صاحب الحاجة يقضى سنوات أمام المحكمة، سنة تجر سنة، يبذل الوقت والجهد والمال، وأخيرا يصدر حكم فى دعواه، قد يكون طرد مستأجر ممتنع عن دفع الأجرة، وقد يكون تمكيناً من أرض أو عقارا متنازعا عليه، ويتصور صاحب الدعوى أن الدنيا ابتسمت له بعدما أنصفه القضاء، لكنه يفاجأ بأن ما استنزفه من وقت وجهد ومال على مدى سنوات لا قيمة له، فالأحكام القضائية لا تنفذ بالسهولة التى كان يتصورها، ولو كان يعرف مآل هذه الأحكام ما كان قد لجأ إلى المحكمة. لعل أبرز الأمثلة على ذلك حكاية سيدة تدعى فايزة زكى، هذه السيدة صدر لصالحها أحكام قضائية ضد شخص يدعى محمد فرغلى محمود، بعد أن اختلس منها مبلغا ماليا وحرر به إيصال أمانة وبعد فترة رفض رد المبلغ، فلجأت إلى القضاء، وبعد عناء استمر لسنوات، استطاعت الحصول على حكم قضائى بحبس فرغلى فى القضية رقم 3028 لسنة 2011 وكذا فى القضية 4304 لسنة 2011، وعندما استعانت فايزة بمباحث القاهرة لتنفيذ حكم القضاء، اكتشفت أن نفوذ فرغلى وعلاقاته برجال المباحث الذين يساعدوه فى مرور الوقت كى تسقط الأحكام هى الأقوى. أما عبد العاطى محمد عبد الواحد، فقد استطاع الحصول على حكم قضائى فى القضية رقم 10672 لسنة 1995 ضد رئيس مجلس إدارة الشركة التى كان يعمل بها (وهى شركة مشهورة فى أعمال المقاولات) بحبس صاحب الشركة عامين، ولأن صاحب الشركة من ذوى السلطة والنفوذ لم ينفذ الحكم الذى سقط وضاع معه حق الشاكى. أما أشرف عطية عبد السلام فقد أصدرت محكمة الزقازيق حكماً نهائياً لصالحه ضد شركة مضارب الشرقية بإعادته للعمل بعد فصله، ولم تقم الشركة بتنفيذ الحكم، بالرغم من قيام المواطن بإنذار رئيس مجلس الإدارة وأحكام القانون والتى تؤكد أن الممتنع عن تنفيذ الحكم القضائى يتعرض للعزل والحبس طبقاً لنص المادة 123 من قانون العقوبات، إلا أن إدارة الشركة رفضت تنفيذ الحكم، ومازالت تعيق رجوع العامل لوظيفته. وذكر عبد العاطى أن بعض الوسطاء طلبوا منه مبلغا لتنفيذ حكم المحكمة. أما محمد مصطفى أحد صيادي إدكو، فيؤكد أن محكمة القضاء الإدارى أصدرت حكما لصالح الصيادين فى الطعن رقم 3298 لسنة 53 ق بوقف إنشاء المزارع السمكية فى 20/2/2006 ومع ذلك رفضت وزارة الزراعة تنفيذ الحكم، ومازالت المزارع المخالفة تملأ البحيرة فى تحدٍ واضح للقانون وأحكام المحاكم. ويؤكد المسئولون بالإدارة العامة لمباحث تنفيذ الأحكام على وجود حملات مكثفة لتنفيذ الأحكام وأسفرت آخرها عن تنفيذ 161 ألف حكم، لكن أشارت الإحصائيات الحديثة إلى أن محكمة القضاء الإدارى وحدها أصدرت ما يزيد عن 10 آلاف حكم لم ينفذ منهم سوى 6%، كما أن هناك تضارباً واضحاً فى أعداد الأحكام القضائية. وقد انتشرت فى الآونة الأخيرة ظاهرة خطيرة وهى تقاضى بعض الأشخاص إتاوات لتنفيذ الأحكام القضائية بديلاً عن الحكومة بعد أن باءت توسلات المواطنين لدى المسئولين عن تنفيذ الأحكام بالفشل. يقول عبد