وعندي بنت    في سهرة كاملة العدد.. الأوبرا تحتفل بعيد تحرير سيناء (صور)    علي الطيب: مسلسل مليحة أحدث حالة من القلق في إسرائيل    طريقة عمل كريب فاهيتا فراخ زي المحلات.. خطوات بسيطة ومذاق شهي    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    تعرف علي موعد صرف راتب حساب المواطن لشهر مايو 1445    بلاغ يصل للشرطة الأمريكية بوجود كائن فضائي بأحد المنازل    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    ناهد السباعي تحتفل بعيد ميلاد والدتها الراحلة    سميرة أحمد: رشحوني قبل سهير البابلي لمدرسة المشاغبين    أخبار الفن| تامر حسني يعتذر ل بدرية طلبة.. انهيار ميار الببلاوي    البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة "باتريوت" متاحة الآن لتسليمها إلى أوكرانيا    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    أسعار النفط ترتفع عند التسوية وتنهي سلسلة خسائر استمرت أسبوعين    الصحة تكشف خطة تطوير مستشفيات محافظة البحيرة    فصل طالبة مريضة بالسرطان| أول تعليق من جامعة حلوان.. القصة الكاملة    العمل في أسبوع.. حملات لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية.. والإعداد لإطلاق الاستراتيجية الوطنية للتشغيل    الكشف الطبي بالمجان على 1058 مواطنا في دمياط    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجتمع الصايع.. ودولة الصياعة
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 07 - 2012

تعني الثورة، فيما تعني، إعادة تسمية الأشياء، ليس لمجرد الفرح برموز جديدة عوض تلك المستهلكة، بل لبناء واقع مكشوف يمكن الاتفاق عليه، تعني الاعتراف بما نحن فعلا، قبل السؤال عما نريد أن نكون. لكن التسرع في تسمية الأشياء ووضع علامات الانتصار عليها كأن نقول «ثوار» و»فلول»، قد يخفي التركيب المعقد للمجتمع الذي نواجهه، والذي عليه أيضا أن يواجه نفسه: من هم الثوار؟ ومن هم الفلول؟ وما هي السلطة التي قمنا لنتخلص منها، لنكتشف أننا كنا نجذب خيطها بالطرف الآخر؟ لا أشعر بالإحباط الا من المحبطين أنفسهم، مازال المسار بعد طويلا وشاقا.. نحن نكتشف أنفسنا وهذه عتبة أولي، عتبة دشنها الدم الغالي والطموح النبيل الذي لا يمكن الاستهانة به أبدا، ومع هذا فاحترامه ليس في تقديسه ولا في تقديس أي قوة شاركت في صناعة وضعنا الجديد، بل استكمال التضحية بتضحية أخري، تضحية الكشف عن العورات بغير نية الفضيحة، ولا حتي الحساب، بل المعرفة الموضوعية التي قد تبدو أحيانا أكثر إيلاما من مواجهة الجسد للجسد.
مثلما تكون مقاسات البنطلونات الجاهزة واحدة في كل مكان وفق نظام أو اثنين للقياس، نعيش كمجتمعات في عالم معياري لديه شروط واحدة للجودة، وبالتالي شروط واحدة للإنتاج والمعرفة وحتي للقيم الجمالية، أو علي الأقل أفق متصل لخلق هذه الشروط.
لا يعني هذا أنه لا توجد اختلافات مطلقا بين مجتمع وآخر، بل يعني أن هذه الاختلافات لابد أن تصب في النهاية في الماكينة القياسية ذاتها، في عالم يزداد اقترابا بعضه من بعض.
يمكن مثلا دعم وتكريس ثقافة دينية أو عقيدة محلية في مجتمع ما، مثلما يفعل الأمريكان في الدفاع عن أتباع الدلاي لاما، أو إبداء الاحترام المصطنع للإسلام التقليدي والأصولي، ولكن بشرط التوقيع علي اتفاقيات حماية الملكية الفكرية والجات وما شابهها، واعتبار النظام الرأسمالي حقيقة أعلي من الله نفسه.
مثال:
يمكنك بالطبع أن تفتح محل ترزي »شُكُك« علي ناصية حارة، ولكنك ستكون قد وضعت نفسك في الحال علي عتبة في هذا السلم القياسي، بناء عليه تتحدد مكانتك من العالم، كما تتحدد مكانة دكانة »ترزي«، من »إيف سان لوران»، أو بوتيك «نرجس» من مجموعة «دبنهامز«. وهذا تقريبا موقع المجتمع المصري من المجتمعات «القياسية». بل هكذا كان، وهو اليوم أقل بكثير.
يعني هذا أنك لا تستطيع في هذا العالم أن تعيش وفق صيغة محلية، ولا أن تقول: «نحن وهم»، إلا بشكل مجازي لإرضاء ذات جريحة، لها موقع متدن في السلم، لأن هذا يوفر لها الشعور الزائف بالندية، بينما هي منخرطة تماما داخل التركيبة الكبري (هذا حال الإخوان مثلا).
وهناك حل آخر ، وهو أن تكرس أكثر طريقة »الترزي« المحلية، باعتبارها شكلا يكسر رتابة وملل الإنتاج القياسي. وبالتالي تسوق نفسك لسكان أعلي درجة في السلم علي أنك «شيء مختلف»،»حاجة اكزوتيك»، ولا يحدث هذا في بيع طاقية شبيكة أو سبحة أو مبخرة تمثل الأصالة من خان الخليلي فقط، بل يحدث أيضا علي مستوي الأفكار. فسكان الدور الأعلي يحتاجون من اجل كسر الملل، وتشتيت الانتباه، إلي مخدة «هاند ميد»، كما يحتاجون بن لادن والإخوان المسلمين والريس متقال. إنهم بالنسبة إليهم متحف مثير للتأسي والشجن، وهو في نفس الوقت دليل علي تجاوزهم لهذه المراحل من الطفولة الإنسانية، أعني أنه إشارة طبقية حاسمة ولذلك ليس لديهم مانع في الإنفاق ببذخ من أجل إبقائهم.
(إن جزءا هاما من الاقتصاد الآن خاصة في دول العالم النامية معتمد علي إعادة إنتاج تراثها من أجل البيع والفرجة، وليس لأنه يعبر عن حاجاتهم الحقيقية المعاصرة).
من هذا الباب تأتي تهنئة الولايات المتحدة أخيرا بعد انتخابات المغرب، واستعدادها للتعاون مع الإخوان المسلمين: أي كمسخة حضارية. وهو ما يعني أن يدخلوا العالم القياسي لكن من الباب الخلفي كبائعين متجولين للحجاب وكتب الأدعية وتغيير العملة، وعطور الزيت الرخيصة، أو كفرجة خفيفة الدم لحيوان حضاري في قفص.

