هو سياسي نزيه عائد الينا من الماضي الجميل.. من زمن النقاء والشفافية وطهارة اليد التي كانت تبني وتعمر ولا تسطو على أموال وحقوق الشعب. عندما صار وزيرا اضطر إلى أن يبيع أرضه التي ورثها عن أسرته، لأن راتبه كوزير لم يكن يكفي مصاريف عائلته. كان يحرص على ألا يتفوه أحد بكلمة من بعيد أو قريب تمس نزاهته واستقامته بل وكان أيضا يتعفف عن أن يمد يده للآخرين.وشتان بين عصره الذي كان فيه الوزراء يخرجون من الوزارة وهم مفلسون، وبين الحاضر الذي يتباهى فيه أحد الوزراء علنا بأنه يملك أربعة قصور في وقت يستيقظ فيه معظم أبناء شعبه مبكرا للوقوف في طوابير الخبز. القادم الينا.. هو الدكتور عزيز صدقي أبو الصناعة المصرية الذي دشن في الرابع من يونيو الجاري مع حشد من الشخصيات المصرية حركة وطنية تسمى بالتجمع الوطني للتحول الديمقراطي، هدفها الدعوة إلى الإصلاح واعداد دستور جديد للبلاد ووضع برنامج لتشغيل الطاقات المعطلة في الاقتصاد المصري ومواجهة الفساد. هذا الرجل كثيرا ما كشف عما يجيش في صدره بسبب الأوضاع الحالية التي تعيشها أرض الكنانة. كان يقول: «أنا حزين على ما يحدث في مصر. . كانت أسعد لحظاتي في الماضي عندما كنا نشاهد افتتاح مصنع جديد.. والآن يتم بيع كل شيء. . أنا الآن رجلي والقبر، لا أخاف من أحد ولا أعرف الخطوط الحمراء ولا البيضاء، وأقول لكم الكذب لا ينفع والبكش لن يبني مصر». دكتور صدقي لا يرى سعادته الا فيما تم انجازه في الماضي الجميل، وهو يفخر وهذا حقه بأنه وضع «طوبة» كما يقول في بناء وطن خاض معارك سياسية للتحرر من التبعية وأقام صرحا صناعيا هدمه فيما بعد الانفتاحيون والانتهازيون الذي طمسوا الحقائق عن الشعب ووصفوا فترة الستينات بعصر اشتراكية الفقر. (ولتذكرة الغافلين الذين تحمسوا لعصر الانفتاح السداح مداح، كان في زمن اشتراكية الفقر فائض في رغيف الخبز يبقى في محلات البقالة ليباع في اليوم التالي بأقل من سعره. كان خريج الكليات العملية له مكان وظيفي محجوز له منذ التحاقه بالجامعة، وكان راتبه الصافي الذي لا يصل إلى 18 جنيها شهريا يكفيه ولا يستدين من أحد. كانت الكليات العسكرية مفتوحة لأبناء السعاة والفلاحين والعمال وليست محجوزة لأبناء الحسب والنسب. وإجمالا توافر لمصر في زمن اشتراكية الفقر مخزونا استراتيجيا من السلع التي كانت دعامة لمصر خلال حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر المجيدة». عزيز صدقي.. بالتأكيد يعتز ونعتز معه بما يسمونه بعصر اشتراكية الفقر، فقد أسس مع بداية ذلك العصر وزارة الصناعة المصرية عام 1956، عمل وزيرا للصناعة وعمره 36 عاما. وخاض سباقا مع الزمن كان من ثماره إنشاء ألف مصنع على رأسها مجمع الحديد والصلب ومصنع الألمونيوم. كما أنتجت مصر سيارة ( رمسيس) الصغيرة وعندما طلبت القوات المسلحة المصرية سيارة نصف مجنزرة، تم إنتاج عينة منها بعد ستة أسابيع من الطلب. ما تحقق من انجازات صناعية في بلد وصف بأنه دولة زراعية، كان أشبه بمعجزة، والسبب هو حماس القيادة المصرية في ذلك الوقت للتخلص من مقولة أن مصر بلد لا يصلح إلا للزراعة. ولا ينسى د. عزيز صدقي إحدى مناسبات افتتاح أحد مصانع الحديد والصلب التي حضرها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، فقد قال له: «يا عزيز نحن لن نعيش كثيرا، أريدك أن تعمل أقصى ما في وسعك وتقيم مصانع عديدة من أجل الشعب الذي وثق بنا «. كان هناك لبنة صناعية يمكن تطويرها وتحديثها، بل وبشهادة المؤسسات الاقتصادية الدولية، كانت مصر وكوريا الجنوبية في الستينات في مرتبة اقتصادية متساوية، أو كما يقال كلاهما كتفا بكتف. تاريخ عزيز صدقي المشرف الذي تؤكد سطوره أنه بالفعل رائد أو قائد النهضة الصناعية في عصر ناصر، هو السبب الذي دفع الرئيس الراحل أنور