يتم تصوير الديمقراطية في مصر بأنها شيءٌ من الخيال، أو هي الخيال ذاته الذي يستحيل أن يصير واقعاً. مثل هذا التفكير، الذي يقود إلى مثل هذا القول - وإن بصياغات مختلفة - هو تجديف عكس التجربة التي تحققت على أرض الواقع، وإصرار على تجاهل مجريات الأحداث القريبة جداً التي برهنت على أن الديمقراطية أسهل وصفة للممارسة، وأكثر نظم الحكم أماناً وعدالةً مهما كانت إفرازاتها لأنها تصحح أخطائها، وتقوي نفسها مع استمرار استحقاقاتها، والأهم أنها تبنى وعياً شعبياً، ومجتمعاً عفياً يصعب التلاعب بهما، أو كسرهما. كيف لا نكون جاهزين بعد للتعددية الانتخابية، والتنافسية السياسية، والممارسة الديمقراطية، ونحن بالأمس القريب قدمنا نماذج للعالم - وليس نموذجا واحداً - في فهم الديمقراطية وتنفيذها عندما أُتيح للشعب وقواه وتياراته السياسية والأيدلوجية المختلفة ممارساتها؟. لم يكن ذلك في عصر الفراعنة، ولا في ظل الاحتلالات التي مرت على مصر منذ القدم، وحتى زوالها منتصف القرن الماضي، إنما كان منذ 19 مارس 2011، وحتى توقفت المسيرة، أو خرجت عن الجوهر، واكتفت بالشكل. مارست مصر ديمقراطية بعد يناير أثارت إعجاب العالم، وفخر المصريين بأنفسهم، وبأنهم شعب لديه جذور الحضارة والوعي، وأن كل المظاهر السلبية التي يتم انتقاده بشأنها مجرد أمور طارئة بسبب إقصائه عن أن يكون مالكاً لمقدراته، صانعاً لحاضره، ومخططاً لمستقبله. العبارة اللطيفة في أحد الأفلام الشهيرة التي يكررها الممثل في مواقف مختلفة قائلاً : "في أوروبا والدول المتقدمة"، وهدفها الإسقاط على واقع سيء عندنا، قياساً على واقع مماثل أفضل عندهم، هذه العبارة صارت بعد يناير جديرة بأن تكون صياغتها، وعن حق، كالتالي: "في أوروبا ومصر والدول المتقدمة"، فرغم مظاهر فوضى وسلبية مرفوضة واكبت فترة الانتقال الديمقراطي الأولى، إلا أن الحياة تغيرت للأحسن في معظم جوانبها العامة والخاصة، فقد فُتحت الساحة السياسية لمختلف الآراء من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وعُرضت الأفكار والتوجهات والمواقف باعتدالها وبعض تطرفها، وتسابق المرشحون من كل تيار، وجاؤوا من كل حدب وصوب، وتحدثوا وتناقشوا وعقدوا الندوات والمؤتمرات بكل حرية وشفافية، وتعرضوا للأسئلة الناعمة والقاسية والمحرجة في استفتاء الإعلان الدستوري، وانتخابات البرلمان، وأول انتخابات رئاسية جادة تشهدها مصر، والاستفتاء على دستور 2012، الذي رغم المآخذ عليه، لكن ما يهمنا في سياق فكرة المقال أن صوت معارضيه المرتفع ضده، وحريتهم في نقده، وتفنيد سلبياته، والتهجم عليه، وحشد الناس للتصويت ضده بحرية كاملة، كان مظهراً غير مسبوق لا يوجد إلا في أعتى الديمقراطيات وأعرقها في العالم. ولأول مرة في تاريخ مصر لم يكن أحد يعلم هل سيمر الإعلان الدستوري، أم لا؟. ونتيجة الاستفتاء على الدستور ظلت معلقة حتى إعلانها، وكنت أظن أنه سيسقط؟. ولم يكن أحد يعلم هل ستنجح هذه القائمة البرلمانية بغالبية المقاعد، أم تلك؟. وهل سينجح هذا المرشح الفردي، أم لا؟. ومن سيفوز من المرشحين ال 13 للرئاسة في الجولة الأولى؟. ومن سيفوز في جولة الإعادة، وكان كل صوت له قيمة في ترجيح هذا أو ذاك؟. وشهدت انتخابات الرئاسة تعددية وتنوع سياسي وفكري حقيقي، فكيف اليوم يصعب أن تتوفر التعددية، وكيف لا نكون مستعدين لها بعد؟