حيرة

هناك بالطبع مجتمعات حائرة، وهي حائرة لأنها في غيبوبة مَن صُفع من جهات متعددة، ففي رأسه طنين، وهو يسأل دائما:من أنا؟ بالرغم من أن هذا السؤال لا صلة له بالصفعات التي تلقاها، بل هي تتصل بموقعه الذي هيأ صدغه لكل عابر. وهو ما يسمونه خطأ بأزمة »الهوية«.
والهوية رغم أنها بمعناها المستخدم الآن في النطاق العربي والإسلامي هي تعبير غربي حديث نسبيا أصلا، إلا أن العرب والمسلمين لا يمانعون قط في تلقفها كنعمة، وكسؤال خاطئ، يساعدهم علي استنتاج ما أرادوا أن يستنتجوه من قبل.. وهو أنهم ليسوا »متخلفين« بل «مختلفون»، بغض النظر عن مضمون هذا الاختلاف الذي يتطلب سنوات طويلة من البحث في جميع الأفكار والعقائد الإنسانية لمقارنتها بهذا «المختلف» وبيان نوع اختلافه، ومدي ايجابية هذا الاختلاف. ذلك لأن الاختلاف لا يضمن بذاته أنك علي حق ولا يقول لك ماذا عليك أن تفعل باختلافك، ولكنه يتجاوب مع حاجة نفسية في التميّز الأعمي، تمرّ به كل طفولة.
لا تعود الحيرة الحقيقية لهذه المجتمعات إلي مشكلة الهوية رغم أنها تصرخ بعنف في آذاننا «لابد أن ندافع عن هويتنا.. ان هويتنا تتعرض لهجمة شرسة»، وذلك لعدة أسباب:
أولا: أن المجتمعات التي تروج فيها هذه الدعوات وتلقي إقبالا شعبيا بالذات، هي مجتمعات فشلت فشلا ذريعا في أن تكون »قياسية« قادرة علي إنتاج أدوات وسلع ومعارف قابلة للرواج، تضعها علي درجة المبادلة الندية.
يتصور أبناء هذه المجتمعات بقشور المعارف التي حصلوها في مدارس وجامعات منحطة ومتخلفة إلي أبعد حد، أن بمستطاعهم الحكم علي الأشياء، لكنهم لا يستطيعون إنتاج شيء إلا الأحكام العامة المبتذلة. لا قدرة علي البحث أو التحليل ولا حتي علي القراءة نفسها، ناهيك عن القراءة المدققة.
وقسم من النخبة الثقافية والدينية والسياسية تواطأ علي هذه المجتمعات ليقول لها: أنتم أصحاب حضارة.. أنتم كنتم وكنتم، وما عليكم إلا الرجوع إلي الخلف حتي تعيدوا مجدكم. وما إن يعودوا حتي يصيروا مُسخة حقا. يفقدون تماما أدوات القياس لعصرهم، ولتطور المعارف والعلاقات الإنسانية التي تراكمت فيه. لكن هذا الاختزال للمشكلة يفيدهم كثيرا لأنه لا يبرر لهم جهلهم فقط، بل يجعل من الجهل معرفة قائمة بذاتها، بمجرد تغيير اسمه إلي: «الأصالة.»
فما عليك إلا أن تقرأ الأربعين النووية، أو تحضر خطبة مع الإخوة في «عصر الإسلام» حتي يكون بإمكانك أن تدير جماعة صغيرة تصبح أميرا عليها. ويمكنك أن تخرج في مظاهرة لتشتم أمريكا وإسرائيل، وتطلب فتح باب الجهاد مع أنه ليس للجهاد باب، وهو ليس عرضة للاكتتاب العام كما أيام الخلافة الأولي، ويمكنك أن تدافع عن مسلمي كوسوفو، مع الجهل التام بأنهم ربما يعيشون وفق قيم غربية، أو تأييدا لمجاهدي أفغانستان الذين مزق بعضهم بعضا بمجرد الوصول إلي الحكم وأهم ما فعلوه كان تحطيم الأصنام كأنهم في فيلم تسجيلي عن الجاهلية الأولي.

ثانيا: أن الهوية فكرة كالسراب، ورغم أن السؤال عنها هدفه إيجاد خيط جامع، إلا أنها لا تلبث أن تتحول إلي »شلة« صوف منداة، لا تعرف من أين تبدأ.
الهوية الإسلامية، هل تعني السنيّة فقط؟ والسنية هل يمثلها السلفيون أو الإخوان أم الصوفية، أم المسلم التقليدي غير المتحزب؟ هي إسلام عمر وأبي بكر، أم إسلام الأمين والمأمون؟ أم إسلام الملك فاروق الذي أراد الإخوان الضحك عليه وتنصيبه «خليفة للمسلمين»؟.
وهل هوية مصر إسلامية أم مسيحية أم فرعونية، عربية أم افريقية أم بحر متوسطية؟
الهوية كفكرة عن الماضي حفرة، والباحث عنها يتعثر فيها فيبدو كمن يتحرك، وهو لم ولن يتحرك، انه مثل »عم أيوب« في مسرحية «الجوكر» يمشي داخل «الجزمة الأول..، وإلي الأبد
ثالثا: تجعل الهوية مشكلة المجتمع وكأنها مشكلة أخلاقية، وأسوأ تصور زائف عن مجتمع هو أن تجعله في صورة شخص يجلس أمام مرآة ويسأل من أنا، لأن كلمة مجتمع هي مجرد صيغة لأشكال إنسانية بالغة التنوع متضاربة المصالح أحيانا. وهو ما يجعل »الهوية« شعارا فضفاضا، ملاءة تختبئ تحتها الاختلافات الفعلية، ناهيك عن أنها تمنعك من إبصار وحلّ هذا التضارب.
رابعا: يتذرع أنصار »الهوية هي الحل« بمواجهة لهويات نجحت في تعبئة ذاتها، ناسين أن الهوية كانت وسيلة دعاية وتعبئة فقط، تتجاوزها المجتمعات الرأسمالية حالما تتضارب مع هذا المنطق أي المنطق الرأسمالي. وان منطق الدولة من أجل تعبئة كل القوي البشرية في المجتمع، وضع فكرة الهوية بين إصبعين، إصبع التلاعب السياسي بها، وإصبع تحجّمها في صورة ثقافة شعبية اختيارية، لمجتمع يضع هذه الثقافة خارج أبواب البرلمان، والشركة والجامعة. وليس لديه مانع أن تكون احتفالا فقط بالمزازيك في الشوارع.
ليس لذوي فكرة «الهوية هي الحل»، وهذا هو المنطلق الفعلي الخفي لفكرة »الإسلام هو الحل«، أن تفعل في مجتمع غائب عن الواقع إلا أن تزيده غيبوبة، معطلة كل وسائله في البحث عن أسبابها. إنها عمي وليست بصيرة.

