ذات يوم قال الكاتب الشهير أحمد بهاء الدين لوزير الداخلية المصري الأسبق ممدوح سالم ساخرا: إنكم تستخدمون نوعية رديئة من الصحافيين ليكونوا مخبرين لكم وهو ما يجعل التقارير التي يرفعونها لكم لا تتسم بالدقة.. فرد وزير الداخلية ووزير الحكومة الاسبق السخرية بأشد منها وقال: يدي على كتفك.. هات صحافيين محترمين ليعملوا مخبرين وأعدك بأن تكون تقاريرهم رفيعة المستوى. إن قضية الاختراق الأمني لمؤسسات الصحافة والثقافة والجامعة والبعثات الخارجية ستظل قضية أبدية لن تنتهي إلا يوم القيامة حين تشطب من القواميس والخرائط السياسية فكرة الدولة القوية، سواء كانت هذه الدولة ديمقراطية أو ديكتاتورية.. فكل دول العالم على اختلاف أنواعها تعطي حصة من المناصب العامة للأجهزة الأمنية كي تعين فيها رجالها ومرشديها، سواء كانوا يستحقون هذه المناصب أو لا يستحقون.. فعندما تتساوى الكفاءة ترجح الولاء السياسي والأمني حتى في أعلى المناصب الحكومية.. لكن.. المشكلة هي أن يكون الاعتبار الامني متجاوزا للاعتبار المهني. تذكرت تلك الواقعة وأنا أقرأ مذكرات علي السمان «أوراق عمري».. فعندما سافر لدراسة الدكتوراه في جامعة جرونويل الفرنسية اتصل به رجل من رجال الأجهزة الأمنية ( وهو ابن وزير داخلية سابق ) وكان مستشارا للسفارة المصرية في بروكسل ليقول له بصراحة: «نريد منك أخبار الطلبة ( العرب ) في الحي اللاتيني». فرد عليه: «إن البوليس الفرنسي يحتاج أيضا إلى مثل هذه الاخبار. وقد تمكن البوليس الفرنسي من حل هذه المشكلة عندما اكتشف أن مئتي فرنك تغير حال الطالب من ضيق ذات اليد إلى اليسر. وبذلك يستطيع بألف فرنك أن يجند خمسة طلاب. وتستطيع أنت أن تفعل ذلك مثله.. ولكنني أصارحك القول إنني لا أستطيع أن أكون مخبرا لك. هذه مهنة وحرفة لا أملك مؤهلاتها.. لن تجد عندي ما تريد». ومثل هذه الإجابات تستفز رجال الأمن وتجعلهم يروجون الشائعات ضد من يرفضون العمل معهم.. يسعون جاهدين إلى تحطيمهم معنويا واجتماعيا من باب الانتقام وحتى يكونوا عبرة لغيرهم..وبالنسبة لعلي السمان فقد أشاعوا أنه طلب حق اللجوء السياسي لفرنسا.. لأنه كما تقول الشائعة: لو عاد إلى مصر فسوف يقدم إلى المحاكمة. أما سر هذه الشائعة فهو أنه أرسل برقية إلى جمال عبد الناصر بعد أن قدم مجلس قيادة الثورة استقالته في أزمة مارس 1954 يقول له فيها: «إن الثورة لا تستقيل.. أؤيد استمرار مجلس قيادة الثورة».. وفي الوقت نفسه أرسل برقية أخرى لخصمه في الصراع محمد نجيب يرفض فيها عودة الاحزاب السياسية ويقول له: «إن مطالبتكم بعودة الاحزاب السياسية على نحو ما كانت عليه قبل الثورة هي أكبر عملية نفاق في التاريخ الحديث».. والمثير للدهشة أن برقيته إلى محمد نجيب أدت إلى التحقيق معه في مكتب المستشار الثقافي المصري في باريس علاء الدين عبد اللطيف.. لكن.. بعد أسابيع قليلة أقيل محمد نجيب وعاد جمال عبد الناصر إلى السلطة بقوة فإذا بالرجل الذي طالب بالتحقيق معه يشد على يده مبديا إعجابه برجاحة عقله.. لقد تغير موقفه تماما.. والسبب تصوره أن على السمان كان مرتبطا تنظيميا بمجموعة جمال عبد الناصر. إن تلك الوقائع تفسر لماذا هجر المصريون السياسة بعد ثورة يوليو.. فإما يدعوهم الأمن للتجسس على زملائهم وإما يفسر المسؤولون مواقفهم بطريقة خاطئة.. وفي المقابل كانت حرية التعبير في فرنسا هي رغيف الخبز الذي عاش عليه وساهم في بنيانه الليبرالي الواضح في غالبية صفحات مذكراته. لكن. الأهم من الحرية السياسية.. الحرية الشخصية.. فالإنسان في تلك المجتمعات المفتوحة والموهوبة لا يقيَّم بنفوذه ولا بثروته ولا بمركزه ولا بنوع الثياب التي يرتديها. الإنسان هناك يقيم بمدى علمه وتواضعه وقدرته على خلق جسور الخبرة والمعرفة بينه وبين الناس. ففي اليوم الأول