للإجابة عن هذا السؤال لابد لنا أولا من فهم طبيعة وحجم وتعقيدات عملية الصراع الاجتماعي وخصوصيات المجتمعات العربية التي نعيش فيها، وقبل ذلك علينا أن نميز بين طبيعة وتركيبة الأنظمة الاجتماعية المختلفة ومستويات الوعي والعوامل المؤثرة فيها والمتأثرة تبعا لها، بل انه قبل كل ذلك علينا أن نؤكد أن مشاريع الاصلاح التي نعنيها هنا هي بالطبع وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، ويجب أن لا تقتصر فقط على جانب الاصلاح السياسي وحده أو مجرد اصلاح أنظمة الحكم فقط، وانما يجب أن تؤخذ بشكلها الاوسع، أي اننا نعني الاصلاح الطامح والمؤسس لمجتمعات تتجه للتحديث والأخذ بالتنمية السياسية والاجتماعية كطريق للخلاص من عوامل الكمون والتراجع أو التخلف الاجتماعي والاقتصادي، على أن يشمل ذلك كل القوى الاجتماعية المنوط بها اجراء تحولات اجتماعية واقتصادية ايجابية ومؤثرة، بحيث تلتزم الحكومات بعمليات اصلاح حقيقية تعتمد تعزيز عوامل الثقة ومراكمة النجاحات والإيمان الحقيقي بدور وأهمية الاصلاح ، وبالمثل تلتزم قوى المعارضة السياسية والاجتماعية بالإضافة الى تأكيد ثوابتها بأن تكون فاعلة وذات رؤية وغير معيقة وان تلتزم نهجاً متقدماً وسلمياً ودافعاً لعملية التطور السياسي والاجتماعي المنشود. من هنا فإن الحاجة تبدو ملحة أولا لخلق فهم موضوعي وراشد يتجاوز ما هو سائد وجامد في واقعنا الاجتماعي والسياسي، بغية الوصول بمجتمعاتنا الى ضفاف أكثر أمنا ونماء، بعيدا عن اسباب الاحتقانات التي كثيرا ما تظهر للسطح بين الفينة والاخرى، كنتيجة حتمية لضياع الرؤية والهدف اللذين كثيرا ما تزامنا مع واقع حراكنا السياسي والاجتماعي. وعلينا كما أرى أن نتجاوز النظر الى الاصلاحات باعتبارها ترفا أو حاجة لابد منها فقط لنقد الانظمة السياسية القائمة في عالمنا العربي، قبل أن نعمم ذلك على غالبية الدول النامية التي مازالت تفتقد الممارسة الديمقراطية وتغيب فيها الحريات العامة كشرط لتثبيت ديمومة التخلف والبقاء فيها، وانما يجب أن تكون المطالبة بالاصلاح حركة وممارسة ذات أبعاد استراتيجية مفهومة. وعند المطالبة بالاصلاح يتحتم علينا الولوج بعيدا الى مفاصل المجتمعات التي هي نتاج عقود بل قرون من كل تلك الممارسات، حيث تشكلت معها وبها بعض المجتمعات التي تفتقد الفهم الحقيقي لمرامي المطالبة بالاصلاح وأهمية الانتاج والعمل والبناء، ويغيب فيها خطاب النقد الاجتماعي الحقيقي الذي فرضته ثقافة مجتمعية شمولية قاهرة ومانعة لأي تطور اجتماعي حقيقي يساندها في ذلك أنظمة سياسية وحكومات متسلطة استفادت أيما استفادة من تكريس وعي زائف من قبل بعض النخب، فأغفلت عملية التطوير والتحديث الحقيقي المطلوبة لمجتمعاتها، وان كانت في أفضل الحالات تكتفي بالحديث عن أهمية التطوير الفوقي الشكلاني المبتسرة ، والتي تمارس من خلالها تزييفا منهجيا لوعي مصطنع هو في محصلته النهائية تكريس فاضح لفوقية النخب النافذة التي تنتج بدورها مجتمعات هشة لا تفقه من عملية التنمية سوى النظر بانانية لمصالح فئات وأفراد وجماعات كثيرا ما ترتبط بقدرة تلك الفئات والافراد على توجيه دفة الحراك الاجتماعي لخدمة أهدافها ومصالحها بعيدا عن المصالح الوطنية والمجتمعية التي فيها تكمن خطى التطور والازدهار الحقيقي. من هنا نستطيع أن نفهم معنى أن تنتشر ممارسات الفساد بكل أشكالها في جسد الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة، لتغدو مبررة في أحايين كثيرة حتى في أوساط أكثر الطبقات وعيا وذلك جراء غياب الرؤية التي تظل حلما لا نستطيع الاقتراب منه نظرا لتكلس طبقات من الزيف التي تلتقي بطريق أو بأخرى مع مصالح الفئات المتصارعة الاكثر استحواذا على المال والثروة لتصّيرها في حركة دوران زائف ومخادع لتبدو ظاهريا وكأنها طريق تطور ومنهاج تحديث لدول ومجتمعات، هي من الوهن بحيث لا تستطيع حتى أن تنتقد تلك المحرمات التي فرضتها