المجتمع الصايع

تحت بيتنا مباشرة كان دكان لتصليح الأحذية يملكه خواجا، ثم حلت مكانه ورشة لصناعة مكملات الأقباس الكهربائية، انقسمت الورشة لخلاف بين أصحابها الثلاثة، ثم أغلقت وفتح مكانها محل نجار، لكنه كان فاشلا تراكمت عليه الديون، فاشتراه نجار آخر لا يقل عنه رداءة. هذه القصة عادية جدا، يفشل الخياط فيتحول الي بوتيك، يحتفظ علي طاولة صغيرة بكتالوجات أزياء قديمة، ويفشل البوتيك فيقرر أن يحوله إلي سنتر للكومبيوتر، وتتكاثر ال»سنترات« فيحوله إلي مكتب اتصالات، ثم إلي محل لبيع الموبايلات.
هذه مسألة لا تتصل بالتطور، بل بالفشل في ملاحقته، وهي أخطر من ذلك تعني انعدام وجود أي خبرة مهنية متراكمة، ومعها اقتصاد «انت مسئول عن نفسك»، الذي يعني ببساطة اقتصادا فرديا اجتهاديا، تفوته الخبرة المعقدة والمركبة لاقتصاد عالمي منظم ومخطط، يحتل هو موقعا فيه كموقع الذبابة من خيط عنكبوت هائل لا يري أوله ولا آخره، بل يبتعله ويرمي عظامه كنفاية.
لا يهتم هذا الاقتصاد العفوي الارتجالي بأي تعليم ولذلك انتشرت منذ أكثر من 20 عاما دعوة حكومية وإعلامية، سرعان ما أمّن عليها الناس بغباء أن علي الشاب ألا يتقيد بالشهادة.
رأي الآباء العاجزون عن تدبير مستقبل لأبنائهم، بعد أن أمضوا زهرة عمرهم في عناء تعليم بلا طائل، أقول رأوا في هذه الدعوة تخفيفا عن شعورهم بتأنيب الضمير والمسئولية المرهقة عن الفشل.
تقول الأم »يا ابني اتلحلح« و»اتلحلح« هذه تعني ضياع كل جهوده علي مدار 16 عاما من التحصيل المفترض ليقوم بتصبيع الكفتة، أو يهتف من نافذة الميكروباس »بولاق بولاق بولاق«. كأن هذه الشهادة ليست حصيلة تعليم أنفقت عليه الدولة والأسرة من أجل تنمية مهارة أو خبرة معينة، واعتبر المجتمع المصري ذلك بأريحيته المعهودة، شطارة وفهلوة. لأن «الإيد البطالة نجسة« لكن اليد التي تسرق وتنهب ليست بطالة طبعا، والله يغفر للجميع.
بنفس الطريقة المضطربة، تغير اقتصاد البلد، ليصبح في يد طغمة احتكارية لا تنتج ولكن تبيع، وتُسمسِر في البيع، محروسة بالفساد الإداري والقوة الأمنية والعسكرية وجماعات البلطجة. وهذا كان يعني:
أولا: عدم الاهتمام بتعبئة المجتمع في صيغة عقلانية منظمة من أجل إنتاج منظم، لأنه غير مطلوب أصلا.
ثانيا: مطلوب علي العكس تغييب هذا المجتمع بإشعاره أولا أن المسئولية الاقتصادية تقع علي كاهل كل فرد فيه علي حدة، وبإغراقه في صيغ جماعية ثقافية لا تهش ولا تنش وليس لها أي أثر علي احتكارات نخبته، وسلطتها المزدوجة المدعومة بالجهل. وهل هناك أهم من الجماعات الدينية في القيام بذلك.
(لاحظ أن مرشحي الإخوان، بمن فيهم مرشحهم المستقل عبد المنعم أبو الفتوح، كانوا حريصين علي طمأنة رجال الأعمال علي استمرار النهج الاقتصادي الداعم لهم، ولم يسألوا من أين أتي رجال الأعمال هؤلاء بأموالهم وعلي حساب من؟)
من المعلوم أن الإخوان حتي حينما شكلوا كتلة سياسية في مجلس الشعب، لم يقفوا أمام الخصخصة، فإسلامهم يحب الفهلوة والشطارة، ولم يدافعوا عن آلاف الأسر المشردة، بل كانوا يتذكرونهم في الانتخابات بأكياس اللحم أو الحلوي. ولم يقدموا أي مشروع بديل لإعادة هيكلة الاقتصاد بشكل واضح يؤمن للمجتمع دورا في التبادل العالمي العادل، ولأفراده صيغة كريمة في العيش، فالآخرة خير وأبقي. والله خلق الناس درجات.
ثالثا: تسفيه الأسلوب العقلاني المنظم، خاصة في الحوار اليومي والنقاش السياسي والفكري وحتي الديني، وهو ما ساهم فيه المثقفون أنفسهم، بدعوي البساطة ومضاهاة الخطاب الشعبي، و»خليك عادي«، وغلبة لغة المصاطب و»الشلت«.
وربما لم تشهد مصر قبل عهد مبارك هذا المستوي السفيه من الحوار والخطاب السياسي بالذات الذي جر معه كل الخطابات الأخري. فالانفراد الكامل والآمن بالسلطة والمال معا، جعل النخبة المصرية في غير حاجة الي أي تبرير وبالتالي ظهر الوزراء الذين يضربون بالشلاليت، والذين يحلفون برحمة أمهاتهم، وظهر رئيس الجمهورية كزعيم للبلاطجة لا يهمه حتي أن يكون كلامه مفهوما.
رابعا: تكريس الفصل المقصود بين السياسة والاقتصاد، ثم تحويل القضايا السياسية الي قضايا أخلاقية وليس إلي قضايا تتصل بصراع المصالح، وهو ما يوقع الناس في الازدواج بين ولائهم الفعلي «غير المرئي» لاقتصاد عالمي هو المحرك الأساسي للسياسات، وبين العداء السياسي للدول التي تحرك هذا الاقتصاد علي أساس اختلاف عقائدي ليس هو موضوع النزاع أصلا، ومن ثم يعيشون وفق »استعارات« سياسية لا واقع لها، فيهتف الإخواني ضد إسرائيل «خيبر خيبر يا يهود.. الإسلام راح يعود« في مسخرة تاريخية تصلح أن تكون عبرة.
حين تصبح مشكلة السياسة وكأنها مشكلة أخلاقية، يسأل كل واحد نفسه عنها، كأنه هو الدولة »احنا مشكلتنا اننا..« وكأن الدولة ليست كيانا مركبا معقدا يحتاج لآلاف الخبرات التي تطرح هذه السؤال وتجيب عنه، لا أن يتحمله ويجيب عنه شخص يجلس علي مقهي ويسحب نفس السيجارة ويقول لك «تعرف لو إحنا..».. وهو لا يعرف إلي من بالضبط تشير كلمة «إحنا» هذه. ولا كم يمكن أن يؤلف عنها من كتب!
خامسا: أكثر الظواهر لفتا للانتباه هي اللغة نفسها.
