على مدار ثمانين عامًا من التجربة والخطأ لم تتعلم الحركات الإسلامية من أخطائها ولم تتعظ، لم تنجح في ضبط الفواصل بين الحماسة الدينية المفرطة والعقل السياسي الناضج، خلال رحلة طويلة من العطاء والجهد والعذاب والتضحيات، لم تؤت الحركات الإسلامية أبدًا من ضعف العاطفة الجياشة ولا الإخلاص المطلق للقضية التي يحملها أبناؤها، ولا التفاني في العمل من أجلها، ولا البذل والعطاء بلا حدود من النفس والمال والأمن والأمان، لم تؤت الحركة الإسلامية من هذه الجوانب أبدًا، ولكنها خسرت من باب البصيرة بالواقع والوعي السياسي والقدرة على فهم خريطة التوازنات في لحظة تاريخية بعينها، واحترام الخصم وتقدير قدراته، واستيعاب المخاطر وحسابات أصحابها، وتقديم أصحاب الكفاءة والخبرة وليس أصحاب الولاء الطاغي ولو كانوا بسطاء ومحدودي الوعي، والتعامل بروح مسؤولة مع الفرصة إذا جاءت وتجنب الاستخفاف بعواقب الأخطاء حتى الصغيرة منها، ووجود الرؤية المستقبلة الناضجة التي تستهدي بها الحركة في مسارها السياسي، كانت الحركات الإسلامية تخلط خلطًا خطيرًا بين البعد الإيماني والغيبي في العمل والتوكل والثقة بنصر الله، وبين البعد العملي والعلمي والواقعي والعقلاني الذي يحترم الأسباب ويعمل وفق قوانينها الصارمة، فكما أننا تعبدنا بالإيمان بالغيب، فقد تعبدنا أيضًا بالأخذ بالأسباب والعمل وفق قوانينها، وإذا ألقي رجلان، مؤمن وكافر، في بحر لجي، فإن من ينجو من الغرق منهما هو من يحسن السباحة، وكلما فشلنا في العمل بهذه الأسباب وقصرنا فيها وأهملناها وأخطأنا التقدير فيها نحاول ستر عجزنا وخطأنا باللجوء إلى الأبعاد الغيبية ونحمل عليها وحدها مجموعة أخطاء لو وقعت في دولة لتم تقديم من تورطوا فيها إلى حبال المشانق، لأن نتائج القرارات والتوجهات كانت تدميرًا لأجيال بكاملها وهلاك مئات الأنفس البريئة وضياع أعمار الآلاف خلف أسوار السجون، اعتباطًا وسوء إدارة وسوء تخطيط، وسوء تقدير للأسباب، كانت أفواج من الشباب الطاهر تدفع ثمن تخبط القيادات دون أي قدرة على الاستفادة من الدرس، لأن تفسير المواقف الخاطئة وأسبابها كان مضللًا، هناك درج موجود فيه تفسير جاهز لكل خطأ وتأويل لكل جريمة سياسية، مؤامرات أعداء الله، وخصوم دعوة الحق، والكارهين للمشروع الإسلامي، ونحو ذلك من شماعات بالية لا يسأمون من استخدامها على مدار عشرات السنين، دون أن يسأل أحدهم سؤالًا واحدًا، حسنًا، بعد المؤامرات، ما هي مسؤوليتنا نحن تجاه هذه الكوارث؟ هل هناك خطأ ما ارتكبناه، أو سوء تقدير للمواقف، أو سوء إدراك لطبيعة التحديات ومنها المؤامرات، أو استهانة بالأخذ بالأسباب أو استخفاف بالواقع وحجم المسؤولية أو غياب الخبرات وتحقير قيمتها أو قمع الكفاءات وأصحاب القدرات وتقديم الموالين الجهلة والسذج الذين يوردونا المهالك؟ لا تجد ذلك أبدا في الأدراج التقليدية للحركات الإسلامية، وغالبًا ما نخلط خلطًا فاحشًا وديماجوجيًا بين اجتهاداتنا ومغامراتنا وبين المشروع الإسلامي فمن خالفنا أو فند أخطاءنا فقد طعن المشروع الإسلامي، وكثيرًا ما يتقلص معنى المشروع الإسلامي ليختزل في مصالح هذا الفصيل أو ذاك وحساباته، وهو عبث وغش ديني وسياسي معًا، سئمنا من كثرة الكشف عن مغالطاته. العاطفة الجياشة إن كانت مفيدة في دفع العمل وضمان استمراريته وتوهج طاقة العطاء، إلا أنها خطيرة للغاية عندما تطغى على عقلانية الخطاب السياسي، إنها تغيب العقل وتحرمه من تبصر المخاطر، الحماسة الطائشة تمثل حجابًا مخيفًا للعقل تجعله غير مستعد أساسًا لكي يسمع رأيًا غير ما استقر في "هواه"، ولا حتى أن يناقش منطق الآخرين، كل ما خالفه من رأي أو موقف أو قناعة هو مؤامرة ويمكن أن يبحث له عن ألف تفسير من العمالة أو الخيانة أو الانبطاح أو قبول الرشى أو بيع المبادئ أو أو....، دون أن يحاول بجدية تأمل منطق ما يقال فربما كان فيه نجاته من هلاك محقق أو تصويب لمسار خاطئ بالفعل، هو لا يناقش الفكرة، هو كل ما يشغله أن يبحث عن طريقة لمنعها من الوصول إلى عقله أو عقول الآخرين، ويطربه كثيرًا من لا ينغص سكراته ويشجيه أن "تنومه" بالحديث عن أن القافلة تمضي والنصر لاحت بشائره، أحيانًا وأنا أكتب يغشاني خيال ما يشبه رغبة في أن أمسك بثياب أصحابي وأحبابي ورفقة العمر أترجاهم أن يقرأوا، أن يسمعوا، أن يتأملوا، أن لا يندفعوا في العواطف الخطرة والمستهترة، وأفزع كثيرًا كلما تذكرت بيت "طرفة بن العبد": ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا... ويأتيك بالأنباء من لم تزود، فكم أخبرتنا الأيام يا طرفة، ولكن من يسمع، ومن يقرأ، ومن يتعظ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. [email protected]