لابد أن تستند الرؤية والبرنامج والمشروع، كمعيار لانتخاب الرئيس أو المسئول أو القائد، إلى إمكانات تتوفر بالفعل في صاحب الرئاسة أو المرشح لها.. فقد يكون لديه تصورات إصلاحية نظرية رائعة، لكنه لا يملك أي إمكانات لتطبيقها على أرض الواقع، أو نقلها من العالم السماوي إلى العالم الأرضي، أو تنزيلها من أبراج الأحلام إلى عالم الحقائق ودنيا الناس.. لذلك كان من الأهمية أن يمتلك المرشح إمكانات شخصية وبيئية، يمكنه من خلالها تحقيق حلمه، ورؤيته، ومشروعه. قال تعالى عن ذي القرنين :"إنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا". (الكهف: 85 و84).. أي أنه كان يحظى بالأسباب التي تساعده على العمل، وإنجاز المهمة؛ لذلك قال: "مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْر". ?الكهف:95?. أي: ما منحني ربي من إمكانات خير. فالمطلوب هنا توظيف الإمكانات الذاتية والجماعية، وهي إمكانات لا يحرم الله منها أيضا، فكل مُمكن بما اُستودع فيه من ملكات ومواهب وقدرات من الخالق.. جاء في سورة القصص: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ". (77).. أي أن الله تعالى يرضى لك أن تستعمل ما وهبك أو آتاك من سائر نعمه، وسابغ فضله، وهو كثير، فمطلوب منك أن تفتش عنه، وأن تحسن إدارته. فكل إنسان قد تزود من الله تعالى بإمكانات مهما كنت تراها ضئيلة أو محدودة.. يستوي في ذلك: الغني والفقير.. الصحيح والمريض.. الرجل والمرأة.. الكبير والصغير.. لكن المهم أن تشكر الله تعالى عليها، وأن تحسن تخطيطها، وإظهارها، وتوظيفها، واستثمارها. لقد كان جاذبا في هذا الصدد أن الملك في قصة يوسف عليه السلام قال له: "إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ". (يوسف:54).. أي: مُتَمَكِّنٌ مِمَّا أَرَدْت.. و"مكين" وصف تكرر في القرآن الكريم أربع مرات، وهو صيغة مبالغة من الفعل "مكنَ". ومعناه: ذو المقام الرفيع، والقوي، والمتمكن، والمتين. ولا وجه للمقارنة بين تمكين حاكم مصر ليوسف، وتمكين الله تعالى له.. قال سبحانه: "وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ".(يوسف:56). السؤال الآن: ما الإمكانات الأساسية (الذاتية) التي يجب أن تتوفر فيمن يترشح للقيادة والرئاسة؟ 1 - الحفظ والعلم: أشار إليهما يوسف عليه السلام بقوله: "اجْعَلْنِي عَلَى? خَزَائِنِ الْأَرْضِ.. إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ". (يوسف:55).. إذ برغم أنه من المحسنين، وأنه من أنبياء الله المخالصين، والأتقياء الورِعين، إلا أن ذلك لم يكن شفيعا وحده له في القيادة والإدارة بل كان لابد معه من أشياء محسوسة في دنيا الناس.. لذلك قال: "إني حفيظ عليم".. والحفظ هنا: حفظ الأمانة، والعلم يعني: الكفاءة.. وقيل: حفيظ للخزائن عليم بوجوه مصالحها. وقيل أيضا: حفيظ لما استودعتني، عليم بما وليتني . وكذلك قيل :إني حفيظ لما وليت عليم بأمره. وتوضح الآية أنه لا بديل أمام من يتوسم في نفسه أنه الأقدر على تحمل أمانة المنصب إلا التقدم له، بهدف الإصلاح والنهوض، وإلا اُعتبر آثما، لأن المنصب سيذهب لغيره الأقل حفظا وعلما، وبالتالي سيكون الأقل إفادة، وخدمة للناس، وهنا يتحمل وزر ما تقاعس عن التقدم للناس. 2- العلم والجسم: القوة والخبرة أو الكفاءة نجدهما بشكل واضح أيضا في اختيار الله تعالى لطالوت ملك بني إسرائيل الذي قادهم إلى النصر، والخروج من حالة الذِلة والخضوع للعماليق المحتلين..قال تعالى :" إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ".(البقرة:243). فلما بعث الله لهم طالوت ملكا، اعترضوا عليه، لكن نبيهم قال لهم :"إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ".(البقرة:247).. وقد كان هذا يكفي..اصطفاء الله تعالى له.. لكن القرآن يراعي مدارك الناس.. قال نبيهم :"وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ".. فكان طالوت أكثرهم علما وكفاءة وخبرة وأمانة، وأصحهم جسما، وأقواهم بنيانا. هكذا ينبغي ألا يكون المتقدم للرئاسة طاعنا في السن، أو مريضا بمرض مزمن، لأن الرئاسة تحتاج إلى مجهود وافر، وتواجد بين الناس، على مدى الأربع والعشرين ساعة. يُروى أنه لم يكن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فراش يأويه، فقيل له :"يا أمير المؤمنين..