تكاد تكون مصر من أوائل بلدان منطقتنا التي عرفت الانتخابات في تاريخنا الحديث، إذ مضت قرابة 140 سنة على تأسيس «مجلس» أراده زعيمها الخديوي إسماعيل أن يكون بمثابة مؤسسة استشارية، ولكن غدت له صلاحياته البرلمانية الحديثة في مجال التشريع والرقابة بعد قرابة عامين فقط. وإذا كانت الفكرة الدستورية قد انطلقت من الإمبراطورية العثمانية في قانون خطي شريف همايون 1856، فإن مصر الخديوية أجرت أول انتخابات في 1866، وعليه، فإن مصر لها جذورها في الانتخابات التنافسية كونها إحدى أدوات الديمقراطية. وكما حدث في القرنين التاسع عشر والعشرين من املاءات خارجية حول الإصلاحات السياسية، تفرض اليوم املاءات مع اختلاف الأوضاع، وتعيش مصر اليوم في مناخ محتدم من التغيرات التي ستضعها على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة. ونحن نراقب حالات النضوج والانكسارات التي عاشها تاريخ مصر في مرحلتيه الاثنتين: المرحلة الملكية الدستورية والمرحلة الجمهورية العسكرية، نعم ان المصريين انتظروا «أكثر من قرن وثلث القرن، منذ أن عرفوا الانتخابات لأول مرة، لكي تتاح لهم فرصة انتخاب رأس دولتهم من بين أكثر من مرشح». وهنا أود أن اطرح بعض الأفكار التي اعتقد بأنها حيوية ونافعة للشأن المصري في الظرف الحالي، إذ اعتقد أن مصر وغيرها من البلدان العربية ستستفيد من تجربة العراق القاسية في التغيير، ليس من الأساليب التي اتبعّت، بل من قدرة مصر على تجاوز الصعاب بأساليب سلمية. ان التغيير الدستوري ان أراد الاخوة في مصر أن يجعلوه حقيقيا، فما عليهم إلا اتخاذ إجراءات جوهرية في إلغاء ما صدر من قوانين ليست (دستورية) حقيقية خلال المرحلة المنصرمة، ثم تحديد الصلاحيات وكيفية تحجيم ممارسة السلطة وتطوير تداولها، وحبّذا لو تحّول منصب الرئيس إلى قيمة رمزية فيجمع حوله الولاء ويكون فوق الميول والأحزاب والاتجاهات، وألا يكون مصدر التشريع في البلاد، ولا يكون الرئيس التنفيذي. هذا هو المطلوب من مصر أكثر من غيرها، فمسألة الانتقال إلى مرحلة تاريخية جديدة تكاد تكون أشبه بمخاض صعب ومؤلم، هذا إذا صدقت جميع القوى والحكومة في البدء بمشروع تغيير حقيقي وجديد يختلف عن كل مواريث أكثر من نصف قرن مضى من التسلط والاستبداد وحكم العسكر والطوارئ. حسناً أن يأتي قرار الرئيس مبارك في 26 فبراير الماضي من أجل تعديل دستوري لتغيير طريقة اختيار الرئيس من الاستفتاء على مرشح وحيد إلى الانتخابات لأكثر من مرشح! وتمخضت التجربة قبل أيام عن إرادة بالأكثرية لصالح التغيير ولكن وقفت المعارضة ضد ذلك طارحة أجندتها في التغيير بدل التعديل، ويبدو من مراقبة ما حدث. وعلى الرغم من انحسار المظاهرات في مكان وتدفقها في مكان آخر أنها أضعف من أن تسجّل إرادتها ضد ما يريده الرئيس مبارك حتى الآن، ولابد من القول أن الانقسام السياسي ليس في صالح مصر، وإذا كانت هناك رغبة رسمية لكي تكون هناك انتخابات عامة حرة، فحري بالنظام وبكل قوى المعارضة التنازل قليلا من اجل جمع كلمة مصر على أجندة تشريعية للبدء معا في تغيير سلمي لتاريخ مصر. وإذا كانت قوى التعديل قد فازت بما حصلت عليه من أصوات إزاء من عارض، فإن قناعة حقيقية لابد من ترسيخها في الضمائر المصرية قاطبة من أجل أن يكون التغيير حقيقة لا مناورة، وان أي تعديلات سوف لن تجعل مصر تسير في طريق جديد، وليدرك الزعماء العرب انه بقدر ما يسعون إلى التغيير بأنفسهم، فهم الذين سيفوزون في النهاية وستجعلهم شعوبهم قدوة لهم. إن المعارضين للتعديل بعد ان أقره البرلمان في العاشر من مايو الماضي يؤسسون على صعوبة الشروط التي وُضعت للترشح في الانتخابات الرئاسية، وتخليها عما هو ضروري لتنظيم عملية انتخاب الرئيس ووضع ضوابط موضوعية لها. انه من الصعب جدا على أي مرشح من خارج الحزب الوطني الحاكم تلبية هذه الشروط التي تلزمه ان يحصل على تأييد لترشيحه من 250 عضواً في المجالس المنتخبة (مجلسا البرلمان والمجالس المحلية). وإذا كان المشرّع قد استثنى الأحزاب السياسية من هذه الشروط في الانتخابات المقبلة فقط، فإن هذا لا يكفي لإجراء انتخابات تنافسية حقيقية. ويرى معارضون ان هذا التعديل سيؤدي إلى تصاعد الضغط الأجنبي على مصر. إذ يذكرنا هذا بملاحظات كوندوليزا رايس بضرورة إجراء انتخابات رئاسية تنافسية في مصر، وصرامة الرئيس بوش في خطابه الذي ألقاه في السابع من مايو الماضي، إذ تحدث عن «ضرورة إجراء انتخابات رئاسية حقيقية تتفق مع القواعد المستقرة في هذا المجال وفي ظل وجود مراقبين دوليين». وهي سابقة خطيرة في فرض أجندة دولية على سيرورة التغيير الديمقراطي في مصر نظرا لتأثيرها في المنطقة في اتجاه الديمقراطية، ولتكن تلك «السيرورة» على نمط غير الذي جرى في العراق. وآخر ما يمكنني قوله بأن مصر بحاجة ماسة إلى التغيير وان تخطو للعبور حقيقة نحو تاريخ جديد بعد أكثر من نصف قرن من غياب الليبرالية. صحيح أنها صاحبة بصمات تاريخية من التأثير والمتغيرات لقضايا متنوعة وأحداث دراماتيكية، ولكنها بحاجة ماسة إلى أن تفتح تاريخاً جديداً من التحولات الليبرالية الوطنية في كل ميادين حياتها، وان تغدو صاحبة مشروع حضاري ونهضوي كالذي عرفته في مراحل متنوعة من تاريخها الحديث.