»فحت.. فشيخ« وأخواتهما، ليست مجرد مفردات جديدة، بل تعبير عن كلمات لا يهم أن تؤدي معني محددا، وأحيانا يكون المعني الأصلي مستوفي في كلمة أخري معروفة ويمكن استخدامها، لكن استخدام كلمة مجهولة لتقول نفس معناها لا يعني رغبة في التواصل والإفهام، بل رغبة شلة أوجماعة في شيء يميزها، دون أن يكون لازما لها في الوقت نفسه. ولا مضيفا لخبرة مختلفة، ولا مراكما علي لغة تتطور، بل تمزق خيوط معانيها ومفرداتها كمن يمزق عفش بيته، ثم ينام علي الأرض مع برودة الصمت. لأنه عاجز عن التعبير عن أي شيء خاص فعلا.
أهم ما كنت تتعلمه حين تنضم إلي جماعة دينية هو أن تلوي حنكك ب«إن شاء الله الأخ فلان، ويا أخي إني أحبك في الله، وسبحان الله وما شاء الله»..إلخ. الاختلاف هو الأهم، هو ما يرسم الصيغة لجماعة وهمية تتوحد في لغة كلغة أهل الحرف والصنايع، هي بطاقة الانتساب. مثلها تماما مثل «اخبارك يا مان..»، ليتخلق مجتمع يتواجد علي أرض كلمات توحده وهميا، لكنها تبقي علي حقيقة اختلافه أسيرة الغموض. ولهذا يشعر الناس فجأة باختناق غير مفهوم. ويمرون بلحظات اكتئاب غامضة، لأنهم يشعرون ضمنيا بأنهم صنعوا قناعا لشخصياتهم غير قادرين في الوقت نفسه علي انتزاعه إلا بانتزاع وجوههم نفسها.. لقد صاروا مسوخا.
»الله« يحل المشكلة

يتدخل »الله« هنا علي لسان الأصولي علي هيئة معجزة، فمن يعرف الله تمام المعرفة؟ لا أنا ولا أنت، لكن يمكننا الحديث باسمه دائما وبجرأة تفوق جرأة الأنبياء.. الله كلمة مخيفة لأنها واسعة وبلا حدود، من ثم يمكن لكل منا أن يرفعها في وجه الآخر حين يريد له أن يصمت، وترفعها الجماعة المقهورة في وجه السلطة كأسلوب ناجح في المنازعة السياسية، كلمة تقول كل شيء، والكلمات التي تقول كل شيء لا تقول شيئا علي الاطلاق إذا أصررت علي أن تقدمها كشيء معلوم واحد في مخيلة الكل، خاصة اذا ظللت حريصا وبمكر علي عموميتها، لذلك تخرج دائما بزعيق وصراخ أو بنهنهة وبكاء مسعور. لتلقي في روعك بعقدة ذنب مبهمة من شيء لا تفهمه. ولكنك تستجيب تلقائيا لنداء الغريزة في الخوف من المجهول.
في كل حضارة متطورة حتي لو كانت دينية، كانت هناك محاولة لاشتقاق العالم والانسان وعلاقاته من فكرة »الله«، ولم يكن ما سمي بعلوم الدين والتفاسير وعلم الأصول »التوحيد«، و»أصول الفقه« وغيرها والاجتهاد الدائم فيها، الا مضاهاة لعلم عام يربط الأصل بموضوعه، الفكرة بالحياة التجريبية، بغض النظر عن دقة البحث في الاثنين. لكن هذا أنتج قدرا هائلا من المؤلفات والصيغ الثقافية.
لم تفعل الحركات الأصولية ذلك، ولم تكتف فقط بهذا الميراث بل اختزلته الي رؤوس أقلام كإرشادات المدارس، مضيّعة روحه الأصلية.
هكذا صار هناك انفصال كبير.. «الله» في ناحية.. والحياة المتطورة في أخري، ولا يستطيع أحدهما أن يتصل بالآخر, وهو ما يربي عقدة ذنب يلعب عليها الأصولي فيصرخ في أذنك «عد الي الله» فتبكي. لأن «الله» - علي طريقته - لا يفسر لك لماذا أنت مضطر إلي نفاق رؤسائك، ولا لماذا لا تجد عملا، مع انك حاصل علي شهادة، ولا لماذا لم تتمكن من اختراع ساعة تؤذن عند مواقيت الصلاة، بينما صنعها أبناء بوذا وكونفوشيوس، وإذا كان هذا يمكن تشخيصه عند أطباء الدين بأن لديك ضعف إيمان، فهل الكافر مؤمن أكثر منك؟ وإذا كان إيمان الكافر يجعله أكثر التزاما بأفكاره ومبادئه فما الفرق بينه وبين «الإيمان الصحيح» وما قيمته؟ «الجنة»؟.. نعم، ولكن الجنة ليست مشروعا سياسيا، بل طموح يمكن أن يحققه كل إنسان في عزلته. هنا يصرخ فيك مجددا: إنت ح تكفر واللا إيه؟!
لا يحل النداء باسم الله المشكلة، بل يتحول الهتاف باسمه الي سنجة أو سكين تشبه سكين الصايع التي يتباهي بها مهددا أبناء «الجيهة». ويا لها من سنجة!


المجتمع الصايع مجددا
من هو الصايع، لا أقصد الدلالة القاموسية، بل ما يفهمه الناس منها؟ لأنها لو قيلت في فيلم لحسين رياض في وصف ابن عاق مثلا فستعني النبذ والتشرد والاحتقار والخروج الكامل من الهيئة الاجتماعية، لكننا كنا نرددها منذ الثمانينيات »يا صايع« بعيون تلمع بالاعجاب، أما في أفلام مخرجي السبعينيات ومن تلاهم من هوامش اليسار ودوائر الثقافة النخبوية، فصنعوا منه أيقونة. كانوا حمقي بكل تأكيد، بل برجوازيين أيضا يساومون السلطة علي إدراكهم لحقيقة البسطاء، ويشعرون بالنبل نفسه الذي يضفونه علي شخصياتهم، وهو ما يدعم برجوازيتهم بدرع واقية قوية. كان الصايع في الحقيقة بائسا ومجرما ولايحتمل البطولة التي تلقي عليه مسئولية أكبر من حدود معرفته المضطربة، كان كتلة من المتناقضات التي تنتهي عادة نهاية مأساوية أو اجرامية. وأحيانا ينزوي عند كبر السن ضعيفا منسيا.
لا نبل أبدا بلا معرفة، ولذلك كان نبل الصايع، اذا كان نبيلا، نابعا من تبنيه مبادئ اجتماعية ملتبسة يخونها المجتمع نفسه، وهي نفسها كمبادئ أخلاقية تبدو وكأنها مطلقة لا تفسر له لماذا تتم خيانتها إلا إذا كان العالم، مقسوما بين ملائكة وشياطين، ولا تقول له أنها هي نفسها «أي المبادئ» مشكلة.