للجامعة ارتدى علي السمان بدلة قاتمة وحذاء لامعا جدا. وكأنه ذاهب إلى لقاء رسمي. وكانت دهشته فورية حين وجد الطلبة يلبسون ثيابا بسيطة وعملية في الوقت نفسه. وبدا للحظة أنه غريب بينهم.. وتلفت حوله باحثا عن السكرتارية التي سيتقدم إليها بأوراقه.. وفي هذه اللحظة اقترب منه رجل متوسط العمر. خمن علي السمان أنه من سعاة الكلية.. وعرض عليه المساعدة وقام بمهمة الترجمة.. وما أن انتهى الرجل من خدمته حتى فكر في أن يعطيه بقشيشا على الطريقة المصرية.. وفتش في جيوبه فلم يجد غير جنيهات استرلينية. فاكتفى بأن يضع يده على كتفه ويشكره بعد أن وعد بالبقشيش في اليوم التالي. وفي اليوم التالي دخل علي السمان مكتب عميد الكلية ليجد الساعي الذي ساعده بالأمس هو نفسه عميد الكلية. ولعل مجتمعا بمثل هذه الحيوية كان لابد أن ينجب مفكرا وفيلسوفا مثل جان بول سارتر الذي استدعى للشهادة في قضية شهيرة نظرتها محكمة أمن الدولة الفرنسية عرفت بقضية «جانسون ».. كان المتهمون فيها هم بعض الشباب هناك بسبب تأييدهم ومساعدتهم لثورة الجزائر.. وأمام المحكمة قال جان بول سارتر: «لقد أخطأت عدالة المحكمة في التكييف القانوني لدعوتي للحضور.. فأنا متهم ولست شاهدا كما دعوتموني.. ولو كان لي حظ لكنت وراء هذه القضبان التي يقف وراءها المتهمون».. ثم أضاف بحزم: «إنني أعلنها لكم بأني أود أن أقوم فكرا وعملا بنفس ما قام به هؤلاء المتهمون». إنه موقف المثقف الحقيقي الذي لا ينفصل القول عنده عن الفعل. ولا يغير مواقفه بتغير مصالحه. ولا يبيع كلماته في بورصة الثروة.. وقد وضع جان بول سارتر نظام حكم الجنرال شارل ديغول في حرج سياسي وجنائي شديد. فهو يعترف بجريمة يعاقب عليها القانون.وفي الوقت نفسه فإن القبض عليه سيفجر مشاعر الغضب ضد الحكومة الفرنسية ويحقق له ما يحلم به. «أن يكون شهيد الدفاع عن أهم قضية كانت تشغل العالم الثالث.. قضية استقلال الجزائر». وقد كان بيت جان بول سارتر ملاصقا لبيت علي السمان في باريس. لكنه. لم يكن ليزيد كثيرا عن كشك صغير.. يضم سريرا لنومه فقط.. أما سائر البيت فكان عبارة عن أرفف تمتلئ عن آخرها بالكتب. أما شريكة حياته سيمون دى بوفوار التي عاشت معه نحو أربعين سنة فكانت تقيم في بيت من طابقين يسمى «البيت الكبير». على أنه لم يقم معها فيه.. كان يفضل حياة التقشف. وهو ما ضاعف من السخرية التي اشتهر بها. فقد كان يسمي أصدقاءه ومعارفه بأسماء الحيوانات.. حسب الصفات التي كان يراها في كل واحد منهم. وقد رتب علي السمان رحلة جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار إلى القاهرة ورافقه خلالها. وإن كان علي السمان قد اعتذر عن ذلك في البداية لأن موعد الرحلة تزامن مع موعد مناقشته للدكتوراه. وكان أن قرر جان بول سارتر تأجيل الرحلة.. وحاول علي السمان أن يثنيه عن ذلك حتى لا تصور القيادة السياسية - التي حددت الموعد بنفسها - في مصر أن سبب التأجيل مؤامرة صهيونية. ولكنه أصر على التأجيل قائلا ببراءة الاطفال: كذبة بيضاء لن تضر. على أن الشرط الوحيد الذي كان قد وضعه للزيارة التي كانت بدعوة من جمال عبد الناصر هو أن يتأكد من أن مصر بلد لا تقتل فيه الحريات.. عليه أن يتأكد من مستقبل الحريات فيها قبل أن يوافق على الزيارة. وكان رد علي السمان: «إن مصر دولة فرعونية منذ سبعة آلاف سنة ولا يجوز أن تطبق عليها المعايير التي تطبق على غيرها. وهو التبرير الذي ساهم في ضرب الحريات في مصر. وروج له مثقفون مختلفون ينتمون لتيارات مختلفة.. وهو ما جعل حاكما مثل أنور السادات يصف نفسه بأنه آخر الفراعنة.. وقال جملته الشهيرة: الديمقراطية لها أنياب. دون أن يقول لنا: لو كانت الديمقراطية لها أنياب فما الذي يمكن أن تكون عليه الديكتاتورية. -- صحيفة الاهرام المصرية في 20 -8 -2005