في قراءة للتقرير الثاني الذي قدّمه المحقق البلجيكي (سيرج براميرتز) إلى مجلس الأمن قبل عدة أيام ، والمتعلق بقضيّة اغتيال الحريري ، وهو التقرير الرابع منذ بدء التحقيقات الدولية بهذا الشأن، يتّضح أنهّ يحمل إشارات متعدّدة فيما يتعلّق بمسار التحقيق، المشتبه بهم، الوقت اللازم لإنهائه ، بالإضافة إلى مسألة التعاون السوري في إطار التحقيق. مسار التحقيق جاء التقرير هذه المرّة ليعطي الأولوية للجوانب التقنيّة و العمليّة المتعلّقة بعملية اغتيال الحريري، و كل ما يتعلّق بها من نظريات فيما يخص عملّية التفجير التي يؤكّد التقرير إلى حد بعيد بأنّها وقعت فوق الأرض و ليس تحتها. فقد جاء في التقرير أنّ اللجنة "تواصل تحقيقاتها لكن استنتاجها الأولي تشير استناداً إلى شهادات كثيرة جداً و الأدلة الجرمية التي جُمعت و تمت دراستها حتى الآن وبانتظار نتائج سلسلة جديدة من المقابلات الجارية حالياً وتحاليل الطب الشرعي، إلى وقوع انفجار واحد فوق الأرض". و أوضح التقرير أن "الانفجار ناجم عن عبوة ناسفة قوية جداً تحتوي على ما يوازي (1200) كيلوغرام على الأقل من مادة -تي ان تي- وتحتوي على مزيج من -تي ان تي- و -بي اي تي ان- و/أو متفجرات -ار دي اكس- البلاستيكية". و على الرغم من أنّ التقرير الحالي يذكر أنّه "تم إحراز تقدم كبير في التحقيق، وباتت اللجنة على وشك إنجاز الأعمال ذات الأهمية الحاسمة المرتبطة بمسرح الجريمة وموكب الحريري والأحداث المرتبطة (بالجريمة) التي حدثت في ذلك اليوم"، متوقعاً إنجازها "بحلول الخريف"، إلاّ أنّنا لم نلمس وجود اختراق قوي في هذا التقرير. و لعلّ طلب تمديد مهمّة اللجنة، و الذي تمّت الموافقة عليه لمدّة سنة أخرى يدفعنا للتشكيك بمدى صحّة ما ورد في التقرير من أنّه أصبح في مراحله النهائية. إيجابيات و سلبيات التقرير إحدى أبرز إيجابيات التقرير، التزام المحقق فيما يتعلّق بالجانب المهني و التسلسلي و البعد العملي البعيد عن الجانب الإعلامي و السياسي الذي كان ينتهجه سلفه، و الذي أدّى –برأيي- إلى نتائج كارثية في مسار و مضمون التحقيق الذي بات آنذاك أداة في يد الولايات المتّحدة و غيرها من الدول. و من إيجابيات التقرير أيضاً انّه يضع الأمور في نصابها، و لا يعمل على تقديم شيء أو حسمه دونما بينّة، على عكس ما فعله ميليس في التقريرين اللذين رفعهما إلى مجلس الأمن، و اللذين تضمنا العديد من الاتهامات و أسماء لمتّهمين و شهادات لشهود دون التأكد من صحّة أيّ منها، و دون تقديم أدنى دليل فيما يتعلّق بالمتّهمين و الشهود. في المقابل، فمن سلبيات التقرير الحالي عدم وجود استنتاجات حاسمة على الرغم من وضع المقدّمات الضرورية للوصول إلى استنتاجات مهمّة. و من السلبيات أيضاً، عدم طرح أي تصوّر واضح لسيناريو معيّن تم الاعتماد عليه في عملية الاغتيال، بالإضافة إلى عدم وجود فرضية قوّية تعتمد على دوافع معيّنة و وسائل محّددة توصل إلى متّهمين رئيسيين في عملية الاغتيال أو من خطّط لها، من نفّذ، من موّل، أو من ساعد. العامل السوري على صعيد التجاوب السوري مع التحقيق و بخلاف التقارير السابقة، ذكر (براميرتز) في تقريره هذا أن "مستوى المساعدة التي قدمتها سوريا خلال الفترة التي يغطيها التقرير