ولذلك لا يطور «صايع» الأفلام معرفة جديدة، لا به ولا بالمجتمع، انه مثل أحمد عدوية، يظل مشغولا بالناس اللي فوق واللي تحت، يمدح أم عبده، ويهاجم ابن البرجوازي دون أن يري الأرض الواحدة التي يقفان عليها، لذا يأتي صوته حتي في عز السعادة مجروحا، كما لو بأثر ضربة مطواة، أو بركلة إهانة قديمة يصعب نسيانها.
الصياعة والسلطة والمعرفة الشائعة البدائية قدرٌ دائر وأقنعة تتبدل علي أبناء مجتمع صايع، فشل في تحويل خبرته الي معرفة تطور بدورها هذه الخبرة، وفشل في إيجاد لغة للحوار بين أبنائه، ناهيك عن الحوار مع الآخر (وكم هي كلمة كم يتم ابتذالها!)، وفشل في إيجاد لغة لفهم قانون الأشياء، فشل في الانتماء لمهنة أو لصيغة في الحياة، فهو صايع، مضطرب الولاء، يصرخ في المظاهرة أمام الرصاص، ويبع صوته بكيس أرز أمام لجنة الانتخاب.
الدولة الصايعة

أيام عبد الناصر كانت الدولة (الممثلة فيه طبعا) تتعامل معاملة البلطجي: ح نرمي إسرائيل في البحر، تماما كما يكشر الصايع عن أنيابه: ح أعورك.
ولم يكن هذا يمنع من تحولها إلي دولة «..هوه اللي ضربني»، كما أمكنها بسهولة أن تصبح دولة «الصلح خير». ومع عهد مبارك حيث انكشف تماما اقتصاد البلاد والعباد
أقر الصايع داخل النظام العالمي بأنه مجرد صايع، يمكن استئجاره لتخليص خناقة هنا، أو افتعال أخري هناك. لعبت الدولة كعميل وهو تعبير مهذب، لأنه عميل صايع بلا عقل، يحصل فقط علي يوميته التي يوزعها علي عصابة الأربعين. لم يجد مبارك في ذلك أي غضاضة، لا هو ولا أبناء النخبة السياسية والاقتصادية التي رافقت تاريخه، ولهذا كان من مصلحتهم إفشال أي روح عقلانية متمثلة في قانون أو نظام، كانوا يؤكدون بالفعل والممارسة ويسربون إحساسا بالقوة البدائية لحياة الصيع، ولفنون الصيع، التي هي فنون الفرح والحزن الصاخب لشخص عائد من خناقة، للداعية المخنث، للمطاعم المقامة علي نواصي الشوارع حيث ترقد بجوارهم صناديق القمامة، وسياراتهم أيضا، للراقصات السمينات الأقرب الي المومسات، للثقل البدائي للجنس باعتباره مادة توزن.
دولة الصيع، التي هي دولة الوكيل المعتمد لتصدير المخبرين، وصناع الدسائس، يدافع عنها العالم الرأسمالي كله الآن، وأتباعه في الدول العربية، لكي تستمر مع قليل من الأصباغ العقائدية: دولة صيع لمجتمع صايع.
1
أثناء مراجعتي لهذه الخواطر قرأت ورقة بحثية للدكتور جورج قرم بعنوان "في نقد الاقتصاد الريعي العربي" صادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية ورأيت أن أثبت فقرة هامة منها لأنها تكشف عن طبيعة النشاط الاقتصادي العربي وصلته بطبيعة الدولة وكثير من مشكلاتها الاجتماعية والثقافية، كما أنها تلفت الانتباه إلي علاقة هذا الاقتصاد بالمنظومة الرأسمالية العالمية خاصة في طورها "النيو ليبرالي". وأهمية ذلك برأيي تعود إلي أن جزءا من فشل أو تشتت الجهود الثورية يعود إلي تركيز الهجوم علي رموز السلطة السياسية مع عدم الالتفات إلي منطق النظام الذي أفرز هذه الرموز وبإمكانه إفراز غيرها ما دامت البنية واحدة. كما أنها ربما لم تتنبه إلي أن (أي الثورة) لم تكن موجهة (في لاوعيها.. كما في نتائجها) إلي مؤسسة الدولة علي مستوي محلي فحسب، بل إن خطورتها كان يمكن أن تصطدم بشكل غير مباشر بالمنظومة الرأسمالية العالمية ذاتها، لو أنها نجحت ودفعت بالتالي شعوبا أخري، وحركات معارضة قوية في أوربا بالذات إلي الثقة بإمكان التأثير علي النظام بشكل فعال. وهو ما يشكل تهديدا لطغمة الرأسمالية المعولمة وأذيالها في الشرق الأوسط. ولذلك لم يكن غريبا حجم التآمر العربي العالمي علي هذه الثورات بكل الوسائل، وتمكين الإسلاميين بالذات لإشاعة الخوف لدي شعوب الدول المتقدمة، والشك في تعبير هذه الثورات عن روح إنسانية حقيقية (لا طائفية)، وعن الصراع الجاد مع الميزان المختل للعدالة ومن ثم شكلت الهجمة الأصولية المتسرعة لاقتناص الثورة (بوعي أو بدون وعي) نوعا من الطابور الخامس لإحباط التمرد في أماكن أخري، وإسباغ روح محلية وطائفية عليه، وسحبه إلي دائرة صراع داخلي علي السلطة.
وهذا ما كتبه جورج قرم:
والحقيقة أن الاقتصاد المبني علي الريع وتوزيعه علي أنصار ومحاسيب في القطاعات المختلفة للمجتمع لا يمكن أن يتحول إلي أي نوع من أنواع النظام الديموقراطي.
وتدل المشاهدة المعمقة حول الحياة الاقتصادية في الدول العربية علي أن الفعاليات الاقتصادية في القطاع الخاص لها مصلحة في الحفاظ علي مقومات الاقتصاد الريعي، لأنها المستفيدة بالدرجة الأولي، إلي جانب أهل الحكم السياسي من سيل إيرادات الريوع التي تأتي بدون تعب أو كلل يذكر.
وفي هذا الموقف تظهر الفئة الثرية من القطاع الخاص منطقية ورشيدة. ذلك أن الاستثمار في المجالات الريعية هو أضمن وذو مردودية أعلي بكثير ، تسمح باستعادة رأس المال في فترة وجيزة للغاية، بدون تحمل عبء وكلل ومخاطرة وتجميد رأسمال كبير لأمد طويل في نشاطات اقتصادية ذات محتوي تقني عال، والتي تتطلب الإنفاق علي تدريب القوي البشرية، وعلي الدراسات والأبحاث والتطوير، بينما الاستثمار في العقارات والفنادق والصناعات الخفيفة والتسويق التجاري سريعة المردود، والمخاطرة فيها شبع معدومة.
وهذا ما يفسر عدم دخول الاقتصاد العربي في منافسة الريوع الإنتاجية الطابع، أي الريوع التي يكون مصدرها براءات اختراع في الصناعة أو في الخدمات ذات القيمة المضافة العالية، أو الريوع الناتجة من حماية الملكية الفكرية بشكل عام. (.....)
