مرت علينا أمس الثلاثاء 12 مارس الذكرى التاسعة والأربعون لوفاة عملاق الأدب العربي وصاحب العبقريات الأستاذ عباس محمود العقاد (رحمه الله) دون أن تهتم بها وسائل الإعلام المصرية، في ظل احتفاء الصحف العربية بذكراه، والعجيب أن صحيفة الأهرام بجلالة قدرها لم تنشر عن ذكراه إلا سطرين اثنين، وهما: (بمناسبة ذكرى رحيل عملاق الأدب العربى عباس محمود العقاد يذيع البرنامج الثقافي 1.05 بعد منتصف الليل برنامجًا خاصًا عنه كتبه وأخرجه محمد على الشرقاوى وبطولة عبدالمنعم أبو الفتوح وعبدالله إسماعيل). لقد رحل العقاد عن عالمنا يوم 12 مارس 1964م ، وهو يمثل قيمة علمية، وقامة أدبية وفكرية، للعرب والمسلمين. وجهوده فى إثراء الثقافة العربية، وفى عرض حقائق الإسلام بصورة تتفق وروح العصر الذي عاش فيه، تمثل زادًا مهمًا تنهل منه الأجيال المتواترة على مر العصور. والحديث عن العقاد في هذا التوقيت الذي تمر فيه البلاد بمنعطف خطير، وتشهد فيه الساحة السياسية مواقف أظهرت الغث من السمين، وكشفت عن زيف كثير من قيادات سياسية وأسقطت القناع عن عديد من النخب التي تتصدر المشهد الحالي من الأهمية بمكان؛ فما أحوجنا الآن ونحن نحتفي بذكرى رحيل العقاد أن نستلهم مواقفه التي ضرب بها أعظم الأمثلة في الوطنية المخلصة بعيدًا عن التحزب والتعصب والتشرذم والأنانية السياسية، فكان رحمه الله نموذجًا في حرصه على إعلاء مصالح الوطن ووضعها فوق كل اعتبار.. متجردًا عن كل المطامع الدنيوية. والحديث عن جهود العقاد في ترسيخ معالم الوسطية الإسلامية، وتقديم القدوة الصالحة للمجتمع الذي كادت أن تغيب فيه القدوة من خلال سلسلة العبقريات حديث طويل؛ فلقد استطاع أن يضع الإسلام فى سياق عصره، وكان سباقًا بفكره وسابقًا لعصره؛ إذ تميزت كتاباته بقوة الحجة، ووضوح الفكرة، وروعة الأسلوب، وجزالة اللفظ، والوصول إلى المقصود من أيسر طريق، بأسلوبه السهل الممتنع (سهل على الأفهام ممتنع من التقليد). ومما ساعد العقاد على ذلك أنه قرأ الثقافة الغربية قراءة متعمقة وواعية واستطاع هضم الفلسفات القديمة والحديثة، واهتمامه بالآداب العالمية والأدب العربى القديم والحديث، وكان للعقاد صبر غريب على مطالعة أمهات الكتب ولا يضيق بقراءة القديم منها فاستطاع أن يسبر أغوراها، فكان له مدرسته الأدبية ومذهبه الفلسفي الذي مكَّنه من الدفاع عن الإسلام دفاعًا أصيلًا تفرد به في عصره، وعلى عكس غيره من الكُّتاب فقد كان العقاد مخلصًا لفكره وقلمه.. وكان يقول ما يعتقد ويعتقد ما يقول، فلم يكن يشغله شيء سوى الدفاع عن الحق والوصول للحقيقة.. الحقيقة الخالصة بعيدًا عن إغراءات المناصب أو البحث عن الجاه أو المال.. وقد عُرض عليه الكثير من المناصب العلمية والأدبية، فكان ينأى بنفسه وقلمه عن كل المغريات والمتع الزائفة مؤمنًا بأن قيمة الشيء في نفسه لا فيما يقال عنه، وأن العبقرية قيمة في النفس قبل أن تبرزها الأعمال ويُكتب لها التوفيق، وهي وحدها قيمة يُغالِي بها التقويم، وعاش مؤمنًا بحرية العقيدة وحرية الفكر وأن الفكرة لا تقاوم إلا بالفكرة (لا بالعنف) فكان كحجة الإسلام أبى حامد الغزالي الذي استطاع أن يثبت تهافت الفلاسفة بفلسفة هي أمضى من فسلفتهم، وبحجة هي أنصع وأقوى من كل حججهم. كتب العقاد عن تاريخ الثقافة العربية مؤكدًا فضل العرب وأثر حضارتهم فى التاريخ الأوروبى الحديث، كما دافع -رحمه الله- عن الحضارة الإسلامية وكان يؤمن أن هذه الحضارة قد حفظت