يقول الله تعالي في محكم تنزيله : "بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرى مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءى عَجِيبى" "قّ:2" إن الذين يعجبون وينكرون وكذلك يستعظمون ويستبعدون اختيار الله تعالي بعض البشر لتحمّل الرسالة لايقدرون الإنسان قدره. فالإنسان مؤهل لتحمّل الأمانة العظمي» أمانة الله التي أشفقت السموات والأرض والجبال من حملها. قال جل شأنه :"إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً" "الأحزاب:72" والذين استعظموا اختيار الله من البشر رسلاً نظروا إلي المظهر الخارجي للإنسان. نظروا إليه علي أنه جسد يأكل ويشرب وينام. ويمشي في الأرض لتلبية حاجاته قال جل شأنه : "وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكى فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً" "الفرقان:7" ولم ينظروا إلي جوهر الإنسان. وهو تلك الروح التي هي نفخة من روح الله. قال سبحانه "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" "الحجر:29" وبهذه الروح تميز الإنسان. وصار متفرداً. واستخلف في الأرض. وقد أودعه الله تعالي الاستعدادللاتصال به عن طريق تلك النفخة العلوية التي ميزته. فلا عجب أن يختار الله تعالي واحداًمن الجنس البشري صاحب الاستعداد للتلقي. فيوحي إليه ما يهدي به إخوانه كلّماأظلم عليهم الطريق. وما يقدم به إليهم العون كلّما كانوا بحاجة إلي العون» علاوة علي أن الرسل يُعدّون إعداداً خاصّاً لتحمُّل النبوة والرسالة ويصنعون صنعاً فريداً قال جل شأنه: "واصطنعتُكَ لِنفسي" "طه41" أي: اخترتك لرسالتي ووحيي» وأصل الاصطناع : اتخاذ الصنيعة وهو الخير تسديه إلي إنسان0 والرسالة لا تأتي للرسل اعتباطاً حاشا لله فالله تعالي أعلم حيث يجعل رسالته0 يقول الإمام أبو حيان الأندلسي "654 745" هجرية في تفسيره البحر المحيط في قوله تعالي: "بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرى مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءى عَجِيبى" "قّ:2": إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب . وهو أن ينذرهم بالخوف رجل منهم قد عرفوا صدقه وأمانته ونصحه . فكان المناسب أن لا يعجبوا . وهذا مع اعترافهم بقدرة الله تعالي0 ويقول الإمام القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن : قوله تعالي: "بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرى مِنْهُمْ" "أن" في موضع نصب علي تقدير لأن جاءهم منذر منهم. يعني سيدنا محمداًُ صلي الله عليه وسلم والضمير للكفار» وقيل: للمؤمنين والكفار جميعاً. ثم ميز بينهم "فَقَالَ الْكَافِرُونَ" ولم يقل فقالوا. بل قبح حالهم وفعلهم ووصفهم بالكفر. وقوله سبحانه : "هَذَا شَيْءى عَجِيبى" العجيب الأمر الذي يتعجب منه. وكذلك العجاب بالضم. والعجاب بالتشديد أكثر منه. وكذلك الأعجوبة. وقال قتادة: عجبهم أن دعوا إلي إله واحد0 ويقول الحافظ ابن كثير في تفسيره : تعجبوا من إرسال رسول إليهم من البشر كقوله جل جلاله: "أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَي رَجُلي مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقي عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرى مُبِينى" "يونس:2" أي وليس هذا بعجيب فإن الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس أيضاً0 وجاء في تفسير الجلالين : رسول من أنفسهم يخوفهم بالنار بعد البعث "فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا" الإنذار "شَيْءى عَجِيبى"0 والعجب والتعجب: حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء. ولهذا قال بعض الحكماء: العجب ما لا يعرف سببه. ولهذا قيل: لا يصح علي الله التعجب» إذ هو علام الغيوب لا تخفي عليه خافية. يقال: عجبت عجباً. ويقال للشيء الذي يتعجب منه: عجب. ولما لم يعهد مثله عجيب0 ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره "تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن" : "بَلْ عَجِبُوا" أي: المكذبون للرسول صلي الله عليه وسلم. "أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرى منهم" أي: ينذرهم ما يضرهم. ويأمرهم بما ينفعهم. وهو من جنسهم. يمكنهم التلقي عنه. ومعرفة أحواله وصدقه. فتعجبوا من أمر. لا ينبغي لهم التعجب منه. بل يتعجب من عقل من تعجب منه0 وأورد الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير "عجبوا" حصل لهم العجب بفتح الجيم وهو الأمر غير