ألا نتخذ لك فراشاً؟ فقال: "لا.. ما لي وللنوم، إن نمت في الليل أضعت نفسي، وإن نمت في النهار أضعت رعيتي". وكان يقول :"أنا لا أنام.. الليل لربي أصلي، والنهار للرعية أرعى أمورهم". ونلاحظ هنا أنه عندما تراجعت معايير العلم والجسم في طالوت، وتوافرت فيمن هو أكفأ منه من رعيته، وأفراد جيشه.. في داود عليه السلام..إذ تمكن من قتل جالوت.. قال تعالى "فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ".(البقرة:251). هنا انتقلت القيادة فورا، بشكل سلمي، من طالوت إلى داود، وقبل الأول -بكل أريحية- تداول السلطة، والنزول عن القيادة، لغير عارض سوى وجود من تنطبق عليه معايير العلم والجسم بشكل أكفأ منه.. في حياته.. وبدون وفاة، أو انقلاب، أو ثورة عليه..كما يحدث مع كثيرين من الحكام، ممن يستطيبون المقام فوق مقعد الرئاسة، ويستديمون انحناء الناس لهم، ويستنكفون انزواء السلطة عنهم، علما بأن طالوت لم يكن نبيا، وإنما كان قائدا عسكريا (ملكا). 3- القوة والأمانة: معيار التفاضل بين الناس عند الله هو التقوى..قال تعالى :"إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"..(الحجرات:13)..لكن التقوى سر مخبوء بين العبد وربه.. لا يعلمه إلا الله سبحانه.. ومن ثم يكون التفاضل عند الناس، وحتى في بيوت الأنبياء، بالقوة والأمانة، وهو ما أشارت إليه إبنة شعيب عليه السلام بقولها لأبيها عن موسى عليه السلام :"يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ".(القصص: 26). وهكذا ينبغي أن يشيع هذا الاختيار، وأن يكون ثقافة بين الناس، عند إسناد أي وظيفة للآخرين..وهو ترشيح الأجدر، والأكثر كفاءة، وأمانة.. فهي معادلة متوازنة..رؤية المرشح لنفسه، ورؤية الناس له، والنجاح باجتماع الرؤيتين في آن واحد: أن يكون قويا، أمينا، علما بأن موسى هو كليم الله، وصفيه.
والقوة عكس الضعف، وهي شرط لازم لتحمل المسئولية..والأمانة عكس الخيانة..قال تعالى :"يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أمَانَاتِكُمْ وَأنتُمْ تَعْلَمُونَ".(الأنفال:26). وعندما لا تتوفر القوة في المرشح للولاية فلا يتم توليته حتى لو كان نبيا أو صحابيا..ففي الصحيح عند مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال :"يَا أَبَا ذَرّ إِنَّك ضَعِيف، وَإِنَّهَا أَمَانَة، وَإِنَّهَا يَوْم الْقِيَامَة خِزْي وَنَدَامَة إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَ "، والسبب أن أبا ذر قال: "يا رسول الله : وليت فلاناً، وفلاناً وتركتني"؟! فالضعيف لا يمكن أن يكون عادلا..مع أن الإمام العادل يتقدم "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله".(رواه البخاري). و"الأمانة" شرط لازم، ولا يجزئ عنها الكفاءة بينما صاحبها لص أو مرتش أو ظالم..فالكفاءة مع الأمانة شرط أساسي لكل من يترشح للولايات، وهذا ما ينبغي أن نراعيه في انتخابنا للحاكم أو القائد..أيا كان.. لذلك طمأن الرسول صلى الله عليه وسلم أبا ذر إلى أن الأمانة تجتمع فيه، لكنه ليس قويا بما يكفي لتحمل المسئوليات الجسام المترتبة على المنصب.."إِنَّك ضَعِيف، وَإِنَّهَا أَمَانَة". والقوة في كل ولاية -كما قال العلماء- بحسبها.. فالقوة في الحرب ترجع إلى الشجاعة والخبرة، وفي القضاء تعود إلى العدل والفطنة..وهلم جرا. ويؤكد الموصلي أن اجتماع القوة والأمانة في زمانه قليل.. حتى إنه ذكر عدداً من الأمثلة من تولية ولاية الحرب للقوي الشجاع، وإن كان فيه فجور، من عهد الرسول والخلفاء الراشدين، إلا أنه عند الحاجة للأمانة، كما في تحصيل الأموال، تُقدم الأمانة على القوة. ومن جانبه، اهتمّ ابن تيمية ،لإتمام هذه الولايات، بمعرفة الأصلح لاستخدامه عليها، من خلال تحديد مقصود الولاية بدقة، وطريق تحقيقه، ثم اختيار القادر على القيام بها، وبمقاصدها، الأمثل فالأمثل، استناداً إلى معياري القوة، والأمانة، وبحسب كل ولاية، إذ إن بعض الولايات قد لا تقع الكفاية فيها بواحد، بل تحتاج إلى عدد من الرجال. [email protected] المزيد من مقالات عبدالرحمن سعد