إن أصدقاء إسرائيل دعاة التطبيع ورجاله فى بلادنا المبتلاة بهم لا يحبون أن يذكر أحد أمامهم، سيرة عبدالوهاب المسيرى أو حامد ربيع أو جمال حمدان أو غيرهم من الكبار الراحلين أو الأحياء، لأنهم - بمجرد أن يحضروا سيرة، وفكراً - يكشفون عورة هؤلاء المطبعين وتهافتهم ويعلنون صراحة، ليس فحسب عن انحيازاتهم السياسية الصغيرة أو فقرهم المعرفى بل الإنسانى أيضاً، ويقدمون بتلك السيرة العطرة المعطاة درساً بليغاً للأجيال الجديدة من كتابنا وباحثينا وسياسيينا، أن ما ينفع الناس يمكث فى الأرض، وأنهم لذلك لا يمكثون، وأن جوائزهم (وتحديداً ما يسمى جوائز الدولة) ومناصبهم لن تفيد، لأنها بالأساس صدى لصراخهم ولسيادة روح وثقافة (الشللية) وليس لعلمهم أو إنتاجهم الأدبى والفكرى، وثانياً لأنها أتت من سلطة لا تحترم العلم والعلماء والأدباء الأصلاء، وتحتاج إلى من يشبهها، دوراً ومضموناً، ولذا كانت وكانوا لها تبعاً. على أى حال.. دعونا نعد إلى أستاذنا حامد ربيع، فمثله من العلماء الكبار هو الأخلد وفكره هو الأبقى. نعود إلى أستاذنا وإلى نظريته عن الأمن القومى الصهيونى، التى وضع لها ركائز ثابتة لا تتغير، وهى ركائز نحتاج إلى تذكرها اليوم، وسط الأمواج العاتية من التحولات فى المنطقة والعالم.. لقد ذكر حامد ربيع ست ركائز لهذا الأمن القومى الصهيونى، الأولى: مفهوم الاعتماد على الذات، والثانية: مبدأ الحرب المستمرة، أما الأربع الأخريات فبيانها كالتالى: الركيزة الثالثة: الحرب الوقائية الحرب القائمة أو المستمرة من جانب، ثم الإطار الضيق لأمن إسرائيل، بسبب أوضاعها الديموجرافية والجغرافية، كان لابد أن يقود فى لحظة معينة إلى تسرب مفهوم الحرب الوقائية، المتغير الأساسى هو ما يسمى الزمن العسكرى والقدرة والاستعداد لمواجهة احتمالات صدام مع العدو، فالزمن العسكرى دائماً كان فى صالح الجانب العربى وبصفة خاصة قبل 1967م، ومن ثم كان من الطبيعى - وقد سبق أن رأينا جوهر أن الفكر الإسرائيلى العسكرى يقوم على عدم الاعتماد إلا على النفس - أن تصوغ هذا البناء الذى فى جوهره الخروج على جميع مفاهيم التعامل الدولى فى تقاليده المعاصرة. والمتتبع لهذا المفهوم يجد أنه مر بعدة مراحل، ففى الخمسينيات كان يعبر عنه بالدفاع النشط، الذى يعنى تتبع أى محاولة لاختراق الحدود الإسرائيلية بالحساب المضاعف للدولة التى جاءت منها العمليات موضع الحساب، وفى مرحلة ثانية بدأ الحديث عن الضربة المجهضة، التى لا تعدو عملية محدودة فى أبعادها ليس لها من محور سوى القضاء على سلاح معين يمثل خطورة معينة، وهى النظرية التى طبقت فى تدمير المفاعل النووى بالقرب من بغداد (والتى ربما تطبق على إيران هذا العام 2009) ولكن فى لحظة ما ارتفع المفهوم فإذا به يصل إلى الحرب الوقائية التى تعنى شن حرب كاملة لمجرد التحرز والاحتياط إزاء خطر متوقع وهو ما حدث عام 1967م، ثم الحروب التى تلتها، خاصة حربى لبنان وغزة 2006 و2009. الركيزة الرابعة: توازن القوى وهنا يرى د.حامد ربيع أن حروب إسرائيل العدوانية فرضت عليها أن تكون ليست فقط فى حاجة إلى أداة دفاعية بل أيضاً يجب أن تمتلك أداتها جميع عناصر القدرة الهجومية، ومن ثم لابد أن يقوم الوضع الاستراتيجى لإسرائيل على توازن القوى، وأن يترجم إلى التفوق العسكرى الذى يسمح للقدرة الإسرائيلية بالتحكم فى جميع أجزاء المنطقة قتالياً. الركيزة الخامسة: الممارسة المضبوطة للعنف الاستخدام المقيد للعنف هو محور الحروب المحدودة للصهيونية منذ بدايتها بل عقب إنشاء إسرائيل حتى حرب 1956، إذ تعلمت أن تجعل حروبها دائماً بأهداف محددة سياسياً وعسكرياً. إن هذا يسمح لها بتكتيل كل قواها ثم باسترداد أداة العنف قبل أن تتطور العمليات العسكرية إلى ما لا يحمد عقباه. الركيزة السادسة: الاتجاه الاستراتيجى ناحية المياه ولو بالحرب المسلحة وهذا البعد الثابت فى الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية صار واضحاً بعد حرب 1948م، وهو ما طبق عملياً على حرب الجنوب اللبنانى والاستيلاء على مياه «الليطانى» ثم انتصار حزب الله واسترداده لهذا النهر ولباقى مياه الجنوب، وعلى بحيرة طبريا والجولان المحتل وعلى سرقة المياه الجوفية الفلسطينية وتسميم ما تبقى للفلسطينيين فى الضفة وغزة من آبار وأنهار. * هذه الركائز قدر لها أن تتغير على مستوى الشكل أو الآليات منذ إقامة هذا الكيان عام 1948 وحتى اليوم 2009 ولكنها ظلت ثابتة لا تتغير، على مستوى المضمون، إن الذى تغير فقط هو هذا الضعف والوهن الرسمى العربى، الذى أدى إلى انهيار كامل لمفهوم الأمن القومى العربى، الذى هو النقيض المباشر للأمن الصهيونى.