ويتابع قرم:
يجب أن نضيف إلي ذلك أن الاقتصاد الريعي يولد أيضا ويقوي باستمرار من الثقافة السطحية التي لا تتعمق في مشاكل المجتمع الحقيقية، بل تسهم في نسيانها، كما هو الحال في تفشي الأمية بشكل مثير للاشمئزاز، نظرا لوجود الموارد المتاحة في الوطن العربي، وكذلك عدم التطرق إلي إبقاء الوطن العربي خارج دائرة التقدم التقني والتكنولوجي بينما دخلت شعوب أخري خاصة من شرق آسيا، وهي كانت أفقر من الدول العربية في بداية الستينات من القرن الماضي. (...) ولابد هنا من التذكير بأن اقتصاد الريع يشجع علي تنامي الفساد في المجتمع، بل تنامي ثقافة تقبل الفساد، وتدخله كظاهرة عادية في الحياة العامة والحياة الخاصة، وكأن موارد الدولة من الريوع أو من الضرائب غنيمة يتقاسمها أهل الحكم ورجال الأعمال المقربين منهم، وبعض المثقفين الذين يدورون في فلك المجموعة الحاكمة، ويمدحون هذا النظام الريعي بطرق مختلفة، فتصبح بعض الأعمال الخيرية وإنشاء مؤسسات غير حكومية ذات الطابع الفكري والثقافي والمسيطر عليها من قبل أهل الحكم أو رجال الأعمال الدائرين في فلكهم من الأعمال الجبارة والكريمة التي تدل علي أخلاق عالية، وكأن الأموال الموظفة في هذا الميدان من الضخامة والأهمية بحيث ستغير مصير الأمة، بينما هي لا تمثل إلا قطرات قليلة في بحر من الأموال ريعية الطابع.".
2
قد يبدو من الأسلوب الذي بدأت به هذه الخواطر أنني أدعم الوضع القياسي الذي أفرزته العولمة، وهو وضع يتصل بطبيعة الإنتاج الضخم المخترق للأسواق العالمية، والذي تعد قياسيته شرطا لهذا الاختراق والإغراق. غير أنه مبدئيا علينا الاعتراف بأن هذا الوضع - كرهناه أو قبلنا به - يمثل شرطا عاما للدخول إلي حلبة الاقتصاد العالمي بشكل قادر علي المبادلة العادلة. وبالطبع يبقي من الممكن بل من الضروري إعادة النظر في البناء كله الذي عزل النشاط الاقتصادي بعناد مقصود عن جوانبه السياسية والاجتماعية، وأبقي عليه كجرد منافسة "موضوعية" وحيدة يجسدها "السوق". وما يتضمنه هذا من وهم كبير.
ودون الدخول في تفاصيل أكثر عمقا فإنه قد بات واضحا أن أي حراك محلي باتجاه التغيير عليه أن يدرك طبيعة الخارطة العالمية التي يتحرك فوقها وطبيعة الشروط التي تفرضها، والمواقع التي تحددها للاعبين، كما لابد أن تعي حجم التبعية المخيف لا قتصاداتنا (ومن ثم لمقدراتنا السياسية)، والأخطر أنه في هذا الطور من أطوار الرأسمالية السفيهة تشكلت عصابة عالمية من سياسيين ورجال أعمال وكبار موظفي الدول ونخب دينية وثقافية صارت تشكل ما يشبه الطبقة العابرة للقارات.
إننا نتفهم تماما الانحدار المدهش في الخطاب السياسي العالمي كله، وتولي مجموعة من الداعرين أمثال بيرلوسكوني أو ساركوزي رئاسة دول كانت يوما ما مصدرة لانقلاب حضاري مدهش. ومن منا لا يذكر مستوي الحماقة التي كان عليها بوش الابن؟ فالقوة المفرطة وسيادة فلسفة التمتع بالامتلاك السهل علي حساب الملايين من الناس، انتزع كل قيمة إنسانية عميقة.
وبامتلاك أدوات الإعلام الضخمة روج لنمط مستفز وتافه من الحياة تعبر عنه أصدق تعبير الأفلام الأميركية، التي تكرس في نهاية كل فيلم لصدفة قدرية، وتصر إصرارا علي إظهار المشكلات الإنسانية علي أنها فردية أو عائلية أو دينية لوضع مسؤولية الفشل والنجاح علي عاتق الأفراد، دون إظهار الجانب المركب من الظروف التي خلقت هذه المشكلات. وهي حتي حين تنتقد ما يمكن تسميته بال"جشع"، تتجاهل أن مبدأ السوق وسيادة التنافس علي الامتلاك كعقيدة عالمية هو الخالق لمبدأ الجشع. فلماذا يوجه اللوم إلي فرد أهمل الجلوس إلي أسرته لأنه يعمل ليل نهار من أجل توفير الرخاء لهم في مجتمع لا يرحم، ولا تلام الشركات التي تطرد عامليها لتخفيض نفقات الإنتاج وتحقيق معدلات أعلي من الربح؟ بل يعتبر الأمر الأخير مسألة موضوعية خالصة. لماذا داخل سياسات الاحتكار وحماية الملكية الفكرية ولو علي حساب الشعوب الفقيرة يتم الحديث بالمعادلات الرياضة كأن البشر قطع من الأحجار، بينما يلجأ الرجال والنساء في نهايات الأفلام إلي الكنائس أو يتطلعون إلي السماء أو يبكون علي صدور أزواجهم ندما؟
يعطينا الطابع المؤسسي للاقتصاد وهم أن هذه المؤسسات أمر طبيعي كالجبال والسحب والأنهار له قانونه المنفصل عن البشر، بينما تقودها في الحقيقة آلهة خفية تجمع في حجرها عوائد الطبيعة وعرق الإنسان، آلهة من لحم ودم، مثلنا تماما لكن علي هيئة مصاصي دماء.
3
يشير كتاب "مجتمع المخاطرة" لعالم الاجتماع الألماني أورليش بيك إلي معضلة برزت في نهايات القرن الماضي وهي ما أسماه "الرأسمالية بدون طبقات.. والتي تحتفظ مع ذلك بكل التركيبات والمشاكل لعدم المساواة الاجتماعية الناتجة عنها (أي الناتجة عن الصراع الطبقي)".
هذه النقطة ليست ثانوية، فهي تفسر إلي جانب كبير عجز البشر المضارين بشكل أو بآخر من بعض جوانب النظام الرأسمالي ( التي شيئا فشيئا تمنح حقوقا لصاحب العمل، وتقلص حقوق العاملين تاركة إياهم لجحيم السوق). فما عاد الناس بسبب الطبيعة المرنة والمؤقتة للعمل بقادرين علي توحيد صفوفهم حول مطالب محددة. وهذا سبب فشل الكثير من الهبّات والانتفاضات، وحالة الاستقرار الوهمي التي يدفع ثمنها الغالبية العظمي من المواطنين. هذا فيما يتعلق بالعالم المتقدم، و"بيك" يضع ألمانيا الغربية (قبل إعادة توحيد الألمانيتين) نموذجا.
