في ليلة من ليالي التليفزيون ، الذي يفرض عادة علي الكثير من المثقفين قدرا من الهموم ، زاد قدر الهم عن حده بالشكل الذي استوجب وقفة مع النفس ورغبة في التعبير عن هذا القدر الهائل من الهم . ففي مساء الثامن من نوفمبر 2005 م ، وهي الليلة السابقة مباشرة لانتخابات أعضاء البرلمان المصري احتشد ، أو حشد ، علي شاشة القناة الفضائية المصرية الأولي جمع من اليساريين المصريين علي اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم ، الدكتور رفعت السعيد رئيس حزب التجمع والأستاذ صلاح عيسي رئيس تحرير جريدة القاهرة والأستاذ مجدي الجلاد رئيس تحرير جريدة المصري اليوم وكذلك رئيس تحرير روز اليوسف وبعض اليساريين من الأكاديميين وغير الأكاديميين إلي جانب مقدم البرنامج الدكتور عمرو عبد السميع الذي حشد هذا الجمع وجهز العديد من الأسئلة التي توجه ما أسماه بالحوار، الذي هو اسم البرنامج ، وجه علي ضوئها الحوار الذي قصد به الهجوم علي التيار الإسلامي برمته وعلي جماعة الإخوان المسلمين بشكل خاص بغية التأثير علي قطاع من الرأي العام المصري عشية الانتخابات عله يؤثر علي مؤيدي هذه الجماعة . ولا أدري هل تصور هذا الحشد أنه يقدم قربانا ربما لم يطلبه منهم أحد من التيار الليبرالي المسيطر علي الحياة السياسية في مصر أم أنهم يسعون لانتهاز أي فرصة للتعبير عن توجهاتهم المعادية للتيار الإسلامي ؟ أو أن الاستمرار في السماح لهذا البعض بالتواجد الثقافي والسياسي حتي الآن بعد أن بدت عورات أو فشل التجربة التي روجوا لهافي الماضي ليس إلا لإحداث التوازن مع التيار الإسلامي ليتفرغ الليبراليون لتنفيذ توجهاتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ؟ وفي ظل استثمار ما يضفي علي هؤلاء الليبراليين سماحهم بقدر من الحرية والسعي للديمقراطية التي تسهم في تجميل الصورة أمام أدعياء الديمقراطية الذين نصبوا من أنفسهم الأوصياء عليها من سادة الغرب الجدد ، وكذلك الهجوم علي التيار الإسلامي الموصوم بالإرهاب الذي هو هاجس هؤلاء السادة . أو بطرح آخر هل يدرك هذا الحشد من اليساريين ، الذين يعبرون عن أنفسهم فقط لاعن التيار اليساري كله ، أنهم بأغلب أفكارهم وأحزابهم وتوجهاتهم يراد لهم وبهم أن يكونوا مجرد أداة تسير في خدمة تيارات وتوجهات أخري ؟ ولعل ما يرجح هذا التفسير ولو بشكل نسبي أن هذه القلة من اليساريين قد استغرقت كل الوقت والجهد في هذه الحلقة وفي غيرها في الهجوم علي التيار الإسلامي وجماعة الإخوان المسلمين دون محاولة الترويج لمرشحيهم من حزب التجمع أو الحزب الناصري اللهم إلا إن كانوا يرون أن مرشحيهم من القوة والقبول الشعبي بشكل لايحتاج إلي ترويج ، أو أن ما يضمن لهم ذلك هو تشويه التيار الإسلامي لدي جموع المصريين ليفسح لهم المجال وهي سلسلة من محاولاتهم التاريخية التي كان ينبغي أن يتأكدوا أنها لم ولن تجدي نفعا لدي شعب يشكل الدين مكونا أساسيا في ثقافته ولعل هذا هو السر في إعلانهم عدم المشاركة السياسية في أي انتخابات . ولا أدري لماذا لم يستقرئ هؤلاء التاريخ والواقع ويدركون حقيقة أغلب الرأي العام المصري من آرائهم وأفكارهم وبالتالي تنظيماتهم السياسية ، فمنذ أن نشأ التيار اليساري في مصر علي يد كوادر يهودية في مطلع العشرينات من القرن الماضي مثل هنري كورييل وهليل شفارتز ولم يقتنع بأفكارهم من المصريين سوي قلة محدودة للغاية ومن خلال كوادر يسارية راعت الواقع المصري