كان سعد زغلول باشا منفيًا فى جبل طارق وجاء يوم الأول من يناير سنة 1923 عندما كتب فى مذكراته يقول: «اليوم هو افتتاح عام 1923 جعله الله فاتحة عدل وحرية وسعادة للعالم عمومًا ولمصر خصوصًا». وفى مذكراته عن نفس اليوم كتب «ذكرت منيرة ثابت فى خطاب مؤرخ 19 ديسمبر سنة 1922 أن «اللنبى»- المندوب السامى البريطانى فى مصر - نشر منشورًا أمس بأنه غير معارض فى الإفراج عنا ، ولكن لم يرو لى أحد غيرها هذا الخبر» . ولم يكتب «سعد زغلول» أى معلومات تفيد من هى «منيرة ثابت» وما علاقتها به حتى ترسل مثل هذا الجواب ولم يتردد اسم «منيرة ثابت» فى مذكراته إلا بتاريخ 30 يوليو سنة 1925- أى بعد حوالى 19 شهرًا عندما كتب يقول: «طلبت «منيرة ثابت» الإذن لها بإصدار جريدتين: إحداهما باللغة الفرنسية واسمها «لسبوار» والثانية عربية، وقد نالت هذا الإذن بسهولة بعد أن قابلت «صدقى باشا» -وزير الداخلية- مرتين بناء على طلبه! وقد قالت له: أنها أخبرته بأنها سعيدة ولا ترغب فى التحول عن ميدانها، وقد حضرت -منيرة- أمس لتضع تحت يدى الإذن الذى تحصلت عليه بعد أن كفلها فيه الأستاذ «عزيز مرهم» -القريب من الوفد- والمهم الآن هو إيجاد محررين قادرين ومدير، علنا نجد ذلك»:
كان «سعد زغلول» مهتما بالصحافة وخاصة الصحافة التى تدافع عنه وعن الوفد وأثناء توليه رئاسة الوزارة من 28 يناير سنة 1924 حتى استقالته فى 24 نوفمبر سنة 1924 كتب فى مذكراته: «إن الذين يتلون صحف خصومنا وما تكتبه كل يوم عنا يخيل إليه أننا شر خلق الله، وإننا أكبر المذنبين، ويعلم الله أننا لم نرتكب إلا ذنبًا واحدًا. هو الوفاء بعهدنا للأمة مع ما فى هذا الوفاء من الخطر الذى ابتلينا بكثير منه ولازال يهددنا». لقد كان «سعد زغلول» فى أمس الحاجة إلى صحف تسانده وتؤيده، ولذلك كان يرحب بصدور أى جريدة جديدة ويكتب فى مذكراته: «زارنى اليوم «ليون كاسترو» -أحد المقربين من سعد- وفهمت منه أن له صديقا تحصل على رخصة بإصدار مجلة أسبوعية، وبنى عزمه، أن يصدر جريدة على المبادئ الزغلولية، وهو يسعى فى الحصول على إصدار رخصة لها، وقد يتم ذلك فى شهر سبتمبر القادم، فقلت: لا بأس من ذلك». لكن تبقى «منيرة ثابت» وحكايتها علامة مهمة سواء فى إصدار مجلتيها أو علاقتها بسعد زغلول، وقد حرصت «منيرة ثابت» أن ترويها فى مذكراتها المهمة «ثورة فى البرج العاجى» التى صدرت عام 1945، حيث تقول: «فى أواخر عام 1925 أصدرت فى وقت واحد جريدتين سياسيتين باسمى - إحداهما يومية فرنسية والأخرى عربية أسبوعية وكلتاهما كانتا تحملان اسم «الأمل». وكان سعد زغلول من حيث لا يدرى صاحب الوحى فى فكرة إصدار هذين «الأملين» فإن كنت بذلك قد أصبحت أول فتاة مصرية اشتغلت بالصحافة اليومية السياسية فى مصر فالفضل فى ذلك لسعد زغلول. وقد كان لإصدار هاتين الجريدتين باسمى قصة سياسية رائعة، أن سعد زغلول كان فى ذلك الوقت زعيما للمعارضة، وكان دولة «إسماعيل صدقى باشا» وزيرا للداخلية، وكانت المعركة بين الوفد والحكومة على أشدها! أجل، كان الخيط مشدودا من طرفيه بين دولة الشعب فى بيت الأمة ودولة الحكومة فى وزارة الداخلية!! ففى هذا الوقت استطعت أن أتزحلق بخفة ومودة ذهابا وإيابا على هذا الخيط الرفيع الحاد من بيت الأمة إلى وزارة الداخلية وبالعكس حتى وفقنى الله فتسلمت من يد دولة «إسماعيل صدقى باشا» ترخيصين بإصدار «الأملين»! فكانت مفاجأة أحدثت ضجة صاخبة فى مصر ولا غرابة فى ذلك فالمصريون كالباريسيين شديدو الفضول وكثيرو التهويل! وقد تفضل الصحفيون الأوروبيون ونعتونى بلقب «فارسة الصحافة المصرية» وقد كانوا يجهلون سر ظهور هذه الفروسية! أما الأحاديث والمناقشات الحادة التى دارت بينى وبين سعد بهذه المناسبة فكل هذه أسرار سياسية ليس لها مكان فى هذا الكتاب!». ويكفى أن أقرر هنا أنى وإن كنت مدينة لسعد بالتشجيع والعطف والإيحاء فإنى مدينة «لإسماعيل صدقي» بلقب فارسة الصحافة المصرية! فهو الذى بتصريحه وإمضائه جعل منى أول مصرية اشتغلت بالصحافة اليومية والسياسية! وكان «صدقى باشا» من أمد بعيد شخصية عزيزة على المرحوم والدى والذى كان يقدر دولته ويحبه كثيرا ويعتبره أول رجل فى مصر من ناحيتى الكفاءة والوفاء للصديق، ولهذا أصدر والدى إلىَّ الأوامر بألا أتعرض لصدقى باشا بنقد مهما كانت الظروف، ولم يكن «سعد» يعرف هذا السر الدفين! وهكذا ولدت الجريدتان أو الأملان، وقد ركزت عندئذ جهودى على صفحاتهما للمطالبة بحقوق مصر فى الحرية والاستقلال وبحقوق المرأة السياسية والاجتماعية. وكانت جريدة الأمل تحمل فى صدرها كلمة صحيفة الدفاع عن حقوق المرأة! وصدر العدد الأول من جريدة الأمل العربية فى 7 نوفمبر سنة 1925. وتروى «منيرة ثابت» بداية المعرفة بسعد زغلول قائلة: «كان أبى وسعد زغلول من العوامل القوية التى دفعت بى مبكرا إلى هذا الطريق، فقد تلقيت منهما الإيحاء الفكرى والنفسي، وقد ساعدت ظروف نشأتى وتربيتى البيتية على تلقى هذا الإيحاء والتوجيه والإفادة منهما! فقد حدثنى والدى كثيرا فى شئون المرأة فى مصر وفى الخارج، وذكر لى بصفة خاصة تاريخ حركة النساء فى إنجلترا، وقصة ثورتهن التى أدت إلى دخول البرلمان، وهكذا كان رحمه الله «يوسوس» لى بهذه المسائل الخطيرة ويحشو بها رأسى الصغير حتى كاد ينفجر!
