أثار ما ذهب إليه بابا الفاتيكان من تصريحات لدى زيارته الاخيرة الى ألمانيا جملة من المواقف والتصريحات في العالم الاسلامي وعند بعض الاكاديميين الاوربيين التي حملت في طياتها ، على الاقل من الجانب الاسلاماوي ، عودة الى روح الدفاع عن الذات المشفوعة بالاستدلال العقلي لإبن رشد والعلوم الاسلامية العربية و تأثير التاريخي على العقل الاوربي، اكثر من الاستدلال بالمنطق المستدل على حالة قائمة بين ما هو سياسي وديني في الموقف الغربي من المسلمين والعرب ...دون تعمق كبير بما نفعله نحن العرب والمسلمون بكل الارث العقلي الذي نخرجه من الادراج لحظة نريد الدفاع عن موقف بينما نبقيه حبيس العقل المحجور عليه سياسيا لمصلحة وتكتيكات سياسية خرقاء...
بابا الفاتيكان ليست شخصية أكاديمية ليُقال لنا بأن سياق حديثه فُهم خطأً باعتباره إجتهادا أو جهدا أكاديميا لإعمال العقل في قضايا من هذا الحجم المترافق مع نقاش يشهده الاعلامي والسياسي الغربي حول العلاقة والموقف من الاسلام والعرب .. وإلا فيمكن لنا أن نقول بأن ما يصدر عن الظواهري وكل منظري القاعدة يدخل أيضا في ذات السياق القارئ لهذا الغرب ومواقفه من قضايا العرب في السياق إياه.. وحتى دعوة هذا الغرب للدخول في الاسلام !
قد يكون من العبث بالنسبة للبعض العربي العودة إلى تذكيرهم بأن ما أنتجته في الحقيقة كل مسميات "حوار الاديان و الحضارات" إلا الكثير من الضجيج والصخب الفوتوغرافي ليضيع الجهد المقصود في أدراج المواقف المسبقة والمتراتبة عن صناعة عقل عربي واسلامي مدجن معادة صياغتهما وفق المنظور والقراءة العامة لما يريده الجانب الغربي من هذا العقل، بعد الفشل الذريع في فرض المتغير بقوة النيران والتحالفات الفكرية بين حفنة من الليبراليين العرب الجدد الذين قبلوا بدونية فظيعة ذلك التعامل المتعالي معهم بالضد من مواقف ومشاعر الشارعين العربي والاسلامي! لكنه أبدا ليس عبثا أن نؤكد من جديد، سيما أن التصريحات لم تتوقف يوما تحت بند حرية التعبير المسموح بها إن كانت أُحادية الاتجاه لجهة ما يسمونه نقل العقل العربي من عصر إلى آخر..
نعود لنقول بأن الاستشهاد الذي أتى عليه بابا الفاتيكان لمقولات كانت مدفونة في أدراج العقل الباطني وإستنباطها في اللحظة التاريخية الراهنة لا تستهدف تذكيرنا بما كتبه المهرطقون الذين يحتفلون سنويا بحرق دمى تمثل الانثى الغربية في القرون الوسطى في يونيو من كل عام حتى في صيف 2006 لا يمكنها هذه المرة أن تسوق على أنها زلة لسان وسوء فهم من قبلنا... ولا الخرافات الاسكندنافية لشعوب تؤمن بأن الاله أودين يسير حياتها أو أن الاله قد ألقى لمجموعات الفايكنغ علم بلادهم من السماء... فمثل تلك التبربرات تزيد من الحط من قيمة عقولنا القادرة على فهم السياق الذي جاءت فيه تلك الترهات التي أتى عليها البابا القافز عن حقائق تاريخية وعقلية عن دور الاسلام ومساهمته في تكوين العقل التنويري في الغرب نقلا وإشراكا لفلاسفته وعلم المنطق الذي تحلت به جدلية العلاقة المعروفة لكل متعمق بتلك الاسهامات التي جعلت الكنيسة الكاثوليكية في لحظة ما إلى الذهاب نحو إتهام الفكر الاسلامي وما حمله للغرب بأنه المسؤول عن سحب قوة وسطوة الكنيسة على حياة وعقل البشر...