كان مرضياً بصورة عامة"، موضحاً أن سوريا "تجاوبت مع جميع طلبات اللجنة، وذلك بشكل سريع، وتم الحصول في بعض الأحيان على أجوبة شاملة، و أنّ "الرئيس السوري ونائبه قدّما أجوبة مفيدة لمجرى التحقيق". و إذا كان الأمر كذلك، فإنّ هذا يدفعنا إلى التساؤل عن سبب عدم ذكر التحقيق لأي اختراق أساسي في مجريات الأحداث و المتّهمين، طالما أنّ الجانب السوري كان الحائل دوماً -وفق التقارير السابقة- دون الوصول إلى نتيجة حاسمة في التحقيق على حدّ زعمهم. و لم يشر التقرير - لا من بعيد و لا من قريب - إلى اتّهام سوريا أو غيرها، و هذا يقودنا إلى استنتاج أحد أمرين : أولاً: إمّا أنّ التحقيق قد توّصل إلى تحديد المتّهمين و المسؤولين عن عملية اغتيال الحريري، أو من ساعد على ذلك، و خطط و موّل، و لكنّ تمّ تأجيل الإعلان عنه رسمياً حفاظا على سرية التحقيق ، قبل تقديم آخر تقرير محتمل في الخريف القادم. و بالتالي فمن المرجّح طرح كل هذه الإشكاليات و الأسماء و الأدلّة النهائية دفعة واحدة في التقرير القادم. ثانياً: أن يكون التحقيق غير قادر على حسم أي من تلك العناصر كما سبق و ذكرنا، و بالتالي فإنّ الحل الوحيد الذي سيبقى أمامه هو المماطلة في التحقيق و إطالته ، وتقديم إضافات غير حاسمة و مشكوك بها. و بالتالي فقد تبدأ رحلة المماطلة هذه بدءاً من هذا التقرير و بعد موافقة مجلس الأمن على تمديد مهمة لجنة التحقيق الدولية في اغتيال رفيق الحريري لسنة اضافيّة في قرار يحمل الرقم 1686 ، و توسيع صلاحيتها بما يضمن تقديم المساعدة للسلطات القضائية اللبنانية في تحقيقاتها في حوادث الاغتيال والتفجيرات الأخرى التي شهدها لبنان منذ العام 2004. المواقف اللبنانية من التقرير ينقسم اللبنانيون من الناحية السياسية بشكل عام إلى قسمين في مواقفهم من التقرير. فتيار الأكثرية قد أُصيب في الآونة الأخيرة بعدد من الضربات السياسية القاضية نتيجة الاستثمار المسبق لقضية اغتيال الحريري التي حصلت في وقت سابق، و العمل على تعبئة الرأي العام اعتماداً عليها، و نتيجة لعدد من الادعاءات التي ثبت تكذيبهم بها، و منها مسألة المقبرة الجماعيّة التي قيل إنّ سوريا مسؤولة عن ارتكابها، و قد تبيّن مؤخراً وفقاً لما أثبته الطب الشرعي و الخبراء الهولنديين أنّ المقبرة هي مقبرة عادية يعود تاريخ أحدث رفات فيها إلى ما يقرب ال 300 سنة ! و قد أدّت اللهجة العلميّة المنطقية للتقرير الحالي مع خلوّها من متّهمين إلى انكماش تيّار الأكثرية بعد أن كان يعتمد التوظيف السياسي للتقارير الثلاثة السابقة. و في المقابل، يبدو موقف المعارضة أكثر صلابة الآن بعد الإخفاقات التي حصلت لتيار الأكثرية بقيادة الحريري الابن في جملة من الأمور، و خاصّة بعد عملية "مفاجأة الفجر" التي أدّت إلى اكتشاف خليّة تابعة للموساد عملت على التخطيط و التنفيذ لعدد من الانفجارات التي ضربت الساحة اللبنانية مؤخراً ، و بعض القيادات اللبنانية و الفلسطينية، و هو ما يشير إلى أنّ الإسرائيليين لا يخافون لا من وجود لجنة تحقيق دولية، و لا من قضاء دولي، و لا من تواجد أجنبي في لبنان، و أنّ لهم أجندتهم الخاصّة و أهدافهم التي يسعون إلى تحقيقها عبر البوابة اللبنانية المصدر الاسلام اليوم