الثقافي مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي ، وحاولت الصحف اليسارية الوقوف مع حقوق بعض فئات العمال والفلاحين ومع ذلك لم تنعم بتأييد قدر كبير منهم بسبب البعد الديني بشكل رئيسي . وظل الحال هكذا حتى كانت الحرب العالمية الثانية حين اضطر الإنجليز أن يغضوا الطرف عن نشاط اليسار المصري خشية إغضاب السوفييت مما قد يؤثر علي موقفهم في الحرب كما حدث في الحرب الأولي في أعقاب الثورة البلشفية. وفي نفس الوقت خفف الإنجليز من حصارهم للتيار الإسلامي نسبيا كي يقوم بالتصدي للتيار اليساري ،الذي تنامي نسبيا بفعل الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي أوجدتها الحرب ، لا بديلا عنهم ولا عمالة لهم كما يحلو للبعض أن يصف ، حتى ولو قبلوا دعما ماديا من المندوب السامي المستر كلايتون ، بل تمشيا مع مبادئهم ، التي توافقت مع مصالحهم في هذه الظروف المؤقتة ، والتي تمثل أساسا في منهج التيار الإسلامي والإخوان المسلمين بالتالي لموقف التيار اليساري من الدين بشكل عام ولكونه يستلهم مبادءه من أفكار تجربة بعيدة عن واقع البلاد ومصالحها مهما كان بريقها النظري أو تلاقي أهدافها مع شعوبنا ، وكان أتباع التيار الإسلامي يدركون أن الإنجليز يكيدون ويدبرون لهم فحافظوا علي منهجهم في المقاومة ضد وجودهم في مصر وأطماعهم في تمكين اليهود في فلسطين . كما لم يثبت خلال هذه الفترة سعي جماعة الإخوان لصدام مع جماعات اليسار وإنما اقتصر الأمر علي تعرية أفكارهم المغلفة بهدف العدل الاجتماعي و موضحة كيف أن المنهج الإسلامي يتضمن مفهوما واسعا لهذا البعد ، وحتى لا يقال أن شريحة من المصريين قد استقوت بمحتل علي شريحة مصرية وطنية أخري مهما كان شكل الخلاف أو هدفه . وتشكلت العديد من الجمعيات والجماعات السرية اليسارية الهزيلة بعد الحرب العالمية الثانية كجماعة حدتو وغيرها في محاولة من أعضائها وموجهيها من اليهود وغيرهم لحصر النضال الوطني في حدود إقليمية ولينشغل عما يراد فعله في فلسطين ، ولم يبد هذا البعض من هذا التيار دورا تجاه هذه القضية إلا في حدود مقالات ساخنة مستخدمين مصطلحاتهم مثل الاستعمار والإمبريالية والرجعية وغيرها ، في حين كان الدور الواضح للتيار الإسلامي الذي عبرت عنه بوضوح جماعة الإخوان هو تكوين قوة شبابية توجهت طوعا إلي الميدان الفلسطيني وفاقت في دورها جيش مصر النظامي أحيانا كما أكدت العديد من الدراسات الأكاديمية ، وشاركت في المقاومة ضد الإنجليز في مصر ، ولولا تآمر الكثير من القوي الداخلية والخارجية في محاصرة دور هذه القوة أو الميليشيات الإسلامية ، كما يحلو للبعض أن يسميها ، والتي مازال اليهود يخشونها علي الساحة الفلسطينية وغيرها ، لما تمكن اليهود من تثبيت أقدامهم والإعلان عن قيام دولتهم نتيجة لهذا التآمر . وفي أعقاب حدث يوليو 1952 م الذي قاده العسكريون ، والذي لم يكن لأي من قادته أي رصيد يذكر في مقاومة الاستعمار قبله ، سوي الدور الذي لعبه أنور السادات وعبد المنعم عبد الرؤوف والحضري والمجموعة التي اتصلت بعزيز المصري وحاولت الاتصال بالألمان في ليبيا لضرب الإنجليز في مصر إبان الحرب الثانية ، استعان هؤلاء بجماعة الإخوان المسلمين التي باركت التغيير لتشكل لهم الظهير الشعبي الذي لم يسهموا في صنعه . وبعد أن تمكنوا من السلطة ونجحوا في تحقيق قدر من التأييد الشعبي لقاء مساعيهم في تحقيق قدر من العدل الاجتماعي ، ونجحوا في تضخيمه