ميشيل كيلو مفكر سوري من طراز رفيع المستوى، يكتب ويحاضر، ويشارك في الندوات والمؤتمرات الفكرية والثقافية والسياسية داخل بلاده وخارجها منذ نصف قرن تقريباً؛ مدافعاً عن الحريات العامة، مطالباً بالإصلاح والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ظل منذ شبابه الباكر حتى اليوم يحلم بالساعة التي تشرق فيها شمس الحرية والوحدة والديمقراطية على جميع البلدان العربية من المحيط إلى الخليج. وكلما تقرأ له، أو تستمع إلى حديثه في ندوة أو مؤتمر يزيد اقتناعك بأنه واحد من رواد الفكر الإصلاحي ليس في سوريا الحبيبة وحدها، وإنما في العالم العربي كله. لم أصدق نبأ قيام السلطات السورية باعتقاله ظهر يوم الأحد الماضي 14/5 تمهيداً لإحالته إلى المحاكمة بتهمة توقيعه على بيان أصدرته مجموعة من النشطاء اللبنانيين والسوريين عن أبعاد الأزمة الراهنة في العلاقات السورية اللبنانية وكيفية الخروج من المأزق الذي وصلت إليه هذه العلاقات، والدعوة إلى تصحيح العلاقة بين البلدين، فيما رأى بعض المراقبين أن توقيفه تم بناء على مقالات كتبها في الآونة الأخيرة. وجاء في نبأ بثته وكالة الأنباء الإيطالية، أن قاضي التحقيق السوري وجه تهماً لميشيل كيلو هي"النيل من هيبة الدولة، وإثارة الفتنة الطائفية، والانتساب إلى جمعية محظورة ذات صلات بالخارج، والمس بأمن الجيش". هكذا دفعة واحدة. وأكّد د. عمار قربي رئيس المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان في سورية ل (آكي وكالة الأنباء الإيطالية) أن قاضي التحقيق (رغيد توتنجي) أصدر قراراً بتوقيف كيلو، وإحالة ملفه إلى القضاء. وبهذه الحالة سيمثل كيلو أمام القاضي في فترة تحدد لاحقاً. ووفقاً لما قاله عمار قربي فقد وجه القاضي لميشيل كيلو تهماً تندرج تحتها أفعال مثل "إضعاف الشعور القومي إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية نشر أخبار كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن تنال من هيبة الدولة أو مكانتها الذم والقدح بحق رئيس الدولة أو المحاكم أو الهيئات المنظمة أو الجيش أو الإدارة العامة أو موظف ممن يمارسون السلطة العامة من أجل وظيفته أو عمله". عندما قرأت تلك الاتهامات ضربت كفاً بكف وقلت: سبحان الله ! هل يمكن أن يكون هذا صحيحاً؟ هل قصد قاضي التحقيق شخصاً آخر غير الأستاذ ميشيل كيلو؟ أهكذا تقلب الأمور رأساً على عقب، فلا يكاد المرء يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ ولمصلحة من يحدث هذا؟ إن من يقرأ مقالات الأستاذ ميشيل كيلو أو يستمع إلى محاضراته ومشاركاته الفكرية بما في ذلك مشاركات كانت تبثها الفضائية السورية حتى وقت قريب ، لا يملك إلا أن يشهد له بأصالة الفكر، وصدق الوطنية، وحرصه إلى حد الإفراط على كل ما يدعم الوحدة الوطنية ويقوي الشعور بالعزة والكرامة الوطنية، ويدهشك عشقه إلى حد الهيام بالعروبة والإسلام؛ أجل: أقول هو عاشق للعروبة والإسلام وحضارته وتراثه المجيد، بل إن له تحليلات وأفكار في خدمة العروبة والإسلام لا تجدها عند كبار المنتسبين إليه. أحاديثه ومقالاته ومحاضراته تقول شيئاً آخر مثير للانتباه هو أنه من غلاة الكارهين الرافضين للتدخل الأجنبي في شئون بلاده سوريا خاصة، وجميع البلدان العربية عامة، حتى ولو كان ذلك تحت زعم الإصلاح والتحول الديمقراطي وحقوق الإنسان. ولديه إيمان عميق لم تزحزحه المحن وسنوات الاعتقال التي قضاها في سجون النظام السوري بأن الخير كل الخير في داخل البلاد وليس في خارجها ، في قلوب الناس الطيبين من أهل بلده، وليس في قلوب المتغطرسين والمستكبرين من أمثال الرئيس بوش وحلفائه الدوليين. ليس لدي ميشيل كيلو ذرة ثقة في أن القوى الأجنبية تريد خيراً بالشعوب العربية والإسلامية. هو متيم بحب سوريا وشعبها العظيم. تحدث مرة عن رفضه شراء "بدلة "، أو "حذاء" من صنع إحدى الدول الأجنبية، وراح يتغزل في صناعة الملابس السورية، وأخذ يشرح كيف أنها أجود وأرخص، وأجمل من غيرها، وأن الأقمشة التي غزلتها وصبغتها وحاكتها اليد السورية الكادحة تنضح على جسده رفقاً وحناناً، وأنها تحبه ويحبها، وتحدث عن حلمه بأن يرى سوريا محررة من الاحتلال الإسرائيلي الجاثم على صدر الجولان وفلسطين ومزارع شبعا. تحدث عن معنى الحرية وكيف أنها في جوهرها تعبير عن نضج روحي يمكن الإنسان من قهر أنانيته والانتصار عليها، وإنه إذا لم يتشبع وعي الإنسان بهذا المعنى العميق للحرية فلن يمكنه إدراك معناها ولا معرفة قيمتها، ولا حتى الاستفادة منها في حياته. تحدث عن هذا وعن العدالة، والمساواة، وحرمة الجسد الإنساني، وروعة الحياة التي تغذيها نسائم الحرية، وعبق التاريخ الذي يتنفسه في أزقة وحواري دمشق/الشام وأسواقها ومساجدها وكنائسها. أنا حزين لنبأ اعتقال ميشيل كيلو، ولا أملك إلا الدعاء له بالصبر، ولقاضيه أن ينور قلبه بنور العدل. [email protected]