زار عميد كلية الإعلام في إحدي الدول العربية مقار الصحف المصرية القومية وتحدث إلي قياداتها وعدد من محرريها وكتب يقول »رأيت صحافة قديمة في مبان حديثة«، وردد هذا القول علي شاشة التليفزيون المصري! في السنوات العشر الأخيرة صدر عدد كبير من صحف المعارضة والصحف المستقلة، وفسر ذلك وهو تفسير صحيح علي أن مناخ الحرية يسمح بذلك، ولكن نسي الجميع أو تجاهلوا عمداً أن الصحف القومية لم تعد تنشر كل الآراء، أو تتسع صفحاتها للمعارضين مثل المؤيدين، ومن هنا كان لابد أن يهرب أصحاب الآراء المخالفة إلي صحف جديدة تسمح بآراء معارضة. بل إن نشأة جماعات جديدة تطالب بالتغيير في كل المواقع إنما كان يرجع السبب في قيامها إلي الصحف القومية التي ضاقت بآراء تطالب بالتغيير. وهناك دليل يبين ذلك. بدأت تظهر في الصحف المعارضة والمستقلة مقالات تحت عنوان »المقال الممنوع«، وهي المقالات التي ترفض الصحف القومية نشرها لكتابها فكانوا يلجأون إلي نشر هذه المقالات في الصحف الجديدة. ولا يمكن أن ننكر أن سماح الصحف القومية لكتابها بأن ينشروا ما ترفضه من مقالات في صحف أخري يمثل درجة كبيرة من الحرية. ولكن في الوقت نفسه فإن نشر »المقال الممنوع« يؤكد أن الصحف القومية لا تنشر إلا ما يؤيد وجه نظر رئيس تحريرها ورئيس مجلس إدارتها! وهذا المسئول الصحفي يعلم أن رأياً معارضاً سيغضب الحكومة، ولذلك يمتنع عن نشره. وكانت نتيجة هذه السياسة أن تحولت الصحف القومية إلي صحف حكومية تنشر ما يطيب للحكومة فحسب. وقد يقال: إن الصحف القومية جرت علي هذه القاعدة منذ تأميمها في الستينيات.. وهذا صحيح. ولكن الصحف القومية في بعض الفترات كانت فيها لمسة قومية تسمح بتعدد الآراء، فلما حذفت منها هذه »اللمسة« نفر منها القراء. وخير دليل يؤكد ذلك أرقام توزيع الصحف المصرية خلال السنوات العشر الماضية. بعض الصحف القومية انخفض توزيعها بشدة وكان يجب أن يرتفع التوزيع ويتضاعف نتيجة زيادة عدد خريجي الجامعات ورغبتهم في القراءة. وعندما يحدث العكس وينخفض التوزيع فإن هذه الظاهرة كان يجب أن تدرس بعمق. السر فيما جري في صحافة مصر يرجع إلي عدة أمور: الأول أن القانون الذي ينص علي مدة معينة لا تزيد علي أربع سنوات لرئيس مجلس الإدارة لم يعد يطبق. والنص علي أن مدة شغل المنصب الإداري محددة بسن ال65 سنة ولا يجب أن يشغل المنصب من يتجاوز هذه السن. ورأي رؤساء مجالس الإدارة أن الذي يتجاهل تطبيق هذين النصين الحكومة، ومن ثم حرصوا علي ارضاء رجال الحكومة، ولا أقول ارضاء النظام، حتي يبقوا في مناصبهم. ولقد ظل البعض يشغل المناصب القيادية أكثر من ربع قرن.. ومن هنا عرف أن الحكومة تستطيع أن تفعل ما تشاء. والثمن الذي يدفعونه لرجال الحكومة مقابل ذلك أن تكون أقلامهم وما يكتبونه موافقاً لهوي ورغبة هؤلاء الرجال. ومادام بعض رجال الحكومة يظلون في مناصبهم نحو ربع قرن أو أقل قليلاً فإن رؤساء التحرير ورؤساء مجالس الإدارة أصبحوا يمشون متوازين معهم هذه المدة الطويلة في المناصب. *** الأمر الثاني أن هذه القيادات الصحفية وجدت أن البقاء في المنصب لا قيمة له إذا لم يحقق مصلحة مادية ضخمة. ومن هنا بدأنا