وقد تلقفنى الزعيم «سعد زغلول» وأنا على هذه الحالة فى عام 1924، إذ اتصلت به اتصالا وثيقا، فعطف علىَّ وشجعنى ثم أكمل -بأحاديثه الشيقة معى- تعبئة رأسى بالذرات الباقية فى ميدان السياسة والنهضة النسوية والاجتماعية، وليس المجال يتسع هنا لتسجيل شيء من ذكريات تاريخى الحافل بالطرائف مع سعد غلول خصوصا أن بعضه يتصل ببعض الحوادث والشخصيات السياسية فى مصر وكلها أمور لم يحن الوقت بعد لإذاعتها!!». وتمضى منيرة ثابت قائلة فى مذكراتها: «لما سمعت ذات يوم أن القوم يصنعون لمصر دستورا -شتاء سنة 1923 - وبرلمانا خيل إلى أن الوقت قد حان لأن أتزعم حركة تشبه ثورة نساء الإنجليز فأخذت فجأة أكتب وأبعث بعشرات المقالات للصحف العربية اليومية والأسبوعية وأحيانا الصحف الفرنسية! وكانت مقالاتى العربية فى ذلك الوقت «ركيكة» نوعا فى مبناها -من حيث اللغة- ولكنها على ما أعتقد كانت قوية فى معناها ومرماها، ولم يحدث أبدا أن رفضت جريدة واحدة فى مصر عربية أو فرنسية أن تنشر لى أية مقالة من المقالات التى ملأت بها صفحات الجرائد، وهذا فضل أذكره وأسجله للصحافة فى مصر التى كانت عاملا أساسيا فى تشجيعى! وفى هذه المقالات الأولى كنت أبدى رأيى فى شئون مصر السياسية بنزعة متطرفة على طريقة والدى وكنت أؤيد طبعا سياسة الزعيم «سعد زغلول» وقد طالبت بحق الانتخاب للمرأة وبحق العضوية فى المجلسين النيابيين، وكان ذلك قبل أن يفتح البرلمان المصرى الأول بقليل، فكنت أول مصرية طالبت بحقوق المرأة السياسية -وما زلت وأسفاه أطالب بها- وقت كتابة المذكرات. وأحب أن أسجل هنا أن «سعد زغلول» لم ينهرنى أو يوبخنى عندما طالبت بهذه الحقوق السياسية بل على عكس ذلك صفق لى وشجعنى وأكد لى أنه سيعطى المرأة هذه الحقوق السياسية عندما تتوطد الحالة السياسية فى مصر. وتروى منيرة ثابت كيف طالبت بدعوة السيدات لحضور جلسات البرلمان فتقول: «لاحظت -وكنت الوحيدة التى لاحظت- قبل افتتاح البرلمان الأول بأيام قليلة أن ذوى الشأن فى البرلمان لم يعدوا للسيدات مكانا فى شرفات الزوار! فبادرت بالاحتجاج على ذلك! احتجاجًا شديدًا عنيفًا وطلبت بضرورة تخصيص مكان للسيدات بين زوار المجلسين! أي.. والله لقد كنت أنا صاحبة هذه الفكرة والمطالبة بها ولم تفكر فى ذلك الوقت سيدة فى مصر أو هيئة نسائية فى المطالبة بتخصيص مكان للسيدات فى البرلمان. وقد تقبل مكتب مجلس الشيوخ احتجاجى واستجاب لطلبى فى الحال، فلم تمض أيام معدودة حتى أعدوا للسيدات شرفة فى كل من المجلسين. وكان الفضل فى سرعة قبول طلبى يرجع لسعد زغلول نفسه، فقد كنت لجأت إليه فى الحال وخاطبته فى هذا الشأن، فأبدى أسفه وأيد طلبى ونفذه فى الحال، وكان رئيسا للوزارة وقتئذ! وافتتح البرلمان المصرى الأول فى 15 مارس سنة 1924 دون أن يكون لنساء مصر نصيب فى الظهور فى هذه الحفلة الأولى ولكن بعد أن قدمت احتجاجى واتصلت بسعد زغلول تقرر تخصيص مكان لهن! ففى يوم السبت 22 مارس اقتحمت المرأة المصرية لأول مرة فى التاريخ باب شرفات الزوار فى البرلمان وكان فى مقدمة الزائرات رئيسة وعضوات الاتحاد النسائى الذى كان يعارض جميع مطالبى ويحارب آرائى ولكنه لم يكن يرى بأسا من أن يتمتع بثمرات هذه المطالب والآراء»!! وللحكاية بقية!