لم تكن هذه هى المرة الوحيدة التى توفر للصهاينة سبيلاً لاغتيال نائب القائد العام لكتائب عز الدين القسام أحمد الجعبرى، لكنها كانت الأنسب فى تقديرها؛ فلقد تجمعت لها أهداف عدة يمكن أن تكسبها مع استشهاد بطل القسام. أوائل هذا الشهر شاهد الملايين من الأمريكيين فيلمًا يحكى طريقة اغتيال زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وهو من إنتاج هيرفى وينشتاين، أحد أقطاب السينما الهوليودية وأحد أبرز جامعى الأموال لحملة الرئيس بارك أوباما.. قال الممثلون فى الإعلان عن الفيلم "رئيس الولاياتالمتحدة يضع رئاسته فى الميزان فى هذه المهمة".. نجح أوباما بعد أسبوع تقريبًا من بث الفيلم على شبكة ناشيونال جيوجرافيك، ليصبح رئيساً لولاية ثانية للولايات المتحدة. رئيس الوزراء الصهيونى نتنياهو بدا أنه يحاكى هذا الأسلوب؛ فمع اقتراب موعد الانتخابات "الإسرائيلية" بعد نحو شهرين من الآن حقق ما يمكن أن يعد اختراقاً أمنياً كبيراً لاستحكامات حركة حماس، العدو الأول ل"إسرائيل" باغتيال أحد أبرز قادتها العسكريين، القيادى أحمد الجعبرى، ما يساهم فى رفع رصيده الانتخابى وعرقلة صعود متوقع لرئيس الحكومة السابق ايهود أولمرت العائد بقوة للساحة السياسية بعد تبرئته فى المحكمة، ومقاومة التحدى المتنامى الذى يمثله ترؤس وزيرة الخارجية السابقة تسيبى ليفنى لحزب جديد لخوض الانتخابات التى تشير الاستطلاعات أنها ستكون فيها ليفنى المنافس الأبرز لنتنياهو.. قدم رئيس الحكومة موعد الانتخابات ثمانية أشهر لكبح صعود المنافسين، واحتاج إلى "بطولة" وهمية توفرها أجهزة رصد دقيقة، وخيانة بعض المرشدين الفلسطينيين، تماماً مثلما فعل أوباما الذى لم يكن فى الحقيقة يجازف بأى مغامرة فى اغتيال بن لادن حيث كانت المعلومات التى نفذت على إثرها الغارة دقيقة جداً، ومرت عبر أجهزة استخبارات "متعاونة". لكن مع هذا؛ فإن هذا المسلك الخسيس فى الممارسة الديمقراطية، والذى يبرهن على أن "إسرائيل" ليست كما تزعم "واحة الديمقراطية" وسط "غابة الديكتاتوريات" مثلما كانت تروج سابقاً، فتلاعب رئيس وزرائها بجماهيرها المتعطشة إلى قدر من "العدالة الاجتماعية" المفتقدة فى ظل أزمة اقتصادية آخذة فى التصاعد بمثل هذا المستوى لا يوحى بقدر من "التقدير" لهذه الديمقراطية، لاسيما أنه كقاتل ينافس غريماً له يماثله فى الإجرام ويزيد عليه باعترافه بالاختلاس!. هذا المسلك لا يعبر عن الأهم فيما يحيط بهذه العملية الغادرة من الصهاينة باستهداف الأبرياء فى غزة.. لدينا فى جعبتنا أكثر من إرادة تزاحمت خلف هذه العملية، ومن أبرزها إرادة قهر وليس إحراج الإدارة المصرية الجديدة التى تقف جماعة الإخوان المسلمين خلفها بل فى صدارتها برئاسة الدكتور محمد مرسي؛ فلقد أجرت "إسرائيل" عدة اختبارات قوة للنظام المصرى المنتخب الجديد، ولمست انكفاءً داخلياً واضحاً ترجمته إلى مفهوم "الضعف" و"قلة الحيلة"؛ فأرادت الحكومة الصهيونية أن تضرب ضربتها لتحقيق أكثر من هدف، يتمثل أبرزها فى الرغبة بتكذيب ونسف تاريخ جماعة الإخوان الجهادى أو النضالى فيما يخص مناهضة "إسرائيل"، وإظهار الجماعة فى حالة مترددة ما بين الضعف والبراجماتية؛ فيما تدير الجماعة حساباتها من واقع إدراكها لدقة الحسابات وصعوبتها فى هذه الشهور الأولى لحكمها "الهادئ" لمصر، كما يتمثل فى لجم دور مصر الريادى المتوقع إقليمياً ودولياً بعد سلسلة من النجاحات النسبية، وإرسال رسالة لدول بعينها كدول الخليج، بأن مصر لم تصلح بعد لتكون حامية لتلك الدول حتى برغم من ترداد قادتها وزعمائها أنها لم تعد كمصر إبان حكم مبارك الخائن، وكذلك أيضاً؛ فإن حلفاء واشنطن و"إسرائيل" بالتبعية فى مصر بحاجة لكسر أنف حكام مصر وإعطائهم مبرراً آخر، لاسيما لدى قوى اليسار