المألوف للشخص "قَالَتْ يَا وَيْلَتَي أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزى وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءى عَجِيبى" "هود:72" "قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ 000" "هود:73" فإن الاستفهام في أتعجبين استفهام إنكاري . وإنما تنكر استحالة ذلك لا كونه موجب تعجب » فالمعني هنا: أنهم نفوا جواز أن يرسل الله إليهم بشراً مثلهم » قال تعالي : "وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَي إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً" "الإسراء:94" پ وعبر عن الرسول صلي الله عليه وسلم بوصف منذر وهو المخبر عن شر سيكون للإيماء إلي أن عجبهم كان ناشئاً عن صفتين في الرسول صلي الله عليه وسلم إحداهما أنه مخبر بعذاب يكون بعد الموت . أي مخبر بما لا يصدقون بوقوعه . وإنما أنذرهم الرسول صلي الله عليه وسلم بعذاب الآخرة بعد البعث كما قال تعالي: "000إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرى لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابي شَدِيدي" "سبأ:46" والثانية : كونه من نوع البشر » حيث فضح شبهتهم الباطلة حين قال الكافرون: هذا شيء عجيب0 لقد استحال عندهم أن يرسل الله إليهم أحداً من نوعهم » ولذلك وصف الرسول صلي الله عليه وسلم ابتداء بصفة منذر قبل وصفه بأنه منهم ليدل علي أن ما أنذرهم به هو الباعث الأصلي لتكذيبهم إياه وأن كونه منهم إنما قوي الاستحالة والتعجب0 لقد كان الكفار في الأمم الماضية إذا جاءهم رسول من عند الله ينكرون عليه ذلك » وكذلك فعل كفار قريش وغيرهم من المشركين لما جاءهم رسول الله صلي الله عليه وسلم بالرسالة من عند الله » وكان إنكارهم قائماً علي مزاعم باطلة منها أن الرسل يجب أن يكونوا من الملائكة لا من البشر0 لقد اتخذت بشرية الرسل عليهم السلام حجة للذين لا يريدون أن يؤمنوا » والرسول مبلغ عن ربه » ولابد أن يكون من جنس القوم الذين أرسل إليهم» ولابد أن يكون قد عاش بينهم فترة قبل الرسالة واشتهر بالأمانة والصدق حتي لا يكذبوه» وفي الوقت نفسه هو قدوة» ولذلك لابد أن يكون من جنس قومهپلأنه سيطبق المنهج عملياً أمامهم » ولو كان من جنس آخر لاعترضوا واحتجوا وقالوا لا نطيق ما كلفتنا به يا رب لأن هذا رسول الله مخلوق من غير مادتنا فالملائكة أجساد نورانية لطيفة .وهم مجبولون علي الطاعة» وبالمقابل فمن أرسلته منهم رسولاً إلينا سيكون مجبولاً علي الطاعة لأن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون0 كما زعموا أن رسالة الله تعالي إن كانت تجوز للبشر فينبغي أن تنزل علي أكابر القوم وسادتهم فقالوا : "وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَي رَجُلي مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمي" "الزخرف:31"پوقصدوا بالقريتين مكةوالطائف» وقصدوا بعظيمي القريتين أحد رؤوس الكفر الوليد بن المغيرة المخزومي . والصحابي الشهيد عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه ولم يكن وقتها قد أسلم حيث تأخر إسلامه إلي ما بعد حصار الطائف في السنة التاسعة من الهجرة0 وقد ردَّ الله تعالي عليهم بقوله : "أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضي دَرَجَاتي لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرى مِمَّا يَجْمَعُونَ" "الزخرف:32" يقول الشيخ الإمام عبد الله سراج الدين في كتابه "حول تفسير سورة ق" : المعني : إن رحمة الله تعالي التي يرحمهم بها في تيسير أسباب معيشتهم وكسبهم خيرات الدنيا وأرزاقها ليست عائدة إلي تدبيرهم » بل إلي تدبير الله تعالي وحكمته » فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر . ويرفع الناس درجات في أمور الدنيا ومواهبهم وعقولهم ومداركهم وأفكارهم » فكل واحد يتجه إلي عمل يستحسنه ويهواه ويكسب منه ويتربح » وفي ذلك حكمة ارتباط حاجاتهم إلي بعض » فكل واحد منهم هو محتاج إلي الآخر» وفي هذا تدبير وتصريف العليم الخبير وذلك ليس موكولاً إليهم » فكيف بالرحمة الكبري والنعمة العظمي التي يتوقف عليها صلاح العالم في الدنيا والآخرة وهي الرسالة الإلهية وإيتاء النبوة وإنزال الوحي الإلهي الذي به سعادة الدنيا والآخرة وصلاحهما » كيف يكون ذلك موكولاً إليهم؟! بل إن ذلك راجع كله إلي الله تعالي وحده العالم بكل شيء . والعليم بمن هو أهل لذلك » وبمن هو ليس بأهل لذلك . وهو جل شأنه الحكيم في إرسال الرسل وتخصيصهم بالرسالة دون غيرهم فالله أعلم حيث يجعل رسالته0