، هل نتقدم للأمام أم نرجع للخلف؟. كل الذي تحدثنا عنه كان مساراً عكسياً لنتائج الانتخابات والاستفتاءات قبل يناير حيث كانت نتائجها معروفة قبل أن تتم، أليس اليوم شبيه بذلك الماضي الذي كان محسوماً؟!. إذاً، الديمقراطية، وفي زمن قياسي طُبقت على أرض الواقع، ولم يظهر أنها خيال، أو سحر، بحاجة لساحر أمهر من كوبرفيلد، أو سحرة المغرب، أو سحرة فرعون أنفسهم. كيف لا نكون جاهزين للتعددية، ومصر تزخر بعقول جبارة لا حدود لقدراتها في خدمة شعبها والإنسانية؟، الملايين العشرة في الخارج كل عقل فيهم مشهود له بالتميز والتفوق والإبداع، وفي الداخل هناك ملايين أكثر من هذا النوع الخلاق. هل كان يمكن لهذا الشعب أن يظل متمسكاً بالحياة في ظل أشد أنواع الأوضاع والظروف قسوة وإحباطا تمر به في معيشته إلا إذا كان شعباً جباراً يستحق الأفضل؟. هناك شعوب لو مرت بأزمة خفيفة فإنها تُصاب باليأس والإحباط والذبول الذي لا تخرج منه. أحمد نظيف رئيس الوزراء الذي أسقطته يناير ضمن من أزاحتهم قال في 2008 في واشنطن إن مصر ليست مستعدة للديمقراطية بعد!، وهو نفس القول الذي كرره اللواء عمر سليمان في حوار مع تلفزيون أمريكي خلال ثورة يناير!، هذا القول القديم الجديد سقط تماماً بعد 11 فبراير 2011 حيث ضرب الشعب المصري مثلاً رائعاً للعالم بأن الديمقراطية أيسر أنواع الإبداع السياسي في الممارسة، وليس هناك أفضل منها حتى اليوم كمنظومة حكم تتسم بالعدالة، والقدرة على حسم الخلافات بين فرقاء السياسة والمجتمع عبر تصويت واختيار الهيئة الناخبة، أو الجمعية العمومية للشعب. الذين يقولون اليوم عكس ذلك، هل يساورهم قلق من مخرجاتها لو تم احترام آلياتها وتطبيقها بشكل أمين ونزيه ومنصف؟، هل يسعون للسلطة دون منافس أو منافسين أقوياء، مع أن المصلحة العامة ومصلحتهم الخاصة في خوض تنافس حقيقي؟، والفوز لن يكون له طعم ولا قبول عريض وتقدير خارجي إلا بمعركة انتخابية سياسية جادة تتوفر فيها كل شروط العملية الديمقراطية. مثل هذه الأقوال إهانة لشعب مارس الديمقراطية منذ عام 1923 وحتى 1952 في عدة تجارب حرة، وعبر خلالها عن اختياره الحر أيضاً، وجاءت النتائج على عكس ما كانت ترغب فيها الملكية الحاكمة، ثم انقطعت المسيرة حتى يناير 2011، وإن كانت بعض التجارب البرلمانية شهدت شعاعاً محدوداً من الحرية، لكن كان يتم غلق نافذته سريعاً. بعد ينايرعاشت مصر الديمقراطية، كما لم تعشها من قبل، وأهم أهداف 30 يونيو هو صيانة الديمقراطية بسبب مخاوف عدم السقوط مجدداً في حضن استبداد من نوع آخر، ثم يُقال اليوم إن الوقت ليس وقتها، والزمن ليس زمنها، والظرف ليس مناسباً لها!!. [email protected]