التى تسلمت الراية المعارضة نسبياً للغارات الصهيونية التى سبقت عملية الاغتيال والتصعيد الحالي، إلى حد التمهيد لإزاحة حكم الرئيس مرسى إثر وضع عراقيل داخلية هائلة أمامه، وتثنيه ذلك بإبراز ما يمكن اعتباره لدى المعارضين "إخفاقاً" فى ملف غزة على الرغم من قوة العلاقة بين القاهرةوغزة حالياً، كما أنها تريد تفجير الموقف بين جماعة الإخوان والجيش على خلفية ما قد تبرزه مثل هذه الأحداث من تباين فى قراءتها ورد الفعل تجاهها. أيضاً، فإن "إسرائيل" بدت شديدة الانزعاج من تحول المشهد العسكرى بسوريا باتجاه تحقيق انتصارات غير محسوبة لقوى بعضها خارج عن سياق الضبط والتدجين تماماً، إلى الحد الذى جعل تل أبيب تفكر فى إشعال المنطقة بغية تهيئة المناخ لنظام بشار لالتقاط الأنفاس والشروع فى ارتكاب مجازر أكثر دموية وأكبر قدرة على تعطيل نجاحات الثوار فى الشمال والشرق والوسط والغرب السوري. والأهم هنا فى سوريا، هو ما يخص الجولان، والذى حدثت به بعض المناوشات القليلة على جانبى حدود الجولان (السورية والسورية المحتلة)، والذى فسره المسؤولون "الإسرائيليون" بأنه كان خطأ غير مقصود من جانب جيش بشار!، حيث قالت صحيفة هاآرتس العبرية إن "اقتناعاً يسود جهاز الأمن أن جميع حالات إطلاق النار من سوريا باتجاه الأراضى الإسرائيلية وقعت عن طريق الخطأ، ولم تكن نابعة من نية نظام الأسد فى إشعال الحدود مع إسرائيل"، ونقلت عن مصادر أمنية قولها: "بسبب عدم دقة قذائف هاون الجيش السورى فى إصابة أهداف، فإنه أخطأت عدة مرات معاقل المتمردين وسقطت فى مناطق تقع غربيهم، فى الأراضى الإسرائيلية". وقدّرت المصادر الإسرائيلية أن مستوى إشراف قيادة الجيش السورى على الأحداث فى هضبة الجولان متدن، وأنه "لا تقف وراء هذه الأحداث نية خفية بتوريط إسرائيل فى المعارك".. نتنياهو ووزير دفاعه باراك زارا هضبة الجولان المحتلة، وقال الأول: "إسرائيل قلقة من أن تخترق قوات معادية الهضبة؛ فهناك تصدعات فى النظام السوري"، وإن "قوات تنتمى للجهاد العالمى أشد عداءً لإسرائيل ترسخ وجودها"! هذا التصور يوحى بما يلي: "إسرائيل" التى تحتفظ بعلاقة دافئة مع نظام الأسد ضمن لها أربعين عاماً من الاحتلال الهادئ فى الجولان تستشعر قلقاً لأن قوات الجيش الحر وكتائبه المتنوعة الفكر والقوة وطأت الجانب السورى غير المحتل من الجولان، وسيطرت على أجزاء كبيرة، وأن احتمال انخراط "إسرائيل" فى حرب ضد هؤلاء واردة، وأن ما قاله بعض المحللين لقناة فرانس برس عن احتمالية تسليم جزء الجولان السورى غير المحتل إلى "حزب الله" واردة، وهى تعنى ضمانة لعزل القوات "المعادية" السورية عن "إسرائيل"، وأن احتمالية خوض "إسرائيل" لحرب فى الجولان أمر ربما وارد فى المستقبل القريب، ولا تريد تل أبيب أن تجبر فى لحظة ما على خوض حرب على جبهتين فى آن واحد معاً، وهى ربما ستجد نفسها "مضطرة" لاجتياز منطقة قوات "حفظ السلام" فى الجولان لإقامة سلامها الجديد بنفسها، وحينئذ لا تود أن تقاتل وظهرها مكشوف! وفى جملة الأهداف كذلك، أن "إسرائيل" تعتبر أن قدرتها على احتمال تعدد الزيارات الرسمية وعلى مستوى الرؤساء والأمراء إلى غزة قد نفدت وأنه لن يكون بوسعها الصبر على حلول الزعيم التركى أردوغان ضيفاً على غزة، والذى سيتلوه بالتأكيد زيارة رسمية من الرئيس المصرى مرسى لها، ما يعنى أن غزة ستكتسب حصانة ظرفية تحول بين "إسرائيل" واعتبارها ملعباً خلفياً لها تستهدف فيه من تشاء متى تريد، ويقوى من قدرة حركة حماس على المناورة فى الضفة الغربية أيضاً، بما لا تطيقه "إسرائيل"، ولا ترغب به. وليس سراً كذلك، أن تل أبيب كانت تتحين الفرصة للحد من قدرات حركات المقاومة الفلسطينية لاسيما حماس والجهاد فى غزة فى مجال تطوير صناعة واستيراد الصواريخ قصيرة المدى، والذى لوحظ أن عمليات التهريب القادمة بطرق مختلفة، أهمها عبر الصحراء والسفن من ليبيا فى الغالب ومن السودان بدرجة أقل، قد ضاعفت كثيراً من تلك القدرات، ومنحت الأجنحة العسكرية مساحات أوسع من المناورة العسكرية، وبدا أن القبة الحديدية التى فاخرت بها "إسرائيل" من قبل لم تعد قادرة على اصطياد تلك الصواريخ على بدائيتها، وقد رأت "إسرائيل" أن الوقت قد حان لتوجيه ضربة نوعية إلى تلك القدرات قبل فوات الأوان، ولا يفوت فى هذا الصدد التذكير بأن قدرات غزة والسودان أخطر لدى "إسرائيل" ألف مرة من المخاطر المزعومة عن قدرات طهران النووية، ليس من حيث القوة العسكرية وإنما من الإرادة السياسية الحاكمة لاستخدامها.. وقد تعتقد تل أبيب أن انعتاق حركة حماس من ربقة التحالف مع طهرانودمشق بعد إغلاق مكاتبها فى دمشق وسب قائدها من قبل التليفزيون السورى يعنى تحول الحركة باتجاه نظام آخر فى المنطقة لا تطمئن "إسرائيل" إلى نواياه مثلما تطمئن تل أبيب إلى طهرانودمشق. وإذا أضيف إلى ما تقدم قلق تل أبيب الشديد مما يحصل فى الأردن من اضطرابات ومن احتمال تمكن حلفاء حركة حماس من جبهة العمل الإسلامى وجماعة الإخوان، والتركيبة الديموجرافية للأردن ذاتها، وتوقع ألا تصبح أيام "إسرائيل" القادمة سعيدة؛ فإن توجيه ضربات استباقية لحركة حماس حتى دون أى استفزاز يذكر من حماس يصبح أمراً "متفهماً". وبالعودة إلى مصر، فإن تل أبيب لا ترغب فقط فى تحريك بعض البيادق السياسية ضد حكم الرئيس مرسى فقط، بل إنها وهذا خطير جداً فى الحقيقة استشعرت إرهاصات أزمة قاتلة بالنسبة لها من جانب مصر.. لم تقلق تل أبيب من حرب قادمة مع مصر، ولكنها تبدى قلقاً بالغاً من تحول استراتيجى هائل بدا أن حكم مرسى مقبل عليه، وهو مخالفة بند سرى يجعل من إعمار سيناء أمراً متعذراً. لقد أصبح هذا المنعطف هو أخطر ما تخشاه "إسرائيل"، لذا فقد عملت على تفجير سيناء عبر عدة محاور، وهذا سيكون إحدى أدوات تفجيرها، أعنى أن تل أبيب تسعى إلى تحقيق هدف عزل سيناء بإيجاد ثارات بين الأجهزة الأمنية وبعض القبائل، وتحريك دماها المرتبطة بها فى سيناء من المجموعات المخترقة، وأما المجموعات المتدينة غير المخترقة فدواؤها أن تظهر "إسرائيل" الرئيس مرسى عاجزاً عن الفعل، وبالتالى تمنح بعض الجماعات التى تريد مقاومة "إسرائيل" مبرراً للتحرك الانفرادى بما يعزز الشقاق بينها وبين الحكم المصري، ثم يستتبع ذلك بالضرورة قتالاً بينهما يحول دون تحقيق أى تنمية فى سيناء، ويضاعف من الجرح الداخلى المصري، ويدعوها للانكفاء أكثر على الذات.. اغتالت "إسرائيل" أحد أبطال حركة حماس اليوم، لكنها بالتأكيد ليست قادرة على رسم القدر؛ فالحركة قادرة على استخراج كنز آخر من جعبتها المليئة، وسيكون بطلها كما غيره مشعلاً ينير طريقها.. أما مصر؛ فبإمكانها تحويل هذا الاستهداف المقصود لكرامتها واختبار قدراتها إلى استثمار محسوب دقيق دون تهور، ولديها فى حافظتها ما يمكنها من الترجيح بين خيارات عدة، منها الترحيب بفتح مكتب رئيس لحركة حماس بقلب القاهرة، ومنها طرد السفير الصهيونى واستدعاء المصري، ومنها توسيع عملية سيناء واستخدام مبضع الجراح لتحقيق الهدف الأسمى من العملية وهو بسط سيادة مصر على كامل ترابها دون استفزاز القبائل أو استهداف الأبرياء، وإطلاق حملات دينية توعوية لغير المتورطين فى دماء المصريين، وكذلك لديها التلويح بإعادة النظر إلى حد التدويل فى قضية احتلال أم الرشراش (إيلات)، والأهم هو الشروع فوراً فى تنمية سيناء، وجعلها المشروع الإسلامى والقومى لمصر التحرير، وجمع الشعب حول هذا المشروع. ليست هذه هى المرة الأولى التى يكون بوسعنا فيها أن نحيل الانكسار انتصاراً ورفعة وفخاراً؛ فهلا انتهزنا منها ما يتاح؟