السادات إلى أن يختاره رئيسا للوزراء في عام 1972. السادات بحنكته السياسية كان حريصا منذ أن اعتلى السلطة على أن يختار بجانبه الشخصيات التي لها رصيد كبير لدى الجماهير. فاختار في البداية الدكتور محمود فوزي مايسترو الدبلوماسية المصرية خلال السنوات الأولى للثورة لرئاسة الوزارة إدراكا منه بأنه يحظى بإعجاب وتقدير الشعب المصري رغم أنه تخصص في الشؤون الخارجية ولم يشغل منصبا يتعلق بمشاكل وقضايا الداخل. وعندما خرج د. فوزي من الوزارة بحكم السن سارع السادات إلى اختيار عزيز صدقي صاحب البصمة المميزة في الصناعة المصرية وكان السادات على يقين بأنه اختيار موفق لثقته في قدرات د. صدقي الذي وان كان لم يعمر طويلا في الحكومة، الا أنه كان بإجماع الساسة الذين تابعوا انجازاته أفضل رئيس وزراء عرفته مصر على مدى الثلاثين عاما الماضية وأهم انجازاته كانت اعداد الجبهة الداخلية لحرب اكتوبر 73. كان الرجل صارما وحازما في اتخاذ القرارات في فترة توصف بأنها عصيبة، وهي فترة ما قبل حرب أكتوبر، وكان يحرص على أن يتحدث إلى الشعب المصري كل شهر ليعرض ما حققته حكومته خلال ثلاثين يوما، ولذلك كان قريبا من شعبه. ولكن صدقي بالنسبة لفكر السادات الانفتاحي، لم يعد مناسبا لمرحلة ما بعد أكتوبر 73، مرحلة الانفتاح الذي كان استهلاكيا وليس انتاجيا. ولذلك فقد تراجعت بعد خروج صدقي من الوزارة مسيرة التصنيع التي كانت في حاجة إلى تحديث وتطوير وتنمية للمواهب وتدريب للكوادر. ويقول الدكتور صدقي أنه يوم أن تقرر الانفتاح ثم الخصخصة حجبت الاستثمارات عن القطاع العام وتحولت القلاع الصناعية إلى خردة. ثم يتساءل في حسرة «أين ذهبت حصيلة بيع القطاع العام التي قالوا أنها 14 مليار جنيه رغم أن قيمته الحقيقية تزيد على مئة مليار»؟! صدقي انتقد بيع شركات القطاع العام، واصفا عمليات البيع بأنها تخريب لمصر ولقوتها الاقتصادية، وضرب المثل في ذلك بشركة قها للصناعات الغذائية التي تخلت عنها الدولة ثم استوردت أحد منتجاتها من كندا - وهو الفول - وطردت العمال. ويقول صدقي بحسرة وتهكم: هل جاء اليوم الذي نستورد فيه الفول من كندا ؟! واقعة أخرى تزيد من دهشة الدكتور عزيز صدقي مما يراه، تحدث عنها في العام الماضي خلال الاحتفالات بمرور 52 عاما على قيام ثورة 23 يوليو، فقد قال: » لقد تعجبت من أن الدولة تستقدم أحد الخبراء من عرب شمال أفريقيا لتحديث الصناعة المصرية رغم أن مصر بها العديد من الخبراء، وعندما استفسرت علمت بأنه كان مطلوبا أن يكون المسؤول عن تطوير الصناعة غير مصري، ثم قابلت هذا الخبير العربي وقلت له أن بلده بها مجموعة من المصانع لا تملأ عنبرا واحدا من مصانع المحلة الكبرى»! يرى الدكتور عزيز صدقي أن الأزمات الاقتصادية التي تعيشها مصر الآن لم تحدث من قبل في العهود السابقة حتى في حالات الحرب. يقول أن هناك 15 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر وأن نسبة محدودي الدخل تصل إلى 95% من الشعب، بينما تشتري الحكومة سيارات مرسيدس لموكب الوزير. وقبل تولي الدكتور أحمد نظيف رئاسة الحكومة، طالب الدكتور صدقي بتقديم الدكتور عاطف عبيد رئيس الوزراء السابق للمحاكم بسبب فشل سياساته وقال وقتها: لو كنت رئيسا للوزراء وأخطأت، فمن حق الشعب أن يحاسبني. يرى الدكتور عزيز أن حجة تزايد السكان في مصر غير مقبولة، فالصين تزيد بالملايين شهريا، ومع ذلك نجحت في بناء اقتصادها وزاد فيها معدل النمو، لأن الحل ليس خفض الإنجاب وإنما زيادة عدد المصانع واستغلال الأيدي العاملة لزيادة الإنتاج. أخطر وأهم ما قاله الدكتور صدقي وما زال يتردد على الألسنة، هو تهريب 200 مليار جنيه إلى الخارج ، وهو رقم ان كان صحيحا فهو كفيل بانتشال مصر من أزماتها الراهنة. --- صحيفة البيان الاماراتية في 15 -6 -2005