ماذا إذن لو قارنا الوضع بمصر وشبيهاتها؟ مع العلم أن الدول المتقدمة مازال المواطن فيها يتمتع ولو بحد أدني من الحصانة الاقتصادية في صورة إعانات بطالة ونظام تأميني، ومؤسسات رعاية وإعادة تأهيل.. إلخ.
رأسمالية الصيع في مصر عملت علي تفكيك قوة العمل (التي لم تكن قوية من الأساس)، وبرعاية السلطة المتواطئة مع نخبتها الفاسدة تمكنت من إصدار تشريعات مجحفة بحق العاملين، وتلاعبت الدولة بصناديق التأمينات وحاصرت العمل النقابي وفرضت عليه هيمنة أمنية، وتعاملت بقسوة مع حقوق الإضراب والاعتصام. هذا بالإضافة إلي عمليات البلطجة المباشرة بانتزاع ملكيات بالقوة والتدليس والتزوير. وإجبار كل داخل إلي سوق الاستثمار (في غياب أي شفافية) علي أن يكون خاضعا لرؤوس البيروقراطية الفاسدة، وأن يتخذ لنفسه حماية من مسؤول كبير. ومن ثم كان من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، علي أي مستثمر مهما بلغت (وطنيته) أن يغامر بمشاريع إنتاجية كبري لصناعات حيوية تحتاج دورة طويلة لرأس المال، وفضل الجميع اللجوء إلي مشروعات خدمية أو معتمدة علي الريع (السياحية مثلا)، أو صناعات التعبئة، أو العقار.
المهم أن هذا التفكك، وذلك المناخ الاقتصادي الفاسد لم يكن بحاجة إلي مؤهلات ولا خبرات علمية أو تقنية عالية، وهو ما انحط بمستوي التأهيل العلمي والمهاري للمجتمع كله.
انعكس ذلك علي جانب يبدو بعيدا نسبيا، وهو التمايز النسبي للثقافة التي كانت تميز الطبقات الاجتماعية. إن شعبان عبد الرحيم يمكن أن يكون نجما في حفل نجل وزير أو ملياردير كبير، وهو أيضا صديق حميم لسائق التاكسي. وليس الغرض هنا هو النظر بطريقة فوقية إلي شعبان عبد الرحيم، ولكن إلي تميع الخصوصية الثقافية وانحلال الثقافة في الوقت نفسه إلي مستوي التعبير العاجز والبدائي. فأنغام شعبان عبد الرحيم تمثل الحد الأدني من فكرة الغناء التي بلغت أواسط القرن الماضي مستوي لا بأس بع من التطور والتعقيد والقدرة علي التصوير والتعبير، وترده إلي مستوي الترديد المتكرر، ومثله مثل كل أنماط الغناء الشائعة اليوم تصبح وحدة الإيقاع الرتيب المرتبط بحركة الجسد شكلا بدائيا لثقافة لا تستطيع أن تجسد نفسها في واقع خارج عنها، واقع تخلقه، وفضاء عام تسهم فيه، واقع يتجاوز حدود الجسد. حين تنظر إلي الشباب والشابات الراقصين علي إيقاع الأغنيات الجديدة والمغني يوجههم كقائد قطيع، تلاحظ أنهم لا يشتركون حقا في رقصة يخلقونها، بل في أداء مغرق في الذاتية مع ذوبانه في المجموع في الوقت نفسه. ذات غائبة في حراسة القطيع.
سنلاحظ دائما هذا التناقض علي مستويات أخري الحالة الجماعية التي يتم التشديد عليها، مع بقاء كل شخص غارقا في ذاته تحت ستار هذه الجماعية، وهي بالطبع ذات غير كاملة وبدائية أيضا، وبالتالي تفهم لماذا يمكن أن يتحول عرس فجأة إلي مذبحة، أو جلسة أصدقاء إلي خناقة تنتهي بجريمة.
هناك سيولة شاملة في الانفعالات ومجانية مفرطة في اللغة والأداء التعبيري. وولع بالخصوصية الاستعراضية كتعبير يناضل من أجل إثبات ذات هي موضع شك كبير.
في فيلم "مواطن ومخبر وحرامي" يتبادل ابن الطبقة المتوسطة، وممثل السلطة، وممثل الطبقة الدنيا (إذا صح التعبير) يتبادلون الأدوار، تتغير المواقع والقناعات. لا يقدم الفيلم أي صورة مثالية عن أي منهم، ولا يعتبر أن لهم سمات نهائية باعتبار الطبقة، فالكاتب البرجوازي ينجح بعد سماعه نصيحة "الحرامي"، ثم ينقلب إلي شخص متدين، والحرامي يصبح ناشرا كبيرا. وهكذا.
4
أحد الأخطاء الفادحة الشائعة في بعض الأوساط الثقافية المحلية هي تصورها عن الفردية المتحصلة اليوم كإنجاز، وكدليل تحرر، بينما هي في حقيقتها سجن، وهم لم يناضلوا ليحصلوا عليها بل وجدوا أنفسهم مجبرين علي المرور من خلالها كقطع اللحم التي من "المفرمة" ثم يعاد تتبيلها في خليط، وأطباق معدة سلفا.
لكن "الحس الفردي" لا يقتصر علي مجرد "الأدلجة" في مجال الثقافة، بل هو شائع في الممارسة اليومية بالفعل. بل حتي علي أفق الحركات السياسية المعارضة.
ويقر أورليش بيك بأن ثمة أشكال من مقاومة "المخاطرة" بإنشاء روابط اجتماعية وثقافية تنتج عن "البحث عن أشكال من التسييس والاستقرار الهش". يمكن مقارنة ذلك بمصير الائتلافات "الثورية" التي بلغت الثلاثين وربما أكثر، وهذه الشرذمة غير المنطقية التي لا يمكن أن نصدق أنها تعبر بالفعل عن فروق أيديولوجية ملموسة، خرجت إلي السطح في هذه المدة القصيرة من الزمن.
هذا التشرذم لا يعكس بالضرورة ميلا "ديموقراطيا" بل عجزا عن رؤية أكثر اتساعا وتركيبا، لموقع هذه الائتلافات نفسها، وبقدر ما هي عاجزة عن الرؤية عن موقعها بالذات بقدر ما هي عرضة لضعف التأثير.
5
يبقي تعقيب مختصر عن مسألة "الهوية". إذ إن ما قلته ينصب علي الهوية الماضوية خصوصا، لكن بالإمكان النقاش حول هوية مستقبلية مرنة لا ترتكز علي وهم الخصائص الثقافية أو العرقية أو الدينية، وإنما علي كيفية صياغة حياة عادلة مشتركة.