نري مرتبات القيادات الصحفية ترتفع لتزيد عما يتقاضاه رؤساء البنوك. وعرفت الصحافة القومية، ولأول مرة، شيئاً اسمه عمولة الإعلانات. صارت قيادات الصحف تتقاضي عمولة عن الإعلانات التي تنشر في الصحف وارتفعت نسبة العمولة حتي بلغت عشرات ومئات الألوف من الجنيهات شهرياً. وتمادت القيادات في شرهها للاستيلاء علي أموال الصحف. المثال علي ذلك بدل السفر. كل قيادة حددت لنفسها بدل السفر في الخارج علي هواها. بعض الصحف تدفع لرئيس مجلس الإدارة أو رئيس التحرير فاتورة إقامته في الفندق كاملة، وتمنحه بالإضافة إلي ذلك »مصروف جيب« يتراوح بين 300 دولار يومياً وألف دولار كل يوم. وإذا أراد البعض تدبير ذلك بارتفاع الأسعار في الخارج فإن مصروف الجيب الذي يرتفع إلي هذا الحد يمثل مبالغة ما بعدها مبالغة. والأمر الأدهي أن هذه القيادات أصبحت »تسافر« بلا توقف. بعضهم كان يسافر في السنة مائة يوم تقريباً. وكان البعض يقرر الحصول علي بدل سفر 1500 دولار يومياً ويتحمل هو نفقات الإقامة في الفندق. والأمر الذي يثير العجب أن أحدهم كان يسافر للحج والعمرة 3 مرات في السنة، ويحصل علي 1500 دولار في كل يوم وهو يدعو الله في الأراضي المقدسة أن يغفر له ما يفعل بأموال المؤسسة الصحفية! *** الأمر الثالث أنه مع طول مدة البقاء في المنصب أصبح المسئول في الصحيفة يري أنها صارت ملكاً شخصياً له. إنه مادام يرضي رجال الحكومة فيجب عليه أن يرضي نفسه أيضاً. ونشأت لدي هذه القيادات رغبة محمومة مجنونة في الأبهة. أصبحوا يركبون السيارات »المرسيدس« تشتريها لهم المؤسسات الصحفية. وصاروا يتسابقون في شراء »المرسيدس« الأحدث. وبعضهم لم يكن يملك سيارة، أية سيارة، قبل أن يشغل منصبه، فلما رأي نفسه يركب المرسيدس أصر مثل الوزراء علي أن تكون له سيارتان إحداهما له والأخري لأسرته. ورأي أحدهم أن يفعل ما هو أغرب. أهديت له سيارة فوضعها لدي تاجر سيارات وأصر علي أن تشتري الصحيفة هذه السيارة بالذات. ومن سوء حظه أن السيارة انتهت المدة المسموح لها بالبقاء في مصر فشحنها إلي جدة ثم عادت لتشتريها له الصحيفة. ورأي في الوقت نفسه أن زوجته أحق بسيارة جديدة فاشترت لها المؤسسة سيارة »كرايزلر«. واحتج أصغر ابنائه الطالب الجامعي فاشترت له الصحيفة سيارة ستيشن. وأخذت الصحيفة تدفع أجر سائقي سيارتي الزوجة والابن واستهلاك البنزين والإصلاحات. ومن يعترض يمنع من الكتابة ويحرم من العلاوات. ومن لا يعجبه أي تصرف آخر للقيادة الصحفية تعاقبه بعقوبات شتي، فالقيادة الصحفية في يدها سلطات كثيرة، لقد تحولت إلي مراكز قوة ومراكز نفوذ. *** الأمر الرابع أن النشر أصبح رهناً بمزاج ورغبات رئيس التحرير أو رئيس مجلس الإدارة. أحدهم اكتشف في ابنه الطالب الجامعي مواهب كبري. قال: ولدي ورث الجينات العبقرية عني. وأخذ ابنه الطالب الجامعي ينشر أحاديث مع الوزراء. وقال وزير سابق وهو يستقبل الابن العبقري للصحفي العبقري: هذا الشبل من ذاك الأسد. وصار هذا التشبيه لا يطبق في حدائق الحيوان بل في مراعي الصحافة. ووجد أحدهم أن الصحيفة وصفحاتها كلها صارت ملكاً له شخصياً. منع نشر اسم عادل إمام الفنان الكبير من أن يكتب