قرأت عنوان كتاب لأحد المشايخ يقول "صم عن الدنيا وافطر علي الموت" وفي رأيي أن هذه مصيبة المسلمين الكبري وسبب رئيس لتخلفهم فالله سبحانه وتعالي خلقنا في الدنيا لاستعمارها وتعميرها واستثمار خيرات الله فيها قال تعالي: ¢وَإِلَي ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهي غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا¢ "هود/61". قال الشيخ عبد الرحمن بن السعدي رحمه الله في قوله تعالي ¢ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ¢. أي استخلفكم في الأرض. تبنون وتغرسون وتزرعون وتحرثون ما شئتم وتنتفعون بمنافعها وتستغلون مصالحها. انتهي "تيسير الكريم الرحمن". فالإنسان مخلوق في الأرض لاستعمارها لا للصوم عنها. الصوم في الدنيا يكون عن المعاصي والآثام وأكبر معصية ألا نعمر الكون بنواميس الله في الخلق. وعندما صام المسلمون عن تعمير الأرض ولبسوا الخيش والمرقع. وتفرغوا للموالد والرقص الصوفي أو اكتفوا بمظاهر الدين وتركوا التعليم. والصناعة. والزراعة. والتجارة والتقنية. تخلفوا. الله سبحانه وتعالي قدر في الأرض أرزاقها وما يصلح معايش أهلها وأمرنا بالعمل والأخذ بالأسباب العلمية والتقنية والأخلاقية كما فعل ذو القرنين وكما قال الله تعالي عنه ¢ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً "83" إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءي سَبَباً "84" فَأَتْبَعَ سَبَباً "85" "الكهف/83-85". فبين الله تعالي أنه ممكن في الأرض وأعطي الأسباب فاتبع الأسباب. والله تعالي مكننا في الأرض بالعقيدة الصحيحة. والمال الوفير. والموقع المتميز. ولكننا لم نأخذ بالأسباب. بل اكتفينا بالاستهلاك والترف والوظائف الإدارية وتركنا غير المسلمين يعمرون الكون كل هذا من سريان عدوي الصوم عن الدنيا. الله تعالي يقول: ¢إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَي الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً"7" "الكهف/7". وقال تعالي: ¢إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً"30" "الكهف/30". وقال تعالي: ¢فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً¢ "الكهف/110". وقدم العمل الصالح علي العبادة. والعمل الصالح دليل العقيدة الصحيحة. وقال تعالي: ¢ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً¢ "المؤمنون/51". فالزراعة من العمل الصالح. والصناعة من العمل الصالح. وتطبيق العلم والتقنية من العمل الصالح. وإصلاح البيئة من العمل الصالح. والصوم عن هذه الأعمال يقعد عن العمل الصالح. والرسول صلي الله عليه وآله وسلم يقول: ¢لئن يأخذ أحدكم حبله. فيأتي بحزمة حطب فيبيعها فيكف الله بها وجهه. خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه¢ رواه البخاري ومسلم. وقال صلي الله عليه وآله وسلم ¢أن خير الكسب كسب يدي عامل إذا نصح¢ رواه احمد. وقال صلي الله عليه وسلم ¢ما أكل احد طعاما قط خير من عمل يده. وان نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده¢ رواه البخاري. وقال صلي الله عليه وآله وسلم: ¢ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أوإنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة¢ رواه البخاري. والغرس للشجر. والشجر لا يثمر سريعا وقد لا يأكل منه غارسه. ولكن له به أجرا وصدقة جارية والمثل يقول غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون. قيمة العمل وقال الفضيل بن عياض ¢لايزال العالم جاهلا بما عَلِم حتي يعمل به. فإذا عمل به كان عالما¢ "اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي" وقال الخطيب البغدادي رحمه الله لطالب العلم: ¢إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه. وإجهاد النفس علي العمل بموجبه. فإن العلم شجرة. والعمل ثمرة. وليس يعد عالما من لم يكن بعلمه عاملا¢ وقيل: ¢العلم والد والعمل مولود. والعلم مع العمل والرواية مع الدراية¢ "اقتضاء العلم العمل - مرجع سابق". هذه بعض أقوال علماء المسلمين العالمين. إذاً من الخطأ الفادح أن نقول صم عن الدنيا وافطر علي الموت خاصة أن بالموت ينقطع العمل إلا من الصدقة الجارية التي عملها المسلم في حياته. والعلم النافع الذي نشره وعلمه وألفه في حياته. وولده الصالح الذي صلاحه ثمرة من ثمرة حياته. قال الشاعر: اعمل بعلمك تغنم أيها الرجل لا ينفع العلم إن لم يحسن العمل والعلم زين وتقوي الله زينته والمتقون لهم في علمهم شغل وحجة الله يا ذا العلم بالغة لا المكر ينفع فيها ولا الحيل تعلم العلم واعمل ما استطعت به ولا يلهينك عنه اللهو والدجل هكذا فهم شعراء الأمة أهمية العلم وسيدنا يوسف عليه السلام طلب العمل بما علم فقال: ¢قَالَ اجْعَلْنِي عَلَي خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظى عَلِيمى¢ "يوسف/55" حفيظ للصادر والوارد والأمانة. عليم بكيفية التخزين وحماية المخزون وتوزيعه. وزكي الله تعالي ذلك وقال: ¢وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ¢ "يوسف/56". وقال عن ذي القرنين: ¢ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءي سَبَباً "84" فَأَتْبَعَ سَبَباً"85" "الكهف/84-85". فالتمكين في الأرض نعمة كبري من الله لعباده المؤمنين فمتي يفيق هؤلاء الذين يصرفون المسلمين عن الدنيا باسم الدين وباسم الزهد والصوم عن الدنيا؟ فالمسلم إن لم يزرع في الدنيا فلن يحصد في الآخرة وسيصبح والعياذ بالله من الخاسرين.