لا يمكن أن تخطئ العين المراقبة لتتابع الأحداث ولسير الوقائع في مصر طوال الأشهر القليلة الماضية أن تطوراً جديداً وقع أول أمس في ميدان لاظوغلي حيث تظاهر العشرات من سجناء الرأي والناشطون في جمعيات ومنظمات حقوقية لأول مرة قبالة مقري مباحث أمن الدولة ووزارة الداخلية. التظاهرة التي جاءت في اليوم العالمي لمناهضة التعذيب داخل السجون، لا تكتسب أهميتها الخاصة من كونها التظاهرة الأولى من نوعها في مصر ضد "التعذيب"، ولا من موضوعها، ولا من مناسبتها، ولا من الشعارات التي أطلقتها، ولكن تكمن دلالتها الرمزية في المكان الذي أتصور أن منظميها قصدوا عمداً أن تكون في أقرب نقطة ممكنة إلى مبنى وزارة الداخلية التي يطالبون بإقالة وزيرها، وبجوار مقر مباحث أمن الدولة المتهمة بالمسئولية عن وقائع التعذيب في السجون المصرية. أقول ربما تكون هذه التظاهرة بدلالة المكان علامة فارقة في تاريخ طويل من السعي المتواصل من أجل الحرية، وأتصور أن تاريخ هذه المظاهرة سيكون له أهمية خاصة في التأريخ لهذه المرحلة، وتجئ أهمية ذلك التاريخ من جغرافيا المظاهرة التي دارت وقائعها تحت سمع وبصر كاميرات وزارة الداخلية المنتشرة حول مبنى الوزارة المطل على ميدان لاظوغلي بقلب العاصمة، وتحت سمع وبصر كاميرات الفضائيات العالمية، وفي الوقت نفسه لم تستطع أسوار الوزارة ولا بوابتها العالية أن تحجب أصوات المتظاهرين عن أسماع القابعين في المبنى الرهيب! اقتربت المظاهرة المطالبة بإقالة وزير الداخلية من مقر وزارته إلى الدرجة التي لم تكن متصورة قبل أقل من ثلاثة أشهر مضت، وكان في مكنة الوزير أن يرى المتظاهرين بنفسه، ولم يكن في حاجة إلا لأن يلقي نظرة خارج نافذة حجرة مكتبه- أو مكتب أحد مساعديه- ليرى بأم عينيه شبابا وفتيات وسيدات ورجالاً في منتصف العمر - ذاق أكثرهم ويلات التعذيب والاعتقال في عهود سابقة أو في عهد الوزير- ولسمع أصواتهم تهز الميدان بالمطالبة بإقالته، وتحمله المسئولية عن تحويل التعذيب الى ممارسة منهجية مطردة في أقسام ومراكز الشرطة وفي المعتقلات والسجون التي تشرف عليها وزارة الداخلية.. المكان كان هو البطل في مظاهرة الأحد الماضي حتى إن بعض المارين بجوار التظاهرة هاله أن يرى في مثل هذا المكان متظاهرين يحملون لافتات تسيء الى وزير الداخلية وكبار ضباطه، فتصور أنهم " مش مصريين"، لأنه لا يمكن لمواطن عادي مثله- يخشى في الأحوال العادية أن يتلكأ بجوار أسوار وزارة الداخلية- أن يتصور أن "مصريين" مثله تجرأوا على أن يأتوا الى هنا، وهنا بالذات لكي يرددوا هتافات لم توقر أحداً من كبار المسئولين، ثم انه لم يستطع أن يستسيغ فكرة أن تقف كل هذه الحشود من الضباط والجنود عاجزة عن أن تفعل شيئا في مواجهة متظاهرين يتطاولون على الباشاوات في ميدان لاظوغلي إلا إذا كانوا "مش مصريين"! والمراقب لما يجري في الشارع المصري سيلاحظ أن منطقة الصراع المخفية بين المتظاهرين والحكومة تتحدد في كسر حاجز الخوف عند المواطن العادي، خاصة بعدما استطاعت النخبة الرافضة لخطط أهل الحكم في الاستقرار والاستمرار أن تتخطى خطوطاً حمراء كثيرةً طالت موضوعات وأشخاصا ظلت لربع قرن خارج النقاش العام ، وكانت الجماهير بين مؤيد صامتة، أو متوجس خيفة من جسارة الذين تخطوا خطوط الحكومة الحمراء، وفي كل الأحوال بقيت خارج حلبة الصراع المحتدم بين النخبة التي خرجت على النظام وبين أهل الحكم المتمسكين بخططهم بدون أي تعديل ولو لموائمة المتغيرات التي تجري من حولهم! تتابع التظاهرات وتنقلها من مكان الى آخر هو محاولة لكسر حاجز الخوف السميك الذي يحيط بالناس في كل مكان، ما جعل وزارة الداخلية تتبنى استراتيجية حصر المتظاهرين داخل كردونات أمنية، وحصارهم بأطواق من رجال الأمن، وذلك لمنع اتصالهم بالجمهور، وللحيلولة دون أي تواصل بين مركز الدائرة - الذي تخطى الخطوط الحمراء- وبين محيطها الذي لم يعد يحمل وداً لأهل الحكم من طول البقاء ومن كثرة البلاء! المخططون للمظاهرات والمخططون للنظام يعرفون جميعا أن كسر دائرة الخوف هي الحلقة الأخيرة قبل أن تنقلب الأوضاع في وجه شرعية الاستقرار والاستمرار، ومما لا شك فيه أن خطوطاً حمراء كثيرة سقطت في الآونة الأخيرة، ولعل اختيار لاظوغلي كمكان للتظاهر- بما له من دلالة رمزية- يكون آخر علامات الطريق الحمراء التي اجتازتها حركة الساعيين الى الحرية!