في علم الإتصال السياسي هناك ظاهرة مهمة هي "التسميم السياسي (intoxication)" كتب عنها العالم الراحل حامد ربيع وغيره من علماء السياسة العرب. وهي تشير إلى محاولة زرع أفكار معينة أو قيم دخيلة من خلال الكذب والخديعة ثم العمل على تضخيم هذه القيم تدريجيا لتصبح قيم عليا في المجتمع المستهدف. وعملية التسميم السياسي، بهذا المعنى، مرحلة من مراحل المعركة مع الخصم أو مقدمة لمعركة قادمة، وهي تستهدف تبديل القيم أو التحلل من قيم معينة بشكل تدريجي وغير مباشر. والأخطر من كل هذا أن التسميم لا يمارسه العدو مباشرة وإنما يتم استعمال نخب فكرية وثقافية وفئات مختارة لتُنقل لها – في مرحلة أولى - الأفكار الدخيلة، ثم تُترك هذه النخب والفئات – في مرحلة ثانية - لتنقل تلك الأفكارإلى الجماهير من خلال أدوات الدعاية والإعلام المختلفة. أنا أعتقد جازمًا أن آلة الدعاية الصهيونية نجحت في زرع الكثير من الأفكار الدخيلة ثم تَرَكَت لضعاف النفوس وأنصاف المتعلمين رعايتها حتى صارت هذه الأفكار مصدرًا للكثير من الفتن والانقسامات بين العرب.. ومن هذه الأفكار الدخيلة: القول بأن الفلسطينيبن باعوا أراضيهم، أو أن العرب يضيعون فرص السلام مع الإسرائيليين، أو أن السلام سيضمن التفرغ للتنمية، أو أن العرب والمسلمين أمة ميتة فاسدة، أو أن العروبة ماتت، وغير ذلك. اليوم سأقف عند مقولة ترددت في الآونة الأخيرة في أعقاب الأحداث المؤسفة التي تلت مباراة قدم القدم بين مصر والجزائر، وهي "أن العرب يكرهون المصريين".. ترتبط المقولة، في اعتقادي، بدور مصر ومكانة مصر بين العرب. فلم نسمع عن أي كراهية لا لمصر ولا للمصريين قبل 1952 ولا في عهد الرئيس جمال عبدالناصر. بل على العكس تمامًا، فعندما كانت مصر منارة الفكر ومهد المؤسسات العلمية وقبلة الفنون والآداب وقلعة الأهداف العربية والكرامة العربية ومصدر الدعم لكل الحركات التحررية، كان العرب من المحيط إلى الخليج يقصدونها للتعلم والعمل والسياحة والإقامة.. كانت مصر النموذج الذي يتطلع الجميع أن يحذو حذوها. وعندما تغيرت مصر وأدارت وجهها عن قضية العرب المركزية، كان من الطبيعي أن تتغير مشاعر العرب – كما مشاعر معظم المصريين – من نظام الحكم في مصر ومن كل من يدعمه من المصريين.. مصر اليوم فقدت كل عوامل الجذب السابقة، فهي لا تُصدر الفكر ولا الثقافة ولا الأدب ولا العلم ولا الشعور بالعزة أو الكرامة.. مصر اليوم غارقة في بحر من المشكلات، ونظامها السياسي تجمد وجمّد شعبها.. وهوغير مؤثر لا في المنطقة العربية ولا في خارجها.. وحال مصر النظام لا يختلف كثيرا عن حال معظم الأنظمة العربية.. ولهذا ينظر كثير من المصريين والعرب إلى شافيز في فينزويلا وأردوغان وصحبه في تركيا كنماذج تحافظ على كرامة شعوبهم وسمعة دولهم في العالم.. بدأت فكرة أن "العرب يكرهون مصر" مع زيارة الرئيس السابق أنور السادات إلى الكيان الصهيوني وتوقيعه اتفاقيات كامب ديفيد. أي أن الكراهية نتيجة مباشرة لنوعية السياسات المصرية التي بدأها السادات واستمرت حتى اليوم. فكيف يمكن تصور أن تحظى السياسة الخارجية المصرية بدعم العرب وهي التي انفردت في ابرام صلح مع الكيان الصهيوني حيّد الكثير من الأدوار التي كانت مصر تقوم بها وقيد يدها في كثير من المجالات.. كان من الممكن أن يُوقّع النظام الصلح الذي يريد لكن دون التخلي عن الدور التاريخي والطبيعي لمصر في المنطقة.. فالصلح الحقيقي لا يعني أن تقف مصر عاجزة عن احتلال لبنان بالكامل في الثمانينيات، ولا أن تتحول مصر إلى مجرد وسيط بين الإسرائيليين والفلسطينيين خلال مرحلة أوسلو وما بعدها، ولا يعني الصلح صمت مصر حيال حصار العراق في التسعينيات ثم احتلاله، ولا يعني ترك السودان لمشكلاته كما نرى اليوم.. هذه حقيقة التي لا يجب أن نتجاهلها. ومن هنا فالكراهية الموجودة الآن هي في حقيقتها كراهية للنظام وممارساته وليس للشعب.. وهذا لا ينفي أن كراهية هؤلاء للنظام امتدت وأثّرت في الشعوب.. فالبعض ينتقد المصريين ويحملونهم مسؤولية السكوت على ما فعله السادات.. كما أن نجاح الحكومة – وبعض المثقفين - في اقناع بعض المصريين بما أطلق عليه السلام مع "إسرائيل" أثّر بالسلب وخاصة بعد أن دُفع المصريين دفعًا إلى الإنكفاء على الذات وعدم الاهتمام لا بالسياسة ولا بالشأن العام. وقد فاقمت وسائل الإعلام التجارية وغير المهنية هذه الأمور وعملت على ترسيخ حالات الإنقسام والتشرذم العربي على المستوى الشعبي، وتسطيح عقول الناس وإلهائهم في قضايا تافهة وهامشية.. والشعب المصري في هذا لا يختلف عن معظم الشعوب العربية الأخرى، بل لا أبالغ إن قلت أن حالة بعض الشعوب العربية أسوأ من حالة المصريين.. في زماننا هذا يمكن التصدي لهذا الأمر من خلال الإعلام الهادف والمهني من صحف وفضائيات ودور نشر وإنترنت... غير أن هذا الإعلام الهادف يحتاج إلى حكومات وطنية مسؤولة أمام شعوبها تقف وراء هذا الإعلام وتدعمه. وفي ظل غيبة هذا النوع من الحكومات الآن، على أصحاب الثروات من الوطنيين الغيوريين على أوطانهم دعم هذا الإعلام الهادف وإنشاء قنوات وصحف مستقلة أو تمويل برامج محددة (أفلام ومسلسلات وبرامج وثائقية وتفاعلية ودعائية أو ملفات صحافية وغير ذلك) في الوسائل والأدوات الإعلامية القائمة. ويحتاج هذا الأمر، أيضًا، إلى نخب بديلة للطبقات فاسدة التي أنتجتها الحكومات وصارت ناقلا للأفكار الخبيثة التي تروج لكل الأفكار الضارة بدءًا من خدمة مصالح السلطة وبقائها وانتهاءً بترديد المقولات التي تُضعف رابطتي الإسلام والعروبة وكل القيم والمبادئ العليا للمصريين والعرب. المسؤولية التاريخية تحتم على كل من يُعمل عقله ويُعلي مصالح أمته أن يتقدم ودون انتظار لدعوة من هنا أو هناك للانضمام إلى هذه النخبة البديلة. ----- قسم العلوم السياسية – جامعة الإسكندرية www.abdelfattahmady.net