تلك الشرائح الشرهة والطامعة في الاستحواذ على اكبر قدر من المصالح الشخصية والعائلية والفئوية وكأن لسان حالها يقول أنا ومن بعدي الطوفان! نلمس ذلك تحديدا لدى الكثير من الفئات الرأسمالية المهيمنة على الاقتصادات الوطنية ومفاصل رأس المال وحركة التصنيع والتجارة، ونلمسها لدى الشرائح الاجتماعية المتمثلة في طبقة التكنوقراط وحتى في أوساط النخب المثقفة والمسيسة بكل أسف، وهذه الاخيرة هي الأسوأ بل والأخطر توظيفا لكل تلك الممارسات الفاسدة نظرا لقدراتها الخاصة على تلوين الأمور وقلب الحقائق لتبدو أكثر نضارة من الخارج، ولتمارس بها خداعا للمجتمعات والشرائح الأكثر استضعافا والذين اختاروا التسليم دون مساءلة لصوابية طرحها نتيجة ثقافة مجتمعية قاصرة، كثيرا ما تدخل عامل الزمن ليكشف زيفها الخادع ولكن بعد فوات الأوان، لنعيد الكّرة مجددا مع واجهات ونخب اقتصادية ومثقفة ومسيسة جديدة لتمارس الفعل ذاته في اغراق مجتمعاتها بأمراضها المزمنة وشراهتها في الاستحواذ على اكبر قدر ممكن من المكاسب الذاتية والفئوية مستخدمة أساليب الأغواء المتجذرة في ذاكرة الأجيال، والتي لا تتورع معها عن الزج بمكاسب السواد الأعظم من الفئات الأكثر تضررا، فقط لممارسة شهواتها في الاستحواذ على مصالح الآخرين عبر اختطاف قراراتهم ومصادرة حقوقهم مستغلة غياب الوعي واستمرارية الدوران في حلقة اليأس والضياع دون عائد يذكر سوى مراكمة الآلام والاخفاقات الى ما لانهاية! وتظل الحكومات اللاعب الاكبر على مجمل تلك التناقضات، وهي التي تعجز باستمرار عن تحقيق الحد الادنى لطموحات مجتمعاتها، وان شئنا الدقة تصر على أن تعمل وفق استراتيجية مرسومة سلفا، فحواها أن تظل المجتمعات مراوحة بين الخروج الى حيث النور والتطور وبين الانكماش والتراجع تحت رحمة تلك الأنظمة السياسية الحاكمة منها أو تلك التي هي جزء من قوى التغيير والمعارضة، مستغلة توظيفها الأمثل لآلية التناقضات، وبراعتها في اللعب بمهارة على أوتار المصالح المشهرة في وجه قوى التحديث الحقيقية، والتي يغدو فيها رأس المال المتمثل في حركة الاقتصاد والتجارة وفساد السياسات وتمترس المفسدين في مواقع محصنة لا تطالها المحاسبة الشعبية الحقيقية نظرا لغياب الحريات والممارسات الديمقراطية. إلا أن ذلك في حد ذاته يظل تحديا اكبر أمام القوى الحية الحقيقية وهي التي تحتاج في مواجهتها التاريخية المأمولة بان تتسلح بوعي مختلف لا يقبل الجمود عند ممارسات الوعي الزائف والفوقي أو المنغمس فقط في أتون الايديولوجيا أو التسطيح أحيانا أخرى، دون وعي أو مراجعة للحالة المجتمعية التي تتعاطى بشكل مستمر مع اشكالات من التشظي المزمنة والتراجع والتخلف الاسطوري الرافض لخلق فهم متحرك باتجاه الثوابت دون الإيغال في زحمة الهذيان الفاجع أحيانا أو الثورية المفرطة حد التلاشي والذوبان.. وانما دخولا الى تأصيل وعي مختلف وممارسات أكثر نجاعة للتعاطي من دون تسويف فكري أو سياسي لا يعرف في أحايين كثيرة من أين يبدأ وكيف ينتهي وما هي آفاقه وحدود طموحاته، لكي يكون بذلك أكثر اقناعا وأكثر دخولا لقضايا مجتمعاته التي باتت تتطلب حلولا لا تقبل الانتظار الطويل لقضاياها المحورية والتي يبدو أنها سئمت تلك الحلول المغرقة في راديكاليتها وعدم واقعيتها نظرا لعدم وجود فهم أفضل لضرورات ومتطلبات عملية الصراع الاجتماعي ذاتها، والتي كثيرا ما تلازمت مع كثير من التضحيات دون مجرد الاقتراب من الحلم الموعود، وبما يعود بالتراجع على مجتمعاتها وشعوبها، وفي ظل تيئيس منهجي مستمر مارسته الحكومات والانظمة عبر العديد من تلك الشرائح الاجتماعية المنغمسة في العمل اليومي في تلك المجتمعات، والتي اخترقت من قبلها بفعل هشاشة بناها وهياكلها وربما التقاء مصالح بعضها ضمنيا مع مصالح تلك الانظمة الفاسدة والتي يظللها غياب وتغييب نوعي لوعي بات وجوده مطلوبا بشدة. ---- صحيفة الخليج الاماراتية في 27 -7 -2005