في الصحيفة. وعادل إمام ليس ضد النظام أو ضد رجال الحكومة ولكنه رفض أن يقوم بدور البطولة في فيلم كتب قصته رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة. ومن هنا كان قرار منع نشر اسم عادل إمام رغم أن المنتج رفض تمويل الفيلم قال: مقالي الصحفي ممتاز ولكنه لا يصلح قصة فيلم. ولكن هذين المثالين يؤكدان أن الصحف صارت »عزبة« خاصة لقياداتها. وحدث ما هو أغرب. قيادة صحفية بنت قصراً في »العين السخنة« والقصر احتاج إلي إصلاحات. أمر مجموعة من عمال الصحيفة بالسفر علي حساب المؤسسة من القاهرة إلي العين السخنة مع بدل سفر كامل. ثم أمرهم بالعودة بسرعة لإجراء إصلاحات في قصر آخر له في قريته. السائق في الطريق كان يقود السيارة بسرعة، وقع حادث تصادم فنقل ثلاثة من العمال ولم يذكر في محاضر التحقيق أنهم كانوا في مهمة خاصة، وبالتالي لم يقدم رئيس مجلس إدارة الصحيفة إلي محكمة الجنح أو الجنايات بتهمة التحريض أو الاشتراك في جريمة. *** قد يقال: هذه كلها حوادث فردية. ولكنها عندما تتكرر تصبح سلوكاً عاماً وسياسة عامة. وفي الوقت نفسه حرصت كل القيادات الصحفية علي حرمان الصحف من قيادات جديدة حتي لا ترثهم. وأوضح دليل يؤكد ذلك تلك الحيرة التي شملت المسئولين وهم يبحثون في تغيير القيادات الصحفية. لم يجدوا كثيرين يصلحون لتولي المناصب الكبري. وفي وقت من الأوقات كانت مؤسسة صحفية تتولي تخريج رؤساء التحرير لأغلب صحف مصر. ولكن... لماذا يخرج رؤساء التحرير من يرثهم في مناصبهم. *** هناك اقتراح قديم يتجدد الآن في مجلس الشوري وهو: حتي نمنع قيام مراكز قوة في الصحف لابد أن نفصل بين منصبي رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة. وهناك اقتراحات أخري كثيرة لم يؤخذ بها. أهم هذه الاقتراحات أن يتفرغ رئيس التحرير لعمله في إصدار الصحيفة ولا يشغل نفسه بالإعلانات أو المطابع. وبمقتضي هذا الاقتراح تضم كل مطابع الصحف في شركة واحدة. وتضم إعلانات الصحف في شركة إعلانات واحدة تتولي جمع الإعلانات لكل الصحف. وفي أوروبا شركات الإعلان تفعل ذلك؛. وفي هذه الحالة، بعد تطبيق هذا الاقتراح فإن رئيس التحرير يصبح ملزماً بالعمل لزيادة التوزيع ولا يمكن أن يتعلل بأنه مشغول بأمور إدارية وإعلانية، ولا يستطيع أن يشتري أكثر من مطبعة للصحيفة الواحدة! *** السؤال المهم: ما الذي كان في استطاعة مجلس الشوري أن يفعله لوقف هذا البذخ الصحفي والسباق علي المرسيدس والإفراط في السفر إلي الخارج؟ والجواب في غاية البساطة: لو أن مجلس الشوري أمر كل صحيفة بأن تنشر ميزانيتها السنوية ليطالعها القراء فإن هذا »سيكشف« كل ما تفعله القيادة الصحفية. وكان يمكن لمجلس الشوري أن يلزم كل صحيفة بأن تنشر أرقام توزيعها و»الحقيقة« كل 3 شهور. وفي هذه الحالة سيعرف القارئ ما إذا كانت صحيفته تتقدم أو تتخلف، ولن يستطيع رئيس مجلس الإدارة أو رئيس التحرير أن يناقش الأرقام. ولكن مجلس الشوري اكتفي بأن يقصر دوره علي اختيار القيادات ثم ترك لهذه القيادات أن تختار طريقها، وهو ما جر الصحف القومية أو الصحف الحكومية إلي ما نحن فيه! --- صحيفة الوفد المصرية المعارضة في 5 -7 -2005