الله عبد الباسط: قمت بشراء قطعة أرض زراعية مساحتها فدان ونصف الفدان بمحافظة المنصورة، وسجلتها بالشهر العقارى ولما توجهت لاستلام الأرض، فوجئت بأحد المواطنين يحاول ضربى ومنعى ورفض تسليمى الأرض إلا بعد أخذ مبلغ من المال، فتوجهت لمركز الشرطة وحررت المحضر رقم 4139 إدارى المنصورة وقررت النيابة تمكينى من استلام أرضى، وكلفت قوة من الشرطة لتمكينى من استلام الأرض، إلا أنه بعد التسليم قام البلطجى صاحب النفوذ بالتعدى على وطردنى من الأرض، فتوجهت لمركز الشرطة، إلا أنهم رفضوا الوقوف بجانبى واصطحاب قوة لتمكينى من الأرض، فرجعت ثانية إلى البلطجى ودفعت المبلغ المطلوب واستلمت أرضى رغم علم الشرطة بحقيقة البلطجى الذى يفرض الإتاوات. ويؤكد تامر عبد الرشيد تاجر، أنه حصل على حكم قضائى بحبس شخص أخذ منه بعض الأجهزة الكهربائية، وسدد الشيك الأول فقط، وتهرب من تسديد باقى الشيكات، فقرر اللجوء للقضاء وحصلت على حكم بحبسه وتم تنفيذ الحكم بمعرفة مخبر من تنفيذ الأحكام الذى تقاضى 2000 جنيه مقابل مساعدته فى تنفيذ الحكم. ويتابع سيد موسى أن هناك ضباطا بتنفيذ الأحكام يتقاضون مبالغ مالية كبيرة من أجل تنفيذ الأحكام، حيث إن عائلته كانت تمتلك قطعة أرض وأخذتها الحكومة وبنت فوقها مدرسة حكومية وبعد أكثر من عشر سنوات والقضية متداولة بالمحاكم، ولما قررنا استلام الأرض ذقنا الأمرين أيضا، إلى أن قامت الحكومة بإخلاء المدرسة من الطلبة بعد أن طالبت أسرتى بتفعيل الإجراءات من خلال رشوة بعض الضباط. وتوضح ماجدة إبراهيم أنها استطاعت الحصول على حكم قضائى لتسليمها المحل التجارى الخاص بها بعد أن استولى عليه أحد الأشخاص، لكن مباحث تنفيذ الأحكام تقاعست فى تنفيذ الحكم فعرفت أن سيادة البلطجة صارت أقوى من سيادة القانون، فاستأجرت مجموعة من البلطجية والذين ساعدوها بدورهم فى عودة حقها بعد أن أخذوا مبلغا ماليا كبيرا. يقول المستشار عادل فرغلى رئيس محاكم القضاء الإدارى السابق إن القضاء الإدارى فى مصر هو الملجأ الأخير لأصحاب الحقوق، لكن يوجد لدى الشعب إحساس دائم بأن الحكومة ليست لديها النية الصادقة لتنفيذ الأحكام الصادرة ضدها، فهى إما تتجاهلها أو تنفذ القليل منها، وهذا يؤكد حاجة النظام التشريعى المصرى لتعديل يحمى أحكام السلطة القضائية ويضاعف عقوبة المسئولين المهملين لتنفيذ الأحكام.. فمصير الأحكام القضائية فى مصر يعتبر تحت سيطرة الجهاز الأمني، الذى يتجاهل تنفيذها. ويقول عادل حنا محام، إن تنفيذ الأحكام القضائية للمصريين لا ينفذ، أما الأحكام القضائية التى يحصل عليها الأجانب تنفذ فورا، فمثلا تقدمت مؤسسة رازيمبكس الأوكرانية بطلب إلى رئيس استئناف القاهرة بطلب الأمر لتنفيذ حكم التحكيم الصادر لصالحها ضد شركة ياسمينا المصرية من هيئة تحكيم غرفة الصناعة والتجارة الأوكرانية وقيد الطلب برقم 62/115 ق تحكيمن وتظلمت الشركة الأوكرانية إلى محكمة استئناف