حين تستمع لتلك " المحاضرة" الجامعية، وهي بالتأكيد ليست كذلك، وتربطها بالرسوم الاستفزازية التي أتت عليها صحيفة دانماركية وإعادة نشرها في أكثر من صحيفة غربية لشخص الرسول الكريم... وبما ينطق به بوش مرارا وتكرارا عن "الفاشية الاسلامية" وغيرها الكثير من صغار وكبار الساسة الغربيين الذين يحنون لعصور الوصاية الاستعمارية في ثوب إمبريالي جديد، فإنك لا تستطيع تجاهل المقصود ...
فهل يريد بابا الفاتيكان ، باقتباساته تلك والمس بأسس العقيدة الاسلامية، تحويل المسلمين إلى كاثوليك في ظل تراجع هيبة الكنيسة وفراغها من مريديها وإنتشار الفضائح من كندا إلى أفريقيا لتلك الكنيسة؟ أشك بكل ثقة أن ذلك هو المقصود..
لكنني لا أشك بأننا أمام حالة من إستهداف العقل العربي الاسلامي والمسيحي الشرقي... إستهدافا يتداخل فيه السياسي بالديني، يجري توظيف الاثنين في خدمة الهدف الاعلى المتمثل في بث حالة من من الارتباك والتشكيك بالانتماءات تحت سقف الوهن الذي تعاني منه السياسة العربية والاسلامية وتبعية بعضها بشكل لا نقاش فيه في هذا التماهي الواضح الخطابي والتنفيذي لمشروع المحافظون الجدد وقراءته لمستقبل خارطة الشرق الاوسط الجديد المتداخلة فيه الاثنية والعرقية والقومية مع السياسية التي يجري التبشير لها عبر حفنة من ساسة و"مفكرين" عربا ينظرون وبحماسة لتلك المشاريع الامبريالية الجديدة إنقاذا لهم وللمشروع الغربي من حالة الهزيمة اللتين يعاني منهما هذا المشروع في أكثر من منطقة... فعلى مدة سنوات طويلة وبجهد مدفوع الاجر حاول هؤلاء أن يعيدوا صياغة العقل العربي فما كانت النتيجة إلا فشلا ذريعا ومريعا، إحتاج إلى الالتفاف وإعادة النظر بالطرائق والوسائل التي تم إستخدامها في العقد الاخير.. أجد من الهزل بمكان وبعيدا عن أية جدية أن يقوم مثلا برويز مشرف بالتعليق على ما قاله بابا الفاتيكان وهو الحليف الرئيسي للمشروع الغربي في ما يسمى "الحرب على الارهاب" الذي يؤكد صورة نمطية لدى الغرب عن أن الاسلام لا يفرخ إلا إرهابا... وهو ما ينسحب على الموقف الرسمي التركي الذي أدان حتى إنقطع نفسه بالرغم من أن النتيجة والمقدمة معروفة فقد جاء الموقف الحقيقي الذي يقول بأن تركيا لن تلغي زيارة البابا إليها في نوفمبر القادم... إن مثل تلك المواقف وغيرها كثيرة لا مجال لتعدادها جميعا لا تؤدي إلا إلى زيادة ضعف المصداقية التي لا يتحلى بها "أولي الامر" الذين يطبل لهم مشايخهم الخاصون والمتخصصون في ركوب موجات الغضب المؤقت، كما في قضية الرسوم الدانماركية التي ذهبت مع الريح... فلا إعتذار ولا تراجع إلا من الجانب الغاضب لتعود المياه إلى مجاريها الطبيعية... إقتصاديا وسياسيا وديبلوماسيا... لقد سئم الشارع كما سئم العقل أن تتحكم به مثل تلك التراجعات التي تتلبس المواقف العربية والاسلامية من قضايا عادلة بوجود محامون رديئون جدا... وهو ما سيزيد من التطاول والاستخفاف بالعقل العربي عند الغرب المتعالي الذي يعاملنا معاملة المراهقين الذين يعوزهم عقلا وإرادة يعمل الغرب على تصديرهما لنا في ظل ما يسمى الدول القومية التي مسحت من قاموسها السياسي مفردة "لا" وإستبدلتها ب" يس سير" لا لشيء إلا لأن سنوات ضوئية تفصل بين المواطن ودولته القومية... وهنا يكمن الفرق بين هوغو شافيز وأمثاله من الذين لم يقرؤوا دولهم وشعوبهم كاقطاعيات مملوكة لحفنة من المنافقين والمتسلقين المتذاكين، عداك عن تحول المقدس لدى بعضنا إلى مقدس مشخصن في مراجع دينية لا يجوز ( باعتبارها معصومة) فتهب الجماهير وهي تصيح لبيك لشخص والبلاد والعباد مستعبدة من قبل إحتلال لا يقيم وزنا إلا لمصالحه، هذا إذا لم نشأ الخوض في تفاصيل أكثر مدعاة للخزي والمهانة!
