المشهد الذي رآه الملايين في مصر والعالم أمس لقوات الشرطة وهي تسحل أحد المتظاهرين في محيط قصر الاتحادية بعد أن عرته تمامًا من ملابسه كما ولدته أمه، ثم سحلته على الأسفلت يمينًا وشمالًا وجذبًا من أرجله تارة ومن يده تارة وركله ببيادات الجنود وضربه بالعصا وتركه في حالة فزع يجري عاريًا في الشارع قبل إعادته للسحل من جديد، هذا المشهد المروع سيظل محفورًا في مخيلة الملايين لأشهر طويلة، ولن يُنسى بسهولة، ويمكن أن يدافع أنصار الرئيس مرسي عما حدث بكلام طويل وعريض ويمكن أن يكتب الكاتبون مجلدات من الشروح والتفاسير والتبريرات، ولكن كل هذا لن يغير من فظاعة المشهد ودلالاته والترجمة السياسية له في الداخل والخارج والتي ملخصها "هكذا يفعل حكم الإخوان في المعارضين"، لن يتحدث أحد عن جنود أو عن ضباط، ولن يتوقف كثيرون عند وزير أو مسؤول، وإنما الترجمة السياسية البديهية هي تحميل "نظام حكم" مسؤولية هذا المشهد، والذي يعبر عن احتقار لآدمية المواطن وجرأة غير مسبوقة على التنكيل بمعارضي السلطة، أيًا كان سلوكهم وأيًا كان خطؤهم أو صوابهم وحتى لو كانوا مجرمين، الرأي العام المحلي والدولي استقبل الإشارة أمس بوضوح، وتساءل إن كان هذا ما حدث في الشارع وأمام الكاميرات فما الذي يمكن أن يفعلوه في المكاتب المغلقة بعيدًا عن الكاميرات، وإذا كان هذا يحدث بعد ستة أشهر فقط من الحكم فكيف بعد ست سنوات يكون الحال؟ وأخطر من مجرد إدانة الصورة لنظام حكم الرئيس مرسي أنها تعطي تفسيرًا للعالم لأسباب توجه قطاع من المتظاهرين إلى العنف واستخدام الحجارة وزجاجات البنزين، لأنهم يواجهون ممارسات قمعية ومذلة من جهاز الشرطة، لقد جاءت الواقعة المروعة بعد ساعة واحدة من تصريح عنتري للمتحدث باسم الرئاسة يقول فيه إن التوجيهات صدرت للشرطة والأمن باستخدام "الحسم الشديد" ضد المتظاهرين، وأتى ذلك المشهد لكي يكشف للعالم نتيجة "الحسم" الذي أمر به رئيس الجمهورية أجهزة أمنه. عبثًا نحاول على مدار الأيام الماضية أن ننبه الرئيس وجماعة الإخوان أن الأزمة ليست أمنية، ويستحيل أن تعالجها أمنيًا، عبثًا نحاول أن نفهمهم أن هذا السلوك المتعالي مع الأحداث وتطورها مغبته وخيمة، عبثًا نحاول أن نفهمهم أنه لو كان الأمن منقذًا لنظام لأنقذ مبارك وبن علي، وعبثًا قلنا لهم إن هذا طريق "موحل" وأنه كلما أوغلت فيه كلما انغرست في الوحل أكثر، ما لم تكن لديك الجرأة والشجاعة لاتخاذ حزمة إجراءات وإصلاحات سياسية عاجلة تحقق شراكة وطنية حقيقية وليست ديكورية، فهذا وحده الذي يرفع الغطاء عن العنف والمستفيدين منه، عبثًا نحاول أن نوصل رسالة للرئيس الذي انتخبناه ودعمناه أن استعجال الجماعة في "التكويش" خطأ فادح وأن الجماعة بتدخلاتها عبء حقيقي الآن عليه وعلى المشروع الإسلامي كله، وأن من الأدبيات التي تربينا عليها "من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه"، وأن القوى السياسية في المعارضة تفتح عينها جيدًا على كل سلوك تم في الفترة السابقة من الرئيس و"جماعته"، وأن تلك القوى لا تمارس السياسة وفق نظريات "إحسان الظن بأخيك"!، ولن تسمح لك بأن "تلتهم" الكعكة وحدك أو تجلس على "القصعة" وحدك وفي هدوء وتدريجيًا حتى تنتهي من كل شيء، لن يسمحوا لك بذلك، هم يفهمونك جيدًا، هم كما يقول العامة "عاجنينك وخابزينك"، ويعرفون كيف تخطط الآن وكيف "تتكتك"، سينغصون عليك عيشك وسلطانك ويهزون أركانه بعنف، هم لن يمارسوا العنف صراحة لكن مواقفهم وغضبهم سيشكل تلقائيًا غطاءً لدوامات من الغضب والعنف المتتالي في الشوارع والميادين وبلا أي سقف زمني، وأنت تشارك في منحهم هذا الغطاء للعنف بتصلبك وتشنجك ورفضك تقديم أي تنازلات أو مبادرات إصلاحية حقيقية وسريعة وإقناع الجميع بأن الوطن شراكة وليس غنيمة، التصريحات الإعلامية التي صدرت من متحدثين باسم الجماعة والحزب عبر الفضائيات أمس تعليقًا على واقعة السحل ذكرت الناس بنفس المزيج من المراوغة والجليطة والكبر الذي كانوا يسمعونه من صفوت الشريف وأحمد عز وجمال مبارك، والمتحدث باسم رئاسة الجمهورية لما سألوه صبيحة الواقعة عما ستفعله الرئاسة بشرنا بأن الرئيس سينظر في إمكانية تخفيف حظر التجول في مدن القناة!، عقل سياسي مغيب تمامًا عن إدراك عمق الأزمة والمخرج الحقيقي والجاد منها، وكل يوم يمر تخسر الجماعة ويخسر الرئيس من الشعبية والثقة في جدارتهم بإدارة شؤون مصر والعبور بها لبر الأمان، كل يوم يزداد انغماسهم في وحل سوء الإدارة والتخبط الأمني وتراكم الأخطاء، كل يوم يزداد إحباط الناس وقناعتهم بأنهم أمام تجربة فاشلة بدون أي أفق للخروج من النفق المظلم الذي دخل فيه الوطن، قل ما شئت في هجاء المعارضة وجبهة الخراب وجبهة الإغراق، حمل ما شئت من معارضيك وخصومك المسؤولية، ابتداءً من البرادعي مرورًا بالطليان والأمريكان وانتهاءً بضاحي خلفان، لن يغير ذلك كله من الناتج الإجمالي الذي وصل إلى المواطنين والعالم: إنهم أمام إدارة فاشلة ونظام حكم وضع البلاد على حافة الفوضى والانهيار. [email protected]