القاهرة (الدائرة 63) بالتظلم رقم 76/115 ق، وقضت المحكمة بإلغاء أمر الرفض المتظلم منه وأمرت بتنفيذ حكم التحكيم محله. ويرى الدكتور مصطفى كامل أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن مشكلة الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية ربما تكون بسبب ضعف الإدارة وسوء اختيار الدولة لمسئولى تنفيذ الأحكام القضائية، فضلا عن أن الدولة تعانى من نقص بالإمكانيات لتنفيذ شتى الأحكام القضائية. ويطالب المستشار حسنى السلامونى رئيس هيئة مفوضى الدولة بالإسكندرية رئيس مجلس الدولة المستشار محمد عبد الغنى بأن يرفع مذكرة لرئيس الجمهورية بعدد الأحكام القضائية التى أهدرتها الحكومة فى الانتخابات الأخيرة أو إعفائهم من العمل إذا استمر الامتناع عن تنفيذ أحكامهم وهو ما سبب استياء عاما من قضاة مجلس الدولة بسبب عدم تنفيذ أحكامهم، حيث إنه من التقاليد الراسخة أن القضاة يقتصر دورهم على إصدار الأحكام وكتابة الحيثيات وفقا لنصوص القانون ولا يمتد دورهم إلى تنفيذ الأحكام. ويؤكد سلامة أحمد أحد الحاصلين على أحكام قضائية لم يتم تنفيذها منذ سنوات، أن المواطن العادى يشعر بالأسى أن يكون بين يديه حكم لاسترداد حقه ويعانى الأمرين من أجل تنفيذه لأن هناك من لا يرتضى بالحكم. وعن تنفيذ الأحكام الجنائية، فإن المجنى عليهم يكابدون فى وحدات تنفيذ الأحكام بالأقسام ومديريات الأمن من أجل ضبط الجانى ليُنفذ حكم عليه، ولك أن تتخيل أن مجنيا عليه فى أية جريمة- ضرب- قذف- سرقة..... وحاصل على حكم جنائى ضد من اعتدى عليه والجانى يتهرب من التنفيذ, والمفارقة أن المجنى عليه لا يستطيع أن يتحصل على حكم بالتعويض إلا بعد صدور حكم نهائى بات من المحكمة الجنائية وهذا مفاده رحلة طويلة من العذاب. ويوضح الدكتور حمدى عبد العظيم العميد السابق لأكاديمية السادات للعلوم الإدارية أن تعطيل تنفيذ الأحكام جريمة واضحة ولابد من سن قوانين وتشريعات تعاقب من يتسبب فيها، فأهمية تنفيذ الأحكام فى قياس اقتصاد الدول جعل البنك الدولى يجعل من سرعة تنفيذ الأحكام مؤشرا رئيسيا فى قياس إنفاذ الدول للعقود التجارية من خلال عدد الإجراءات والمدة الزمنية والنفقات المالية التى تبذل حتى يتحصل المستثمر على حقه فى كل دولة وهو ما جعل مصر تتحصل على ترتيب متأخر بين دول العالم، وعلى هذا فإنه بات واجبا على الجمعية التأسيسية وهى تتباحث المواد التى ستوضع فى الدستور القادم أن تضع به مادة تلزم الجميع باحترام الأحكام القضائية والعمل على تنفيذها فى أسرع وقت والعقاب على من يمتنع عن تنفيذها أيا كانت صفته. ويستنكر أحمد عمر أحمد الأمين العام لجمعية حقوق الإنسان صعوبة تنفيذ الأحكام القضائية والتى أدت بدورها لزيادة البلطجة والعشوائية والانفلات الأمنى الذى بات ملحوظا بشكل واضح فى هذه الآونة. وطالب عمر بسن قوانين جديدة وتغليظ عقوباتها على من يمتنع عن التنفيذ.