لن تكون لبابا الفاتيكان وكلماته تلك تأثيرها التسطيحي الذي طالبت به شخصيات ومؤسسات ودول عربية وإسلامية محصورة في إعتذار شخصي، فقد طالب هؤلاء في أكثر من مناسبة إعتذارا رسميا من الفاتيكان عن الحروب الصليبية فما كان من مؤسسة الفاتيكان إلا تجاهل كل تلك المطالب وحصرها في تقديم صك البراءة والاعتذار لليهود...هذا إذا لم نذكر قضية الرسوم الدانماركية التي إنتهت إلى ما إنتهت إليه من حالة النشوة والاستجمام التي يعيشها المسؤول عن تلك الرسوم في جولات تحريض على الاراضي الامريكية التي إحتفت به إحتفاءا ينم عن خبث ومواقف لم يجري التراجع عنها..
في الاطار اللاعقلاني لقراءة التصريحات، بالرغم من أنني شخصيا لم أُعجب بتفسيرات الاب ميشيل صباح مثلا، فإنه يكون من المرفوض جملة وتفصيلا، مهما كانت المبررات، هذا السخف الذي مارسته حفنة مشكوك أصلا بفهمها لمدى المواطنة المشتركة وحياة البؤس المشرك للفلسطينيين تحت نار الاحتلال.. إذ ما دخل الكنائس في نابلس وغزة لتهاجم بتلك الطريقة التي تذكرنا بحرق مساجد المسلمين في أوربا على أيدي اليمين المتطرف..؟
إذا كان لبابا الفاتيكان أن يستدل بكتابات مضى عليها أكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمن، فبامكاننا التذكير بأن الكنيسة الشرقية ومنها الارثوذوكسية في فلسطين التي جرى التآمر عليها وإستطاعت في النهاية أن تثبت تفوقها على محاولة الاقصاء المتعمد لشخصية بوزن الاب عطا الله حنا الذي يملك من الجرأة الادبية والقومية ما لا يجرؤ عليها الكثير من أصحاب العمائم..فلا يجوز الخلط الاعمى الذي رأيناه مسيطرا على هؤلاء المتمسكون بالجبن تحت عمامة المنصب وعتبات السلاطين... الذين تراهم يتحركون مثل الدمى... مع إحترامنا بالطبع لكل من هو خارج إطار هذا التصنيف المعروف بالفطرة لابن الشارع السياسي العربي... أليست واحدة من جزئيات المشروع الاستعماري الجديد المرسومة لنا "ولادة شرق أوسط جديد" تحمل في الكثير من جوانبها خلق سياسة تحكم الانتماء الطائفي الاعمى كمدخل لإضعاف الانتماء الجمعي لشعوب المنطقة؟ فكيف نحمل معاولنا لنؤسس لدول الطوائف التي أثبتت تاريخيا أنها أعجز عن حماية حتى ذاتها الواهنة؟ هل نستطيع أن ننكر بأن الفكر الاسلامي والعربي كان في طريقه نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرون حمل بذور تجديدية تم وأدها بالوكالة بأيد إسلامية وعربية؟