عبر وسائل الإعلام التي سيطروا عليها ووجهوها ، سعوا لإبعاد الإخوان أولا عن الساحة السياسية من خلال نسيج مسرحي تمثل في حادث المنشية ، ثم تخلصوا من كل رموز القوي السياسية ليخلو الميدان لهم فحكموا بشكل مطلق وتنكروا لكل المبادئ التي تضمنها برنامجهم عند وصولهم إلي الحكم . علي أن المحور الأهم الذي سعت هذه المجموعة من اليساريين لإبرازها ، في محاولة منها لركوب الموجة المعاصرة ، هو التركيز علي إلصاق تهمة الإرهاب ، التي تمثل الشغل الشاغل علي الصعيدين الخارجي والداخلي ، بالتيار الإسلامي عامة وبجماعة الإخوان علي وجه الخصوص ، سواء بطرح تفسير خاطئ لتاريخ هذه الجماعة منذ نشأتها ، أو التركيز علي دور سيد قطب وأفكاره وأنه ، من خلال كتابه معالم في الطريق ، قد سعي لتكفير الحكام والمحكومين علي السواء ، وهو اتجاه لا يخلو في عمومه من خداع ومداهنة واستعداء . فالتنظيم السري أو الجهاز الخاص الذي أسسته جماعة الإخوان حول الحرب العالمية الثانية تأسس بغرض مقاومة الاستعمار البريطاني في مصر والتصدي لأطماع اليهود في فلسطين ، كما أن هذه الفترة قد شهدت تشكيل تنظيمات وطنية شبه عسكرية سرية أخري في مصر مثل حزب الوفد ، وحزب مصر الفتاة بزعامة أحمد حسين ، والحزب الوطني الجديد بزعامة فتحي رضوان ، وبعض الجماعات اليسارية ، وشاركت كل هذه التنظيمات في موجة الاغتيالات السياسية كحادثة اغتيال أحمد ماهر رئيس الوزراء التي اتهم فيها فتحي رضوان ، وحادثة اغتيال أمين عثمان التي اتهم فيها أنور السادات ، وحوادث اغتيال بعض كبار الضباط الإنجليز . كما أن اغتيال النقراشي وهو الحادث الأبرز الذي اتهمت فيه جماعة الإخوان والذي قام به أحد الشبان المنتمين إليها قد تم في ظل حل النقراشي للجماعة ووجود أغلب أتباعها في السجون ، أي أنه قد تم بفعل فردي وليس بقرار من الجماعة وهو أمر تصر القوي المعادية للاتجاه الإسلامي علي إغفاله . كما أن الحكومة قد قامت باغتيال زعيم الجماعة دون أن يحاول أحد فتح ملف اغتيال القوي السياسية النظامية للبعض قبل محاكمتهم لأنه ملف ملئ بالأحداث والتجاوزات التي امتلأت بها الفترات اللاحقة . أما حادث المنشية الذي يلصق بجماعة الإخوان 1954م فهي مسرحية أكدتها العديد من الدراسات الأكاديمية والتي حيكت بغرض إبعاد الإخوان والانفراد بالسلطة ، وهو اتجاه مازالت تغذيه الكثير من القوي الخارجية والداخلية حتى الآن والتي مازالت تري خطرا في التيار الإسلامي علي وجودها ومصالحها . ولم يلتفت أحد من كافة التيارات حين الحديث عن سيد قطب واتجاهه لتكفير الحاكم والمحكوم في كتابه معالم في الطريق أنه حكم لظرف مؤقت ووفق حالة مؤقتة وليس حكما يتبناه التيار الإسلامي ولا ينبغي أن يتبناه أحد قبله أو بعده ، فقد أملته سياسة القهر والاستبداد التي تسيدت عصر عبد الناصر وبخاصة ضد أتباع هذا التيار والتي تشابهت مع الظروف التي دفعت ملهمه أبو الأعلى المودودى في الهند ، وتمثلت هذه الأفكار في مجموعة من صغار السن من أبناء المنتمين للجماعة الذين عايشوا سياسة القهر في مجتمعهم الذي شهد تحولا نسبيا إلي العدل الاجتماعي ، فانزوي هذا الشباب تحت مراقبة صارمة تلوح بالقهر وتحرم علي الجميع مد يد المساعدة لهم في ظل غياب عائلهم ومصادرة كل مواردهم ، وكانت المساعدة في حد ذاتها تهمة تستوجب العقاب الصارم من قبل النظام ، وهي أمور تعارض تقاليد المصريين وثقافتهم الدينية والاجتماعية الموروثة ، فتكون