لكل أمة تحضرت بها "كيانًا" لا يسهل هضمه وإدماجه فى كيان آخر أجنبى عنه، وهذا الكيان القوي هو الذي وقف في وجه الاستعمار حيث كان واستفاد منه المسلمون وغير المسلمين، لأن الاستعمار بكل أشكاله خطر على جميع الأمم بغير فارق بين الأديان والأجناس. وكان يرى للغة العربية مزايا تجعلها ترجح على غيرها من اللغات، ومنها: مزايا التعبير الشعري، وكان الجاحظ يرى انفراد اللغة العربية بعلم العَرُوض، أما عند العقاد فهي لغة شاعرة، ولا يكفي أن يقال عنها إنها لغة شعر، والفرق عنده بين الوصفين أن اللغة الشاعرة تصنع مادة الشعر وتماثله فى قوامه وبنيانه، إذ كان قوامها الوزن والحركة، وليس لفن العَرُوض ولا لفن الموسيقى قوام غيرها. لقد استطاع العقاد أن يبرز عظمة الدين الإسلامى من خلال عقد المقارانات بينه وبين الأديان الأخرى وفي نفس الوقت استطاع أن يُظهر احترامًا كبيرًا لأصحاب تلك العقائد، مع البعد عن الجدل العقيم، الذى لا يُفضى إلا إلى خلق الكراهية والحقد والضغينة والشحناء بين أتباع الديانات المختلفة –وتلك معادلة صعبة قلما تتحقق في كثير من دراسي علم الأديان- وأكد العقاد على أفضلية الإسلام؛ لشموله لمطالب الروح وارتقاءه بالعقائد والشعائر فى آفاق العقل والضمير، وخلوص هذه العبادات والشعائر من شوائب الملل الغابرة. وأن العقيدة الإسلامية تُريح الضمير فيما يجهله الإنسان من شئون الغيب وأسرار الكون التى لا يحيط بها عقله المحدود، ولا تبديها له ظواهر الزمان والمكان. ويرى العقاد أن شمول العقيدة الإسلامية هو الذى يعصم المسلم من الفصام الروحانى، وهو الذى يعلمه أن يرفع رأسه حين تدول دولته أمام المسيطيرين عليه، وهو الذى يحفظ كيان الأمم الإسلامية أمام الضربات التى تلاحقت عليها على مر العصور، وكان يرى أن ادراك هذا الشمول لا يتأتى بغير الدراسة الوافية والمقارنة المتغلغلة فى وجوه الاتفاق ووجوه الاختلاف، بين الديانات وبخاصة فى شعائرها ومراسمها التى عليها المؤمنون فى بيئاتهم الاجتماعية. وكان العقاد –الذي استطاع أن يُعلم نفسه بنفسه- يتابع كل ما يُكتب عن الإسلام والحضارة الإسلامية فى الثقافة الغربية بعين الناقد البصير، وكان يرى أنه من حق المسلمين –بل من واجبهم- أن يعرفوا كل قول من تلك الأقوال بقيمته وقيمة من يصدر عنه؛ لأننا قد نعرف أنفسنا من شتى نواحيها،كلما عرفناها كما ينظر إليها الغرباء عنا، وعرفنا مبلغ الصدق والفهم فيما يصفوننا به عن هوى وجهالة، وعن دراية وحسن نية. إن اسهامات العقاد -الذى لم يحصل على الدكتوراه أو على درجة علمية أخرى، سوى الشهادة الابتدائية- كثيرة فقد تجاوزت مؤلفاته المائة كتاب، بالإضافة إلى مقالاته التى تبلغ نحو ستة آلاف مقالة.. لقد ملأ العقاد الدنيا وشغل الناس، ملأ الدنيا بكتاباته ومؤلفاته، وشغل الناس بفكره وعلمه. وقد نال حظًا وافرًا من البحث والدراسة، فهناك أكثر من خمسين رسالة ماجستير ودكتوراه تناولت الجوانب المختلفة للتراث (الفكري والديني والأدبي والفلسفي..إلخ) الذى خلَّفه العقاد لنا. وهكذا تميز العقاد بالفهم العميق والتحليل الدقيق ومهارته في ربط العلم بالواقع، وتجرده وإخلاصه لوطنه والدفاع عنه، وخصوبة ما خلَّفه من تراث علمي وحضاري؛ تنهل منه الأجيال المتعاقبة جيلًا بعد جيل. ولاشك أن هذا كله هو سر بقائه بيننا إلى الآن وسيظل علمه ينبض بالحياة وكتاباته شاهدة على نبوغه وتفرده.. كلية اللغات والترجمة – جامعة الأزهر [email protected]