بالتأكيد نستطيع محاججة الكنيسة الكاثوليكية الغربية عن قضية السيف الذي إستخدمه بابا الفاتيكان لاقصاء الديانة الاسلامية عن عمقها الانساني... فإذا كانت الجهالة التي ردها البعض لأقوال رأس الكنيسة هي التي تتحكم بعقل هؤلاء وما يقدمونه في الاطار السياسي النابش للتاريخ إنتقاءا...فإننا وبكل بساطة نستطيع أن نتساءل عما إقترفه رجال الكنيسة الذين حملوا الانجيل بشقيه القديم والحديث إلى المستعمرات الجديدة في أمريكا وأفريقيا إلى جانب السيف... فكم من مليون هندي أحمر تم إبادتهم باسم الوعد الالهي باعتبارهم ليسوا بشرا بل كفرة وشياطين؟ بل ماذا حل بالوثنيين الذين أتاهم الغربي متأبطا الانجيل والسيف إلى الادغال الافريقية ليفرض بالقوة والنار تبشيرا كاسحا كمقدمة للمستعمرين الذين إستوطنوا واستولوا على أراضي الافارقة حتى إنهيار نظام الابارتهايد في الجنوب الافريقي ومازالوا حتى يومنا هذا يمارسون السطو الواضح على اراضي فقراء افريقيا وامريكا اللاتينية؟
هذه الاسئلة التي كانت من المحرمات يوما ما، يمكن اليوم إعادة صياغتها ، بعد أن تجاوز بابا الفاتيكان كل الكلام عن التسامح وعن التعايش المشترك... ببساطة وبدون الخوض في تفاصيل "عقلية التأمر" التي يُتهم بها العقل العربي فإن مثل تلك التصريحات الصادرة عن بابا الفاتيكان لم تأتي إعتباطا إذا ما تفحصنا مواقف الرجل من إنضمام تركيا إلى الاتحاد الاوربي و من فزاعة الاسلام السياسي في اوربا لتحجيم قوة المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاختيار الطوعي للالاف من الامريكييين والاوربيين للاسلام كمعتقد ودين وطريقة للحياة.. لا يمكننا تجاهل تصريحاته بعيدا عن الجهد التبشيري الذي تقوم به الكنيسة الغربية في العراق وآسيا وأفريقيا ، في لحظة تاريخية يكرر فيها بوش بمناسبة وبغير مناسبة شعاره الاحمق "من ليس معنا فهو ضدنا".. لا يمكن فصل تلك التصريحات عن مأزق الكنيسة الكاثوليكية في كل مكان مع أتباعها وتلك الممارسات التي تنم عن حالة إنحطاط أخلاقي وفضائحي من كندا مرورا بأمريكا وأوربة وحتى أفريقيا...
إذا كان شعار الكنيسة التي يمثلها بابا الفاتيكان تقول بأنها لا تخلط السياسة بالدين فليس هناك ماهو أوضح على تلك الكذبة التي يجري تسويقها ضمن المشروع الامريكي الذي يهتم بكل صغيرة وكبيرة إلا قضية فلسطين التي تشكل مركزا في التفكير الاسلامي والمسيحي ... غير ذاك المسيحي المتصهين الذي يقرأ الوقائع من منظار متصهين يميني يحمل في عرضه وتقديمه لمشكلة السلم والحرب في المنطقة العربية نظرة جهنمية تحمل في الافق البعيد مجزرة دموية إعتمادا على الايمان بأن كل ذلك سيسهم في تعجيل ظهور المخلص... فلنمعن جيدا بما يريده بوش وتحالفه الغربي الاوربي لنفهم السياق الذي جاءت به كلمات المرجع الكاثوليكي الكبير الذي إنبرت أقلاما وأصواتا سياسية في الدفاع عن كلامه الذي أتى عليه..لنفهم بأن الاكتفاء بالمطالبة ب"إعتذار" يحمل من السخافة ما يحمله، بدل المطالبة بتغيير كلي للمنهج المتبع مع القضايا العربية ومنها قضية العراق وفلسطين التي يعاملها ساستهم معاملة إنجيلية متطرفة بينما لا يجرؤ عندنا السياسي العربي على قول ربع الحقيقة ... ممثل "كُتاب بلا حدود في الدانمارك".