منذ أزيد من ثلاثة أشهر والموظفون الفلسطينيون لم يذوقوا طعم راتبهم الشهري، ولنا أن نتخيل معاناتهم في توفير الحاجيات اليومية لأسرهم من مأكل ومسكن ودواء، سيما وأن معظمهم ينحدر من أسر فقيرة تعيش ظروفا صعبة تجعل من توفير لقمة العيش أغلى أمانيها. ليست المرة الأولى الذي يتعذر على حكومة فلسطينية صرف رواتب الموظفين، بل تكرر المشهد مرارا مع جل الحكومات السابقة، وإن كانت الأسباب الموجبة لذلك تختلف من حالة لأخرى، فإن الهدف من وراء ذلك كان دائما واحدا، وهو تركيع الشعب الفلسطيني وإذلاله للنيل من حقوقه الوطنية الثابتة في إطار الصراع المفتوح مع الكيان الصهيوني الغاصب. لكن، ورغم نسبة البطالة المرتفعة في الأراضي الفلسطينية، والتي تصل إلى أكثر من 30 في المائة، ورغم واقع الفقر المدقع الذي يرزح تحته أكثر من 63 في المائة من الشعب الفلسطيني، تبقى كرامة هذا الشعب شامخة لا تقهر، ويبقى صموده صلبا كالجبل لا ينكسر. إن شعبا صمد لأكثر من خمسين عاما أمام همجية الاحتلال والقتل والتشريد، ليس بشديد عليه أن يصمد شهورا تحت الجوع والحصار نصرة لقضيته العادلة ووفاء لشهدائه الأبرار، ولسانه يلهج: نموت شرفاء ولا نركع أذلاء. يخطئ البعض، حينما يحمل مسؤولية عدم صرف الرواتب للحكومة التي تتزعمها حماس، وقد يكون هذا الخطأ مقصودا حينما تبنى عليه أحكاما سياسية خاطئة، يتم توظيفها في غمرة الضغوطات المستمرة على حركة حماس لتقديم التنازلات المطلوبة منها إسرائيليا وأمريكيا، وللأسف الشديد، هناك أطراف فلسطينية تحاول جاهدة، ولأسباب سياسية صرفة، إقناع الناس بأن سبب معاناتهم هو تعنت الحكومة وفشلها في إيجاد البدائل، وبذلك تنضم من حيث تدري أو لا تدري إلى الجبهة المعادية للشعب الفلسطيني، وتنتصر لمصلحتها الفئوية الضيقة على حساب المصلحة الوطنية الواسعة. ومن العجب، وأنا أتابع جلسات المجلس التشريعي الفلسطيني عبر التلفزيون الفلسطيني، حينما انقطع الاتصال، لنقل وقائع المسيرة التي نظمها فصيل فلسطيني معارض في مدينة غزة للمطالبة بدفع الرواتب، ولنصرة الرئيس أبو مازن، ليعود بعد ذلك التلفزيون لنقل الحدثين معا على شاشة واحدة، مع إعطاء الأفضلية بالصوت لمظاهرة غزة، حينها تساءلت، لماذا لم يحدث هذا الأمر في السابق، حينما كانت المظاهرات تخرج احتجاجا على الفساد أو غياب الرواتب في عهد الحكومات السابقة؟ ولماذا يتم إعطاء الأولوية الإعلامية لنشاط فصيل سياسي على حساب جلسة المجلس التشريعي التي تناقش قضايا الوطن برمته؟ ما يعانيه الاقتصاد الفلسطيني من ضعف وهشاشة هو نتيجة حتمية لاتفاق أوسلو، الذي كرس تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي، وجعل مصير السلطة الفلسطينية ومعها الشعب الفلسطيني رهينة بيد المساعدات الأجنبية الأمريكية والأوربية، مما ضيق من حرية القرار السياسي الفلسطيني، وجعل حركته لا تخرج عن دوائر ثلاث: دائرة الاعتراف بالكيان العبري، دائرة وقف المقاومة ودائرة الاستسلام لمشاريع التسوية التي تطرحها أمريكا باسم الشرعية الدولية. وحينما حاولت الحكومة الفلسطينية المنتخبة ديمقراطيا، الخروج عن هذه الدوائر الثلاث (لا للاعتراف، لا لوقف المقاومة ولا للاتفاقات غير العادلة)، وفاء لبرنامجها الانتخابي الذي منحها الشعب الفلسطيني الثقة بناء عليه في انتخابات شهد العالم كله بنزاهتها، جندت "إسرائيل" وأمريكا كل الحلفاء والعملاء عبر العالم لمحاصرة الحكومة، ومعاقبة الشعب الفلسطيني على اختياره الحر، ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه الخروج عن بيت الطاعة الأمريكي، وهذا يبرهن أن المساعدات المالية التي انهالت على السلطة الفلسطينية قبل انتخاب حماس، كان لها ثمن سياسي باهظ. لقد تحركت الحكومة الفلسطينية في كل اتجاه، وطرقت كل الأبواب، الدولية والعربية، وكلنا نتذكر الجولات الطويلة العريضة التي قامت بها وفود حكومية لجل الدول العربية لاستجداء المساعدات المالية لصرف رواتب الموظفين، والحفاظ على سلامة المجتمع الفلسطيني، وقد أثمرت هاته الجهود في توفير بعض المال، وهو الآن لدى الجامعة العربية، بحسب تصريح حكومي، ينتظر الوسيلة الملائمة لإيصاله لمستحقيه من الشعب الفلسطيني، بعدما رفضت كل البنوك المحلية والإقليمية والدولية تحويله خشية تعرضها للعقوبات الأمريكية الصارمة. وهنا يجب أن نسجل أيضا وبإيجابية، المساعي التي قام بها الرئيس أبو مازن في هذا الاتجاه من خلال الجولات التي قادته لروسيا وأوربا، والتي تكللت بوعود فرنسية لحل المشكل في أقرب الآجال. أمام هذا الواقع المر، لا يسع الفلسطينيين إلا أن يعتمدوا على أنفسهم في بناء اقتصاد وطني متحرر من قيود أوسلو، يستجيب للحاجيات الذاتية للشعب الفلسطيني، ويخفف عنه عبئ البطالة واليأس، ويجعله سيد قراره. المصدر : العصر