هل الخلاف مع الإخوان "خلاف فكري"؟
علق أحد الناشطين بعد ظهور نتيجة المرحلة الأولي من الانتخابات الرئاسية، مشيرا إلي الاختيار الذي بات محصورا بين مرشح الاخوان وأحمد شفيق، واتجاه الانحياز الممكن أن الصراع مع الاخوان صراع حدود، ولكنه مع أحمد شفيق صراع وجود. ومع توارد أخبار عن تأييد بعض الإعلاميين والنشطاء لمرسي في ظل هذا الاستقطاب باعتبار أن الخلاف مع الإخوان هو خلاف "فكري"، يجب التوقف عند بعض النقاط.أولا، وهي مسألة نافلة، من المبالغة السخيفة وصف تيار الإخوان أو "جماعتهم" بأنها صاحبة أفكار، وكأنها تأسست أو تضم نخبا من فلاسفة أو مفكرين أو حتي باحثين علي مستوي راق. فالجماعة دعوية بالأساس والفعل، بالمنطلق والممارسة، أي أنها تعتبر "أفكارها" متحصلة سلفا في عهود الاسلام الأول ونماذجه التي ما علينا إلا استعادتها لنعيش حياة الاستقامة والسعادة في الدارين. بل، إن الإخوان، وليسوا بدعا في ذلك، اعتمدوا في تحويل هذا المعتقد البسيط غير الممحص، والمنطوي علي إشكالات كثيرة جدا أكثر مما يبدو علي سطحه، أقول اعتمدوا في تحويل هذا المعتقد إلي أداة "منازعة" سياسية (وليس ثورة) علي تبسيط وتسطيح الإسلام في فكرة "الشريعة" باعتبارها اسما مقابلا للفقه، وعلي الفقه باعتباره مختزلا في "حلال وحرام" وعلي الحلال والحرام في كل ما يخص المظاهر المدنية خصوصا التي لا تمس جوهر النشاط البشري الحديث وهو الاقتصاد والقاعدة السياسية والقانونية شبه المعولمة، والتي تفرض بدورها أشكالا من شروط الإنتاج وظروف العمل وحدود الحريات ومعناها والمواطنة والملكية وإدارتها والعلاقات الدولية..إلخ.
مهزلة
وخلال ثمانين عاما هي عمر نشاط الجماعة لم تقدم، فيما عدا صراخها العالي، تصورا واضحا عن منطلقات التشريع وكيفية استعادتها للمرونة بعد عصور من توقف الاجتهاد، وكم هي مهزلة بكل المقاييس أن يعتبر المسلمون أن أربعة فقهاء عاشوا بين القرنين الثاني والثالث الهجريين، مطالبون بأن يجيبوا عن أسئلة حيوات لم يعيشوها ومجتمعات لم تخطر لهم ببال، هذا مع افتراض أن ما أنجزوه كان نهاية المطاف حتي في عصرهم ذاته، ولم يكن يعبر عن اتجاه مردود عليه، يقدم ضرورة الجماعة علي الفرد، والسلطة علي الاختيار الحر، ما يناقض إلي حد بعيد حياتنا الحاضرة. وحين يتواطأ الإخوان مع السلطة القائمة، كما حدث قبل الثورة وبعدها، فهذا ألصق بطبيعة مرجعيتهم التي تأبي الخروج علي الحاكم ولو كان ظالما أو فاسقا صونا للجماعة مما تسميه أدبيات السياسة الإسلامية بال"فتنة".
البلاغة أولا
كتابات الاخوان هي خطب بلاغية إنشائية لا تقدم أبدا القضايا في ثوبها الإشكالي، بل تعتمد علي دغدغة وعي شعبي مقهور وفاشل في التعامل مع حياته بما استقر لديه من قناعات مسبقة بعضها كان ضالعا في أسباب فشله، مخاطبة النرجسية التي تبحث دائما عن عدو خارجي أو داخلي لا شاغل له إلا "الخوف" من الإسلام.
وكأن كل مواطن يعيش في مكان ما من هذا العالم لا يبيت أو يستيقظ إلا ويقول "ماذا أفعل مع الإسلام؟" وهي مسألة لا يصدقها إلا عقل مريض، علي استعداد لاعتبار فشله تفوقا، وتخلفه فلاحا، واحتقار الآخرين له حقدا علي ملكاته الدفينة، ونبوغه المحسود.
قبل وبعد أيضا
غريب جدا أن يقال عن الإخوان "نختلف معهم فكريا". لكن الأغرب، بل ما يدل علي غباء سياسي وإنساني غير مسبوق، أن تتجاهل العبارة السابقة السلوك السياسي الفعلي للجماعة، قبل الثورة بعدها، ومسئوليتهم عن إفساد مسار الثورة، وحرفها عن أسئلتها ومطالبها الأساسية، والتواطؤ بأقبح الصور مع السلطة، وانكشافهم باعتبارهم فلولا حقيقيين، أي جزءا من تركيبة النظام القديم وعقليته المساومة والتي تفهم السياسة كألعاب تحت الطاولة، لا كممارسة شفافة ومسئولة ومنفتحة، وهي أسوأ منه لأنها لا تمتلك أدواته ولاخبرته، فقد كانت متفرغة للزعيق والدعاء والصراخ علي المنابر والفضائيات.
وحين وجدت نفسها علي طواة الحكم فعلا سواء في مجلس الشعب أو الشوري، ومع حرصها الجشع علي الاستيلاء بأي ثمن علي كل مسارب السلطة، بدا أداؤها هزيلا وهزليا ومفضوحا.
من الغريب أكثر أن المواطنين العاديين أدركوا ذلك خلال أشهر قليلة، بينما لا يدركه كاتب أو مثقف أو ناشط سياسي "ثوري" ويالها من كلمة.
الفلول
قلت من قبل إن تعبير "الفلول" كان يمثل غموض الرؤية عند "الثوريين" كما بدت الثورة في ممارساتهم معني أشد غموضا.
وباختصار: إن كل فكر تعيش علي النظام السابق إما معه، أو باكتسابه الشعبية لمجرد تركيزه علي أخطائه الظاهرة، ونقده الساخر المجاني، وظواهر الفساد الشخصي، لا البنيوي، فيه كل هؤلاء هم فلول أيضا، ربما أسهم بعضهم في الانتقاص منه، في تحجيم أسطورته، في الهزؤ بتماسكه الوهمي، لكنه التصق بالنظام ك"تابع ساخر"، لا يملك رؤية واضحة أمامه، يهدم، ثم يجلس حائرا فوق الخرابة التي صنعها لا يعرف ماذا عليه أن يفعل، ولا كيف يضم حجرا إلي حجر في بناء جديد.اللجوء إلي الإخوان هو لجوء إلي شفيق، هو نوع من المصافحة من الظهر السلطة، مع ضمانات تكفل للثوار الموقع نفسه: احتفالات التظاهر ومقالات السخرية، وتفاهات النقد السياسي بلغة المصاطب واجتهادات المقاهي. الثورة بلا ثوار، لكنها في اعتقادي قد تصنعهم يوما ما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.