ما أشبه الليلة بالبارحة، وقد أعاد الله تعالى عوائد منَّته على هذا الشعب الكريم، وتلك الأمة العظيمة؛ فراحت تُحطِّم قيود الذِّلّة والعبودية، بمطارق الإرادة والنفس الأبية، وها هى مصر أرض الكنانة تنطلق على سَجِيّتها، وقد عصفَت فى رأسها رياح النَّخْوة، وتمرَّدَت فى نفسها مواقف البطولة، فهى تتأهَّب لإعلان قوّتها، وإعلاء كلِمَتها، وتحصين عزّتها. لقد أراد الله تعالى لبلادنا أن تنهض بعد كبوة، وتَفيقَ بعد غَفْوة؛ فيتقلَّد شعبُها أمرَها، ويختار بنفسه من يقوده، ويبنى دولتَه، ويحمل رايتَه، ويُعزّ كلمتَه. وقد ذكر المولى عزَّ شأنه معايير اختيار رئيس الدولة فى آية قرآنية وحيدة فريدة على حدِّ علمى هى قوله تعالى حكاية عن نبيه يوشع بن نون عليه السلام: ﴿وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة فى العلم والجسم والله يؤتى ملكه من يشاء والله واسع عليم﴾ [البقرة:247]. فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على خمسة معايير أساسية، تمثل شروطًا دقيقة لا بد من توافرها فى رئيس الدولة، وقائد الأمة: المعيار الأول: الانتخاب فإن بنى إسرائيل اعترضوا على ولاية «طالوت» بأنهم أحق بالملك منه، مستندين إلى اصطفاء الجمهور إياهم؛ ولذا أجابهم بأنه أرجح منهم لأن الله اصطفاه عليهم، فإذا لم يوجد هذا الاصطفاء فلا بُدَّ للشعب أن يختار من يحكمه، ويدير شئونه، ويتكلم بلسانه، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تولى الرجل على جماعة لا يرضون ولايته عليهم؛ فقال: «من أمَّ قومًا وهم له كارهون فإن صلاته لا تجاوز تَرْقُوَتَه»، أخرجه الطبرانى. المعيار الثانى: الوجاهة فإن «طالوت» كان من عوام بنى إسرائيل لا من وجهائهم، لذا رأوا أنفسهم أحق بالملك منه، وربما ترتبط الوجاهة بما يسميه علماء النفس اليوم ب «الكاريزما»، ونعنى بها: الحضور، والجاذبية، والقدرة على التأثير فى الآخرين؛ فإن الرئيس بالنسبة للدولة كالوجه بالنسبة للجسد، فكما أن الإنسان يواجه الناس ويعاملهم بوجهه، فإن الدولة تواجه الدول وتخاطب الأمم بقائدها ورئيسها. المعيار الثالث: النزاهة فإن بنى إسرائيل اعترضوا على ولاية «طالوت» بقولهم: ﴿ولم يؤت سعة من المال﴾؛ فأرادوه غنيًّا يستعفف بماله عن مال الشعب، ويستغنى بملكه عن أملاك الدولة؛ فلا يحمله فقره وحاجته إلى التطلع إلى ما ليس له بحق، فيظلم ويجور، فالمراد ما ينتجه الغنى من القناعة والعفاف والنزاهة، لا مجرد تحصيل المال، وهو معنى الغنى الحقيقى الذى بينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النَّفْس»، رواه الشيخان. المعيار الرابع: سعة العلم فإن الله تعالى ميَّز «طالوت» على بنى إسرائيل بأن زاده بسطة فى العلم، فالعلم يجعل الحاكم أصيل الرأى، قادرًا على التمييز بين الحق والباطل، وتمحيص الصواب من الخطأ، والاختيار بين البدائل المتعددة، والعلم المراد هو ما يفيد فى تدبير شئون البلاد، وتحصيل مصالح العباد، من العلم بالشريعة الإلهية فى الحكم، إضافة إلى علوم الإدارة والسياسة وغيرها. المعيار الخامس: قوة العزم فقد زاد الله تعالى «طالوت» بسطة فى الجسم؛ ليكون قويًّا يواجه العدو، ويجابه الصعاب، ويكافح الشدائد، ويتحمل النوائب، ليصل بأمته إلى ساحل الأمان. تلك خمسة معايير أرشدنا إليها القرآن الحكيم، تصلح كلها أن تكون محكًّا يختبر عليه من رشح نفسه لهذا المنصب العظيم، وكل فرد منا مطالب بأن يبذل ما فى وسعه وطاقته فى الانتقاء والاختيار والمقارنة؛ استبراءً لدينه، وصيانة لأمانته، ولا يغتر بدعوة طائفية أو حزبية أو فئوية، مهما كان الداعى إليها، أو القائم عليها، ولكن التجرُّد فى النظر، والموضوعية فى الاختيار، والله الموفِّق. [email protected]