من هذا الشباب ، لا الكبار الذين كانوا يعانون مرارة السجون ، تشكيلات تتولى العنف وتشجع عليه . وإذا كان ذلك قد شكل مرضا يستوجب العلاج فهو علاج الأسباب والدوافع مع علاج الظاهرة علي حد سواء سعيا لدعم دور الدولة واحترام هيبة النظام والقانون وهي أمور تساعد علي التنمية والاستقرار والتحضر ، كما أنه لا ينبغي أن يلصق بجماعة الإخوان تهمة الإرهاب الذي لم تؤيده أو تدعو إليه في أي من فترات وجودها بعد أن زالت تنظيماتها السرية بزوال الاحتلال ، وكذلك لا ينبغي أن تتحمل تبعات تنظيمات أسهمت ظروف وأسباب أخري في إيجادها ، ولكن في نفس الوقت فإن عليها أن تشارك في الحياة السياسية بمقتضيات وظروف العصر وبشفافية ووضوح ومن خلال برنامج لا يكتنفه غموض . ومن عجيب المتناقضات أن هذه المجموعة من اليساريين يصرون علي اتهام جماعة الإخوان والتيار الإسلامي برمته بعدم القدرة علي مخاطبة الآخر في حين كان هجومهم يؤكد أنهم هم الرافضون لمخاطبة غيرهم ، كما أنهم يتهمون التيار الإسلامي بمعاداة الديمقراطية دون أن يدركوا ، أو لايريدون ذلك ، أن بعض الدراسات الغربية قد أقرت بتضمن المنهج الإسلامي للديمقراطية أو هو الأقرب إليها . ولم يفطنوا إلي إدراك الجميع بمعاداة أفكارهم هم للديمقراطية التي اضطروا للتحول إليها ، فهل يريدون لأحد أن يصدق الجمع بين الناصرية والديمقراطية كما هو شعار الحزب الناصري ؟ وهل يحتوي تاريخ الفترة الناصرية علي أي نموذج تطبيقي لأي شكل للديمقراطية ؟ أم أن المسألة مجرد شعارات مؤقتة كما كانت شعارات حركة يوليو ؟ . إن علي الجميع أن يستفيد من التاريخ والواقع بتطوراته ، فجماعة الإخوان التي يصرون علي تسميتها بالمحظورة تمثل اتجاها شعبيا لا يستطيع أحد تجاهله برغم كل التضييق والحظر والقهر الذي يحاصرها منذ نشأتها ، وتمثل بعمقها الثقافي دعامة للحفاظ علي أبعاد التقائنا مع شعوب أمتنا العربية والإسلامية بعد أن ثبت أن الخيار القومي لم يكن خيارا جماهيريا ، وتحافظ علي خصوصيتنا التي تمثل المصل الواقي من صهر العولمة ، في حين تظل الكثير من القوي السياسية المصرية غيرها محصورا في إطار صحفي ، وتمثله زعامات تبحث من خلال الصحف عن قواعد شعبية وليست قواعد تفرز زعامات وتعبر عنها صحف كطبيعة نشأة الأحزاب والقوي السياسية الطبيعية لا المقلوبة. أما عن شعار مرشحي التيار الإسلامي " الإسلام هو الحل " والذي يراه هذا الجمع من اليساريين شعارا مبهما يستوجب التوضيح فإن جانبا من رؤيتهم ينطوي علي سوء نية وكذلك سوء فهم أو تعمد إنكار احتواء المنهج الإسلامي لرؤى عديدة تسهم في تحقيق العدل الاجتماعي علي كافة الأصعدة . علي أن ما ينبغي مراعاته علي مرشحي ومنتسبى التيار الإسلامي هو توضيح جوانب هذا الشعار وبشكل يراعي ظروف العصر ومقتضياته ووسائله ومدي إسهامه في حل مشكلات الشعب وحتى لا يواصل غيرهم اتهامهم بالغموض وفي ظل إطار واضح من احترام الدولة والسعي لدعم دورها. لقد أصبح من أهم الواجبات علي كافة القوي والتيارات الالتقاء مهما كان شكل الاختلاف في الفكر أو الرأي لطرح تصور مرحلي وبعيدومن خلال قنوات مشروعة وواضحة يسهم من خلاله الجميع في حل مشاكل بلادنا والأخذ بيدها إلي حيث ينبغي أن تكون من الحضارة الإنسانية ، إن هم بلادنا ينبغي أن يفوق كل الهموم ، ولن نفلح في الحوار مع العالم المتحضر دون أن نفلح في حوار بعضنا البعض ، أليس هذا أمل أسمي يدعونا للارتفاع فوق هذه الأساليب ؟ .